(18)
ذائقة الموت
المشهد الرّابع
مُنذ زمن بعيد يعود إلى فترة الطفولةلم ألج عتبة باب عيادة الطبيب "خلدون"،لما دخلت العيادة عاد بي طيف الذّاكرة ،تقريبا لم يتغير شيء: البهو،قاعة الإستقبال،الجدران العتيقة،السقف،وكراسي "مُوديل" قديم! أمّا المرضى فكانوا كثر
يومها الكل في قاعة الإستقبال رغم بعض التباعد ففي عيادات أخرى يدخل المرضى فُرادى ويستعملون المطهّر الكحولي ومن يسعل أو عنده كٌحة يعطونه اللّثام أو هذا القناع الواقي
إنتظرت دوري طويلاً،كنت أشعر بالإختناق لقدم مبنى العيادة وظُلمتها المهم الحصول على المال أما العيادة فلما تبذير النقود ؟! المهم المضمون لا الشكل كذا لسان حال "خلدون" يقول
أخيرًا حان دَوري، مايزال "خلدون" على لهجته السوريّة لم يتمكّن من إتقان اللهجة التونسيّة رغم أنّه يعيش فيها منذ أكثر من أربعين سنة ،مازال يتتعتع جملة فسيفسائيّة تونسيّة -سوريّة
قاس لي ضغط الدم،ثم أخرجني من مكتبه إلى غرفة أخرى فيها آلة تصوير تشخيصي طبي
قائمة كالخزانة تلصق بأحد أطرافها ثم يُطبق الطرف الآخر على جسمك قال "إرفع إيديك لفوق"،ثم عدنا إلى مكتبه قاس لي الحرارة ثم قال 37 وشويّييييية !أطال في كلمة شوية لخفظ التوتر الذي لاحظه عندي
قال لابأس عليك وتحدّث معي قليلا ثم أمدنّي بوصفة دواء أحدهما إسمهُ Kela Vit energy أقراص غنيّة بالمعادن والفيتمينات و يُنصح به لمن يعاني من الضغط اليومي
ثم قال لي كُل البرتقال!
لامني بعض أبناء الجيران وصديق الطفولة لمّا قابلني في طريق العودة من عيادة الطبيب "خلدون" فـ"خلدون" مدرسة قديمة أكل عليها الدهر وشرب كيف أذهب إليه ؟!،دعا لي بالشفاء وأوصاني بطبيبين الطبيب فُلان أوّلا ثم الطبيب الآخر إذا ما استجد أمر ما ولا تعد لخلدون
السباق ضد السّاعة ومراطون فاق الخمسة أشهر من الركض وراء أُمنية ، وبعض أشهر كنت صائمًا عن الطعام لا صوم نافلة وعبادة بل صوما لقلّة الوقت الذي أجده لنفسي في سبيل تحقيق ماأريد تحقيقه وغضبُ دخيلٌ على طبعي بدأ يخنقني والإكثار من إحتساء بعض أنواع القهوة السوداء القويّة لستُ من عُشّاقها وقلّة النوم من الأرق سبّب لي إرهاقا وإنهيار نفساني قوي
إمتثلت لوصفة خلدون غير أن الأمر إزداد سوءً مع الدواء الذي لم يكن فعّالا معي لأن التشخيص كان تقريبا ساذجًا وافق مع 20 مارس 2020 أن أعلنت الحكومة التونسيّة عن الحجر الصحّي الشامل وفرضت إغلاقا عاما
خبرُ زاد في الطين بلّة ساءت حالتي كثيرا بعد ثلاثة أيّام من ذهابي للطبيب مساء السبت 21 مارس 2020 إرتفعت حراراتي ،بمجرّد أن تأخذني سِنة أفيق مرتجّاً كزلزال عظيم ،آلام كبيرة ،أوجاع لم أعتد عليها من قبل ،لم أستطع النّوم تلك اللّيلة جسمي يرُجُّ رجًّا كلّما أردتُ النوم!
من الغد ، يوم الأحد الثانية ليلاً وأنا أدور كالرحى أو كجمل بئر روطة في مدينة "القيروان" موقوف على بئر يدور ويدير ناعورة ليُخرج ماءً رقراقا في قواديس من فخِار مُلوّنة ؛أتألّم،أصيح، أرقي نفسي تارة ،أُناجي ربّي تارة أخرى وأسأله السلامة والعافية ،عقلي يكاد ينفجر
كثوران بركان "ماونت بيناتوبو"
الأحد ليس يوم عمل في تونس بقطع النظر عن الحجر الشامل والذّاتي وتم إغلاق تقريبا كافة المؤسسات والمحلّاتباستثناء المنشآت الحيويّة المستشفيات والمخابز والدكاكين وبعض المؤسّسات يوم الأحد بالنسبة لأصحاب العيادات فيوم راحة ،في حالة مثل ما أنا عليها حينئذ لم يكن في خاطري أن العيادات مغلقة
بقيت على حالي وأنا أعاني الأمرّين لم أرد أن أوقظ والدي
إنتظرت الساعة التّاسعة صباحًا ذهبت لأوقظه : أبي ،،،سأموت !
يتبع بمشيئة الرحمن
المفضلات