ثقافة الحمير (الجزء الرابع)

تعالت صرخات التلاميذ في صفوفهم خوفًا أن تكون المدرسة تعرضت إلى قصف صاروخي من مكان ما، على استحالة ذلك، واتسعت أعين أولئك (المخترعين ذهولًا)، كذلك رعبًا، وهم ينظرون إلى صفهم من نافذته، في مكانهم في الملعب، لقد انفجرت المفرقعات الفاشلة التي صنعوها بأيديهم انفجارًا عنيفًا لم يتوقعه أحدهم، وكان من نتيجته أن دمَّر طاولة المعلمة تدميرًا شديدًا لتتطاير قطع خشبية منها في كل الاتجاهات، ولو أن المعلمة لم تَغِبْ هذا اليوم، لكانت خرجت بإصابات فادحة لن يكون علاجها هينًا، ولن يكون بقاؤها في المستشفى بسببها قليلًا، بل سيطول بها فترة لا يستهان بها، هذا إن كان حظها حسنًا ووصلت إلى المستشفى!
فَبِقُوَّة هذا الانفجار الذي أطاح بطاولة المعلمة وشق كرسيها نصفين غير متساويين، كان من الراجح أن تلقى المعلمة مصرعها في الصف مع كل الشظايا التي ستخترق جسدها!! وبطريقة ما، وصل الخبر إلى المعلمة في اليوم نفسه، بل بعد لحظات ربما من دوي الانفجار، وهذا يؤكد لنا أن أحدهم يحمل في ذهنه بعض ملامح هذه الثقافة التعيسة بالفعل، إذ إن المعلمة لن تبتسم لهذه (المزحة الطريفة) قطعًا، بل لا بد لها من ردة فعل ليست بالهينة، وقد كان ذلك، إذ اتصلت المعلمة بالمخابرات، كون المسألة تتعدى محاولات الاعتداء إلى محاولات القتل المباشر!
ولم يمض سوى اليسير من الوقت إلا ودورية أمن في المدرسة تسأل عن التلاميذ بالأسماء، لتلقي القبض على عدد منهم، متوعدة الباقين بأن دورهم قادم لا محالة في التحقيق، ولم يكن التحقيق مع من قُبِضَ عليهم سهلًا على أية حال من الأحوال، وكانت ساعات من الرعب التي رأوها، وساعات من الرعب في انتظار زملائهم. ولا نعرف لماذا لم يصبر هذا الأحمق قبل أن يقوم بإبلاغ المعلمة، لعلهم يتمكنون من حل الموضوع وديًا؟ لكننا نعلم أن فاعليات القرية ووجهاءها تدخلوا بقوة، ولم يهدؤوا إلا بتنازل المعلمة عن حقها بعد أن أفهموها الموضوع، وأنه خطأ من التلاميذ وغباء، لم يقصدوا منه سوى إصدار صوت مخيف فحسب، وأنهم ملامون وبشدة، لكن العقاب في يدها، في العلامات، وليس في مخافر الأمن والتعذيب للحصول على اعترافات بأمور لم تخطر في بال أحد من التلاميذ، وكان أن تم حل الموضوع بالفعل هنا، بعد أن خيَّم الكابوس المرعب فوق رؤوسهم جميعًا، المعلمة والتلاميذ والإدارة والأهل جميعًا، وما كان ذلك إلا بسبب ثقافة الحمير التي حملتها المعلمة منذ البداية تجاه التلاميذ بأنهم حمير لأنهم أصدقاء الحمير، وثقافة مماثلة في أذهانهم بوسيلة عقاب وتربية لم تخطر في بال أحد من قبل قط، وثقافة لا تقل تميزًا في رأس من أخبر المعلمة مباشرة بأن تلاميذها حاولوا (قتلها)!
وكان لثقافة الحمير أن تستمر في حياة البشر! وكان لها أن تشمل اتجاهات عديدة لا حصر لها، وكأنك تتساءل بدهشة عارمة بعدها: من أين أتى هؤلاء الحمقى البلهاء إلى عالمنا؟ ذلك اليوم كنت وأختي في سيارتي، ومعنا طفلها الصغير، في مشوار ما في منطقة ما، واتخذنا في عودتنا الطريق الدولي السريع، لأختار أبطأ خط لأنطلق بسيارتي فيه، أي بحدود 60 كيلومترًا تقريبًا أو 70، وإذ بسيارة من نوع البيك آب تكاد تصل إلينا بغتة، وكأنها الموت من عالم خفي أتانا، إذ ينطلق صاحبها بها بسرعة تزيد عن سرعتنا بضعفين ونصف، وفق تقديري طبعًا! وبغض النظر هل أخطأت الرقم أم أصبت، إلا أن الأخ أثبت لنا أنه يحمل لواء ثقافة الحمير وبشدة، فهذا الخط مخصص لمن يريد أن ينطلق ببطء،وسيارته تكاد تسابق الرياح، وبلمح البصر ضغطت دواسة البنزين عن آخرها لتجمد سيارتي ثانية أو اثنتين قبل أن تنطلق بسرعة متزايدة، والبيك أب يكاد يدركنا، وسائقه بكل معاني الحمرنة يضغط البوق، وكأنني أستطيع إخفاء سيارتي من أمامه عبر السحر المتقدم الذي تتميز به، ولم أفعل ذلك! كنت أشعر بالرعب، على الطفل وأمه، وأخشى بحق أن أجد أمامي سيارة بطيئة فجأة، أو تنزل سيارة ما من مفرق من دون أن يؤمن سائقها طريقه جيدًا، فأخذت أضغط بوق سيارتي بدوري، تنبيهًا لهؤلاء لو وجدوا، واعتراضًا على سائق البيك أب الأحمق، وعيني بين النظر أمامي والنظر في خط السرعة المتوسط لعلي أستطيع الفرار من الوحش الثائر خلفي، وكنت قد أدرت شارة سيارتي ناحية اليسار، ولكن لم يفكر أحد هناك في التوقف لنستطيع النجاة، ولكنْ، ما يزال السائق خلفنا مصرًا على (إتحافنا) بثقافة الحمير التي يعتنقها حتمًا، فما كاد الخط يخلو من سياراته، ورغم أنني بدأت أغير اتجاهي نحوه، انطلق هو نحوه بسرعته الخيالية تلك، لأنجو من حادث آخر كاد يتحقق، فصرخت به من نافذة سيارتي، واصفًا إياه بالجحش، رغم أنني لا أسب عادة، لكنني في هذه المواقف لا أرى أنني مخطئ إطلاقًا في السباب، بل إنني أراه واجبًا كل الوجوب!
وقريبًا مما أذكر، حادثة لم أشهدها، لكني سمعتها ممن أثق فيه وفي كلامه، كان الأخ عائدًا بسيارته من منطقة بعيدة، وإذ بسيارة تقودها فتاة تنزل من مفرق ما بسرعة خيالية، وتتجاوز خطَّي سرعة دفعة واحدة ليكون من المستحيل على صاحبنا الفرار منها، فكان أن ضربت سيارته من الخلف ضربة قوية، وكان توقف السيارتين هنا أمرًا طبيعيًا، إلا أن الأمر غير الطبيعي أن الفتاة غادرت سيارتها، ومن المعتاد أن تبقى وتدعي الانهيار أو تبكي، أو تتصل بأحد أفراد عائلتها، فهذا حادث، وفيه ضرر لسيارة أخرى، وربما ضرر لأحد الركاب فيها.
استغرب صاحبنا ما يحصل، لكن وقر في ذهنه أن الأخت قادمة لتعتذر، فشعر ببعض الخجل لذلك،خاصة أنه كان ملتزمًا دينيًا بشكل جيد، ولا يكلم البنات عادة، ويغض النظر كما أمره الله،لكنه؛هنا؛بوغت فعلًا بهذه الفتاة تمد رأسها من نافذته لتصرخ في وجهه سائلة إياه: هل هو أعمى مثلًا لا يرى، أم ماذا؟ وهنا نسي صاحبنا كل قواعد اللياقة والذوق،بل لم ينسها لكنه وجد ألا داعي لها إطلاقًا، فانطلق في (بهدلة) معتبرة نزلت كلماتها فوق رأس الأخت كالصواعق، ولا أسف عليها بكل تأكيد!
ولنترك المسرعين في سياراتهم والمسرعات، لكن لنبق ضمن مجال السيارات، في هذه المقالة المتسلسلة، لنذكر أيامًا صدر فيها قانون منع السيارات التي هي على المازوت من السير، ووجوب تحويل كل موتورات السيارات لتكون على البنزين، وإذ بسائق نعرفه أراد استدرار عطف الركاب،النساء تحديدًا، بحديثه عن طفله المسكين، الذي يصرخ جوعًا، وأبوه لا يستطيع تأمين احتياجاته من الحليب، وذلك لأن موتور البنزين غالي الثمن، كلفه ما يملك وما لا يملك، واضطر به إلى أن يستدين،وثمن البنزين نفسه قاسٍ جدًا، ولا يخدم في السيارة مثل المازوت، والطفل يبكي، والطفل جائع، والطفل يريد الحليب، والأب لا يستطيع شراء الحليب،وبعض هؤلاء النساء تدمع أعينهن تأثرًا، وكلهن يدفعن له أكثر من الأجرة المعتادة، وذلك من باب (الحزن على الطفل المسكين)، بل إن بعضهن كُنَّ يعطينه ثمن علبة من الحليب إضافة إلى أجرته كسائق، والمسكين عيناه تدمعان بدوره، تأثرًا بالمبادرات الكريمة. وربما نسأل ما الرابط بين هذه الحادثة وبين ثقافة الحمير؟
والإجابة بكل بساطة لا تتمثل إطلاقًا في أن أحد الحواجز الأمنية استوقف الأخ ذات مرة، وطلب أوراق السيارة، ثم سجل بحقه ضبطًا معتبرًا لأن موتور سيارته على المازوت! بل إن العلاقة الوثيقة بين عنوان مقالتنا وتصرفات السائق،في أنه (استغبى) الراكبات أولًا، ومن بعدها رغم أنه لم يقم بتغيير موتور سيارته رغم الضبط، عاد إلى (التباكي) أمامهن بسبب غلاء البنزين، لعله يحصل على أجرة مضاعفة، إكرامًا لطفله المسكين الذي يبكي ويصرخ طلبَ الحليب، وأبوه لا يستطيع أن يؤمنه له!
وقد ذكرنا النساء، فلماذا لا نذكر بعض نماذج ثقافة الحمير عند فريق منهن؟ وعن نفسي لا أرى أشد سماجة، ولا أكثر حماقة، من امرأة محجبة، تجلس أمام باب بيتها متفرعة بشكل ربما تخجل منه المرأة حتى لو كانت وحدها، وتسمع خطوات من يصعد الدرج فتظل مكانها، وكأنها تضع في ذهنها خيارات متعددة: (هذا رجل)، (بل امرأة)، (بل ولد صغير)، (بل)... وحينما يصل صاعد الدرج الذي يريد أن يتجه إلى بيته، أو حتى إلى سطح البناية،و(تكتشف) العبقرية المدهشة أنه شاب بالغ، تبدأ بالولولة والصراخ، لعل أحدًا في بيتها يأتيها بالحجاب لتتحجب! وما نفع الحجاب بعد كل هذه البهمنة في التصرف يا ترى؟ بل بم ينفع الحجاب،والمكشوف في جسمكِ أكثر بكثير من المستور؟ ما لم تكوني (تستحمرين) نفسكِ بكل معنى الكلمة!
أمور كثيرة لا نستطيع تقبلها في مجتمعنا وتحصل أمامنا، ومن ذلك إذ زارنا فريق طيور الجنة من شهور،ليؤدوا احتفالًا في حديقة عامة عندنا،لتتحمس امرأة محجبة بين الحضور، وتمسك بعلم لبنان (مقلوبًا) وتبدأ بالرقص، متجاهلة وجود الرجال في الحديقة، ولنقل إنها (نسيت) أن هناك رجالًا، فهل نسيت كذلك وجود كاميرات التصوير والفيديو؟ أم أنها، بكل بساطة، لا تبالي بأن تتمايل بجسدها يمينًا ويسارًا، وبكل حماستها، أمام الرجال؟ وهنا أسأل نفسي ما لزوم الحجاب يا هذه؟ وأية (ثقافة) تحملينها في ذهنكِ يا ترى؟؟
وبما أننا نذكر النساء، فسأرجع بكم زمانيًا إلى العام 2000م، أيام بدء دراستنا في دار المعلمين،رغم تفوقي في إحدى المواد آنذاك، والحقيقة أنني أثبتُّ نفسي في أكثر من مادة، ولكني أقصد مادة معينة هنا، كانت المعلمة تعترف بتفوقي فيها، ولكن كان لثقافة ما أن تطغى يومًا، لتنسِي المعلمة نظرتها في تفوقي وتهذيبي!
وبكل بساطة، فاجأتنا هذه المعلمة بكلام خارج نطاق الدرس، نطقته بتوكيد: (وكما يقول داروين، الإنسان كان قردًا، ثم تطور وأصبح إنسانًا)، ولا أعلم هل ظنت نفسها ذكية إلى درجة إقناعنا بهذا الهراء؟ داروين نفسه لم يستطع (إثبات) كلامه هذا لتقوم حضرتها بإثباته، لكني أعلم أنني سألتها بجدية: (وماذا عن الغوريللا)؟ استغربت المسكينة سؤالي، وبدا لي أنها لم تفهمه، فأوضحتُ الأمر لها، إن الغوريللا من القردة العليا الشبيهة بالإنسان، فهل بدأ الأمر وفق المعادلة الآتية:
1_ هناك قرد.
2_ تطور القرد فأصبح بني آدم!
3_ تطور هذا الابن آدم فأصبح غوريللا؟
4_ هذا يعني أننا نحن، البشر المساكين، في مرحلة أدنى من الغوريللا في درجات التطور! يا للهول! يا للعار! يا للـــ...
ولم يعجب المعلمة ما أقول فطلبَتْ مني أن أهدأ قليلًا فطلبْتُ منها أن تتكلم بكلام موضوعي، ولا تملأ مسامعنا إلا بالكلام العلمي، ولم ينتهِ الأمر هنا،وما كانت هذه خواتمه (السعيدة) قطعًا!
ففي حصة لاحقة، قالت المعلمة، وكأنها تلفزيون يعيد حلقة من إنمي الكرتون لأننا لم نشاهدها: (وكما يقول داروين، الإنسان كان قردًا، ثم تطور وأصبح إنسانًا)، فقاطعتُها لأعيد سؤالي السابق لها عن الغوريللا، ومرة أخرى بدا أنها لم تفهم شيئًا، فشرحتُ لها المقصد، طالبًا منها أن تكون إنسانة واقعية، ولا تعلمنا إلا الكلام المنطقي العلمي، وبما أن هذا يتعارض وثقافتها (العالمية)، وجدت نفسي مطرودًا من الصف في حصتها، ويا للظلم الكبير طبعًا! على أن هذا الأمر لم يحزنني، ومرة ثالثة بعد فترة، أعاد التلفزيون حلقته السخيفة هذه... أعني أعادت المعلمة كلامها (الإبداعي) هذا، لأقاطعها مرة ثالثة، بالسؤال ذاته، وأخرج تلقائيًا من الصف، قبل أن تأخذ هي بالمبادرة وتطلب مني فعل ذلك!
دعونا نترك النساء ونماذجهن، لنعيد الكلام في موضوع ثقافة الحمير بشكل عام، وأسوأ هؤلاء الناس، ولن نقول الحمير احترامًا لخلق الله تعالى، ولكن تصرفاتهم لغبائها تجعلنا نطلق عليهم اللقب أحيانًا، من دون تأنيب ضمير طبعًا، وإذًا كنت أقول إن أسوأ هؤلاء الناس في ثقافة الحمير هم الموظفون حيث لا ينبغي لهم أن يكونوا، هم من استلموا إدارة أمور ما، بسبب واسطة ما، وهم أغبى بمراحل من القيام بها، أو حتى من فهمها فهمًا صحيحًا، لكنْ بريق المنصب أعمى الأعين، حتى لو كان منصبًا بسيطًا جدًا، كمنصب مراقب العدادات، هذا لو صح أن يُسمَّى بالمنصب، ولكن بعض من يجدون أنفسهم في هذا الموقع، ربما يتخيلون أنفسهم باتوا من مستشاري البيت الأبيض مثلًا، ونحن لا نعلم هذا، ولن نعلمه قطعًا!
وتوضيحًا أقول، إنني أتحدث عن (بعض من يجدون أنفسهم في هذا الموقع)، سواء أكان في مراقبة العدادت أم في أي موضع مسؤولية آخر، وسأورد أكثر من نموذج مختلف، ولا أشمل بكلامي إطلاقًا من يؤدون واجبهم بكل ضمير وأمانة، ومثال ذلك في إحدى المرات تجاوزت الوقت المحدد لي لترك سيارتي أمام العداد، ووجدت أنه تم تقييد إطارها الأيسر، مع ورقة مخالفة على الزجاج ورقم الشركة، فاتصلت بهم ليأتي أحد المراقبين، وأدفع له قيمة الغرامة مباشرة، ويفك هو الحجز عن سيارتي، من دون كلمة لوم واحدة أو عتاب، أو فتح باب حوار معه وجدال، فهو يقوم بواجبه، وهذا حقه، ومثلي مثل أي شخص آخر في هذا البلد!
غير أن ثقافة الحمير أبرزت وجهها الفكاهي مع مراقبين آخرين، ربما لو وُضِعُوا في مستشفى المجانين لــ(أبدعوا) في الكوميديا فعلًا، أو لو تم اختيارهم لتمثيل دور الموظفين الكوميديين، لما كان للمؤلف حاجة إلى رسم أدواهم ولا لأن يعذب نفسه بكتابتها، فهم يرسمونها أفضل منه بالتأكيد.
في ذلك اليوم، وضعتُ كمية لا بأس بها من النقود المعدنية في العداد، لأن مشواري كان طويلًا، ورغم الإطالة رجعتُ ومعي من الوقت حوالي أربعون دقيقة قبل أن ترجع شاشة العداد إلى الصفر في توقيتها، وفوجئت بالقيد الكبير يحيط بإطار سيارتي وبورقة المخالفة على زجاج السيارة لتجاوز الوقت المحدد لي! لم يكن هناك من مجال لأعتقد أننا في برنامج (الكاميرا الخفية) مثلًا، فاتصلت بالشركة، ليأتي المراقب الذي وضع الحجز مطالبًا بالمال، فأخبرته أن أمامه اختيارين اثنين لا ثالث لهما، إما أن يفك هذا القيد عن إطار سيارتي، أو أنني سأستمتع بجعله يمضغه أمامي!
وليت الغباء توقف هنا! لقد أخذ يصرخ مؤكدًا أن هذا حق البلدية، وحق شركة مراقبة العدادات، فأمسكته من عنقه لأجبره على النظر في لوحة العداد، فكان أن أثبت أنه يحمل عنوان موضوعنا في رأسه وبكل جدارة! لقد أعلن أنه يجب عليَّ أن أضع نقودًا في عدادين اثنين، لا في عداد واحد، فأمسكت به من عنقه مرة أخرى سائلًا إياه أيهما يفضل؟ أن يتوقف عن الهراء ويتصرف مثل الناس الذين يحترمون أنفسهم أم يبدأ بأكل الحديد؟ وكان أن اختار الحل الأول وفك الحجز ومزق ورقة المخالفة، ومشى في طريقه غير مأسوف عليه!
على أنني بعد فترة زمانية ما، أدركت أنني ظلمته قليلًا، إذ افترضت به الغباء! فأمام حمرنـ... تصرف مراقب عداد آخر، وهو ولد ربما بالكاد بلغ التاسعة عشرة من عمره، وجدتُ أن الأول كان ذكيًا، أعني أن تصرفه خاطئ قطعًا، لكنه لم يتصرفه لأنه لا يفهم مثلًا، بل ربما ظن أنه _ بهذا التصرف _ يستطيع أن يحرج صاحب السيارة، أيًا كان، ويجبره على الدفع، ليثبت للشركة أنه موظف مجتهد! بل لعله ينال نسبة ما من النقود التي يحضرها كمكافأة له على عمله، وأراد أن يزيد ما يتقاضاه ولو بطريق الاحتيال وقلة الأدب مع الناس،وأشير هنا إلى سماعنا بعد ذلك بمدة طويلة عن حالات مماثلة، لأصحاب سيارات وجدوا أوراق المخالفة على سياراتهم وهم لم يتجاوزوا الوقت المحدد لهم، على أن هذا موضوع آخر بعيد من موضوعنا الآن.
لنرجع،إذًا، إلى ما أردنا قوله، ولماذا أقول إنني ظلمت هذا المتحامققليلًا؟ يومئذ كنت وأختي في سيارتي متجهين إلى منطقة ما لمراجعة طبية لي، ونحن ننظر يمينًا يسارًا هل هناك مكان لإيقاف السيارة؟ وإذ وجدنا أمامنا عدادًا ليست أمامه سيارة، أعطيتُ الإشارة نحو اليمين، واتجهتُ لأقف بسيارتي، وما كدتُ أوقفها، بل قبل أن أفعل ذلك حقيقة، وما يزال محركها دائرًا، فوجئتُ بهذا الولد صاحب العقل الأحمق، ينزل من دراجته، وينحني نحو سيارتي محاولًا تقييد إطارها!
نزلت من السيارة وأنا أقول له بهدوء: (ماذا تفعل)؟ وطبعًا كان هدوئي هذا يخفي خلفه عاصفة غضب عاتية، وإذ بهيجيب، وكأنه اكتشف الأسرار الكونية التي يجهلها العلماء جميعًا: (إن العداد يشير إلى الصفر، وهذا يعني أنك لم تضع فيه النقود)، فأمسكت به من رقبته مجبرًا إياه على الوقوف، قائلًا له إنني مستعد لكسر ذراعيه معًا لو حاول الاقتراب من السيارة مرة أخرى، وأخذ يغمغم بكلمات شبه مختنقة عن (حقه) الذي يمارسه في (وظيفته)، وكأنه موظف في شركة (ناسا العالمية) ونحن لا ندرك هذا، فسألتُه متهكمًا هل المطلوب من الناس أن يضعوا النقود في العداد قبل أن يتوقفوا بسياراتهم؟ وما (الآلية) التي يمكن اتباعها؟ هل نقوم بإنزال زجاج السيارة للراكب الذي يجاور مقعد السائق، و(ننقف) القطعة المعدنية من يدنا لتطير في الهواء وتدخل فتحة العداد الضيقة؟ وهل يظننا لاعبي كرة يد أو كرة سلة لنفعل هذا؟ بل هل يظن،ب عقله الدولي العالمي وفهمه الذكي الألمعي، أن لاعب كرة اليد أو كرة السلة سينجح في أداء هذه الحركة (السحرية)؟
أظن أنه كان يريد أن يقول شيئًا ما، لا بل إنني أجزم أنه كان يريد ذلك، لولا أن ارتفع صوت ضحكة مدوية شامتة جلجلت في المكان كله، لنفاجأ بسيارة متوقفة قرب سيارتي _ خط ثانٍ _ وصاحبها يخرج رأسه من نافذة سيارته صارخًا بمراقب العدادت، مخبرًا إياه بأنه حمار حقيقي، وأنه فاق الحمير جميعًا لو اجتمعت في حمرنتها! وأن عليه ألا ينسى هذه المعلومة إطلاقًا! وأنه يظن _ ويا له من حمار أصلي! _ أن على الركاب أن (ينقفوا) القطع المعدنية من نوافذ سياراتهم في العدادات، وإلا عليهم أن ينالوا المخالفة لأنهم لم يتعلموا أداء هذه الحركات التي يعجز عنها لاعبو السلة ولاعبو كرة اليد، ما دفع بي إلى التساؤل بيني وبين نفسي مبتسمًا، هل سمع هذا الرجل كلامي وأعجبه ليقوم بإعادته؟ أم أن حمرنة مراقب العدادات _ كما يصفها الرجل طبعًا _ قد جعلت توارد الخواطر وتماثل الأفكار أمرًا واقعيًا لا فكاك منه ولا مناص عنه يا ترى؟؟
وما نزال نتناول (ثقافة الحمير) بمراقبي العدادت وبنماذج متعددة متنوعة من سواهم، وملتقانا في الجزء الخامس إن شاء الله تعالى ويَسَّر ذلك!
عمر قزيحه: في 6_1_2020م: الساعة:2:22 بعد منتصف الليل.