الحلقة السابعة

كان الرائد سعيد يكاد يتميز غضبًا، وهو لا يرى أمامه أي قبس من الحقيقة في جريمة مصرع والده، ولا يكاد يجد طريقًا واحدًا يسلكه في سبيل الوصول إلى الفاعل، وإن كان ذهنه لا يستطيع أن يمحو أثر الشك الذي يكاد يحرق أعصابه، هل أرادت أمه أن تمحو دليلًا ما حينما مسحت بقعة الدم؟ ولكنْ، لماذا يسأل ويتساءل؟ سيذهب ويسألها، ويحاول استدراجها واستنطاقها، ارتاح سعيد لهذه الفكرة، ورأى فيها مخرجًا أوليًّا لما يعانيه، وكاد يغادر مكتبه فعلًا، لولا أن دخل الرائد حازم في تلك اللحظة، وهو ينظر إليه نظرة رأى فيها سعيد حقدًا عجيبًا، وبدا له وكأن حازمًا يود لو يأكله إن استطاع ذلك! وبدهشة سأل سعيد زميله:
_ ماذا هناك؟
أجابه حازم بغضب:
_ هل جننتَ يا أحمق؟
انتفض سعيد الذي لم يسمع إهانة واحدة في حياته، ليصيح في وجه حازم:
_ هل جننتَ أنتَ؟ كيف تخاطبني هكذا؟ ألا تعرف أنه...
قاطعه حازم صارخًا:
_ نحن رجال شرطة، عملنا إحقاق الحق مهما كان صعبًا أو قاسيًا، لكن أن تلقى أمك العذاب في زنزانة استجواب عندنا، فهذا الأمر...
قاطعه سعيد بدوره، يصيح في جنون:
_ ماذا؟ من الحمقاء التي فعلت ذلك؟ آه! لا يوجد سواها، هديل التي...
سأله حازم مستهزئًا:
_ التي ماذا؟ هل عمل هديل أن تعرف نسبك وأصلك؟ لقد أصدرتَ أمرًا بإيقاف أمك لأنها مشتبه بها من الفئة الأولى في جريمة قتل والدك، هذه الورقة التي استلمتها هديل، ووجدت أمامها المرأة المتهمة، فهل ستعلم الغيب بنظرك أو ماذا تريد أنت بالضبط؟ تجعل من أمك متهمة بالدرجة الأولى، وتريد من الرقيب أول هديل أن تعرف ذلك لتذهب بوالدتك إلى مضافة في فندق خمس نجوم، أليس كذلك؟
سأله سعيد، وعيناه تلتهبان غضبًا:
_ وما الذي فعلته هديل بأمي بالضبط حتى أجعلها تدفع الثمن غاليًا؟
تجاهل حازم هذا السؤال، ليقول له:
_ أنت تعلم أنه لا يمكن لها ولا لسواها في مكانها أن يترك المتهم بدون استجواب قاس، حتى يحصل على الاعتراف المطلوب منه، وهذا ما حصل فعلًا، لقد اعترفت أمك بـ...
صاح سعيد، وعيناه تتألقان، كأنه اكتشف كنزًا:
_ أمي اعترفت؟ إذًا قد أرادت فعلًا أن تمحو آثار الجريمة! لم أكن أتوقع ذلك!
قال حازم متهكمًا:
_ صحيح، صحيح، مسحت بقعة دم من الشرفة، وهكذا تختفي الجريمة وآثارها، أما الجثة التي تجمدت الدماء عليها في الحديقة، فلا تدل على أية جريمة! أحسنتَ الاستنتاج أيها الداهية!
من المؤكد أن سعيدًا لم يكن ينوي الصمت إزاء هذه الإهانات، ولكن زميله تابع بجدية:
_ اعترفت أمك بأمرين، لو أن هذا يهمك، الأول أنها مسحت آثار الدماء لأنها ليست أكثر من رعاف من الأنف، كما ظنَّتْ ذلك، وهذا الأمر يعانيه والدك من يومين، وربما أنت لا تعلم ذلك، ولم يخطر لها أي شيء في وقتها، لأن والدك أخبرها بأنه ينوي الاستيقاظ في وقت أبكر، ليمتِّع عينيه بجمال الحديقة قبل أن يستغرق بكيانه في عمله الصعب القاسي، والأمر الثاني، بكل بساطة، أنه ربما تكون قد ذكرت عادتك في النوم وباب شرفة غرفتك مفتوح أمام بعض النساء، خلال أحاديث النساء المعتادة عن أزواجهن وأولادهن، لكنها لا تستطيع تأكيد ذلك تمامًا، وعمومًا عندي لك خبر لا بأس به، لقد انطلقت هديل إلى التحريات الميدانية المباشرة، بعد أن رافقت أمك إلى المستشفى بعد...
سكت حازم هنا، لقد زلَّ لسانه في ما لم يكن ينوي أن يتكلم به، وكاد صراخ سعيد يرج الطابق بأكمله:
_ أإلى هذا الحد عذبتها هديل؟؟ تلك اللعينة، سأفقأ عينيها بكل تأكيد!
أجابه حازم، وعيناه تفيضان دمعًا لتأثره:
_ بل إن أمك أصيبت بسكتة قلبية مباغتة حينما علمت أنك أنت من أمر باعتقالها واستجوابها، ووقعت بعنف كاد يشق رأسها فعليًا، وهي الآن في العناية الفائقة!
ومادت الأرض تحت قدمي سعيد، بمنتهى العنف.
*******************
الضياع...
لا توجد مشاعر أخرى أو أحاسيس...
الضياع فحسب هو كيان أم سعيد، إذ لم تكن تستوعب أمرًا آخر، ولا حتى أين هي...
وببطء أخذت ذاكرة المسكينة تعود إليها، مع شيء من أحاسيسها...
وشعرت المسكينة بأن يدًا تمسك بيدها في حنان افتقدته زمانًا طويلًا في حياتها...
وبصعوبة أدارت عينيها لترى هديلًا تجلس على الأرض بجوار سريرها، تمسك بيدها، وسمعتها تتمتم بصوت خافت، والدموع تغرق وجهها:
_ ماما، ماما، يا رب الماما يا رب!
سالت دموع أم سعيد إذ تتذكر ابنها هنا...
لم تكن تعلم أن هديلًا أخذت تصرخ بلوعة حينما سقطت أمامها وسالت الدماء من رأسها...
كما أنها لم تكن تعلم أن هديلًا رافقتها إلى المستشفى، وظلت بجوارها إلى أن أدخلوها غرفة العمليات، فذهبت تجري تحرياتها الميدانية حول الجريمة ودوافعها، بل ووصلت إلى الحقيقة المريرة، وبعد ذلك عادت إلى هنا لتمسك بيدها وتبقى بجوارها تبكي...
هديل نفسها لم تكن تعرف سبب بكائها، وهي التي لم تتمتع بالحنان ومشاعر الشفقة، منذ أن اختارت لنفسها دربًا عنيفًا في هذا العالم، يعتمد ألا تتردد في الوصول بالمتهمة أمامها إلى حافة الموت حتى تحصل على اعترافها التي تريده...
ولكنْ، ربما كان ذلك لأنها رأت أمامها طعنة غادرة تلقاها قلب أم بدون ذنب جناه...
وربما لأنها اكتشفت الحقيقة وفهمت أن هذه المرأة ستعاني لو علمت أكثر مما مرَّت به ربَّما...
استغرقت هديل في أفكارها هذه وتحليلاتها، ولم تكن تعرف أن الرؤوساء الذين قرأوا تقريرها حول الجريمة قد اتخذوا قرارين حاسمين جدًا، أحدهما يعنيها مباشرة...
ولم تكن تعرف أن أم سعيد لم تكن قد تمكنت من مسامحتها لتلك الصفعة التي دمرت كرامتها وكل إحساس عندها بالعزة والكبرياء...
ومع شعورها بالموت يحتوي روحها، حاولت أم سعيد أن تدعو على ابنها لغدره بها، لكن قلبها لم يطاوعها...
وبمرارة تختلط بطعم الدموع، تمتمت بصوت لم يصل حتى إلى مسامع هديل لما تعانيه أم سعيد من الضعف:
_ الله يسامحك يا ابني، الله يسامحك.
لم تسمع هديل هذا، لكنها سمعت الشهقة العنيفة وشعرت بانتفاضة يد أم سعيد في يدها قبل أن تعاود السكون تمامًا...
وفهمت هديل ما حصل، لكنها حاولت أن تقنع نفسها بأنها لم تفهم!
وفي المستشفى سمع الجميع صراخ هديل الملتاع، فاندفع فريق الأطباء بسرعة لينقذ ما يمكن إنقاذه، ولكنهم توقفوا مكانهم، ولوحات الأرقام تخبرهم بالحقيقة الأليمة...
وصرخت هديل في ألم يعصف بكيانها كله:
_ مامااااااااااا ماماااااااااااااااااااا ماماااااااااااااااااا
ولم يجبها أحد...
لقد قضي على أم سعيد بما سيقضى به على كل الأحياء...
من دون أي استثناء!


تمت القصة بفضل الله تعالى... بتعديلاتها عام 2020م.
الكاتب: عمر قزيحه
لبنان