يومًا ما، في مرور أيَّام الزمان ومرارتها، كنَّا في بلاد الحرمين الشريفين، كنَّا هناك أوَّل مرَّة في حياتنا، منَّا واحد أو اثنان فحسب أدَّيا العمرة من قبل، ويعلمان كيفيَّة الأداء الصحيح، أمَّا نحن، وعددنا بالعشرات، فهذه زيارتنا الأولى، لكنْ لا بأس بذلك، الشركة المنظِّمة للرحلة وعدتنا بانضمام (شيخ جليل) إلينا، وذلك بهدف أن (يعلِّمنا) كيف نؤدِّي العمرة على أكمل وجه ممكن، بشرح يرافقه عرض فيديو في شاشة مثبَّتة في باص الرحلة.
ولأنَّنا في زمان معكوس، لا نقيم فيه للوعود قيمة أو وزنًا، قبضت الشركة ثمن التأشيرات وأجرة الرحلة من كلِّ راكب، على أكمل وجه ممكن، وذهبَتْ بنا إلى مكَّة، ولم ينضمَّ إلينا أيُّ أحدٍ ليعلِّمنا أيَّ شيء، وصلنا إلى الحرم المكِّي، اختفى مسؤول الشركة وكان معنا قادمًا لأداء العمرة، من أيِّ بابٍ دخل لا نعلم، دخلنا متفرِّقين، وفينا الحائرون، بدأنا العمرة بمحاذاة الحجر الأسود، ومنَّا من بدأ العمرة بمحاذاة الركن اليماني، وقد ظنَّ أنَّ هذا هو الحجر الأسود! بعضنا اتَّبع سنَّة الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، وبعضنا لم يفعل لأنَّه نسي، وبعضنا لم يفعل لأنَّه لم يفهم ما معنى الرمل هذا!
ولا أعلم أيَّ وصفٍ هنا الأفضل، أن أقول: والطريف أنَّه، أو أقول: والمستفزُّ أنَّه؟ لكم أن تضعوا الوصف المناسب كما يحلو لكم من الموقف الآتي: كثيرون فينا لا يعلمون أين الصفا والمروة، وكم يبعدان عن الحرم المكِّي مسافةً ووقتًا؟ فخرجوا من الحرم المكِّي بأكمله، يستوقفون سيَّارات التاكسي التابعة لموقف جدَّة، يطلبون من أصحابها الانطلاق بهم فورًا، حالًا وتوًّا، إلى (جبال الصفا والمروة)، ليتابعوا أداء العمرة، بل وبعض هؤلاء يسأل، هل يمكن للسائقين الانتظار حتَّى ينتهي السعي بين (الجبال)، ليرجعوا معهم في سياراتهم، بدلًا من البحث عن سيارات أجرة ربَّما لا يجدونها قرب الجبال!!
ولأنَّنا في زمان معكوس، خلقيًّا ومنطقيًّا، فإنَّ الأمر لم يتوقَّف بنا هنا قطعًا! انتهت العمرة بأخطاء كثير منا فيها، ولا أستثني نفسي من الخطأ، وإن كنتُ لم أسأل عن جبال الصفا والمروة والحمد لله، لكنَّ ذلك يعود إلى أنَّني رأيتُ شارة تدلُّ على مكانهما، وليس لأنَّني كنت أعلم موقعهما، أو أتخيَّل وجودهما داخل الحرم المكِّي، مقابل الكعبة نفسها! ولكنَّ الانعكاس الزماني في تصرُّفات بني أمَّتنا لم يكن لينتهي هنا، ولو كان لهان الأمر قليلًا، بل كثيرًا، أمَّا أن تنتهي إقامتنا في مكَّة، ويحين موعد عودتنا إلى المدينة، ويتوقَّف الباص قليلًا في مكانٍ ما، ليدخل إليه رجل في ملابس توحي أنَّه رجل دين، ويقدِّمه إلينا مسؤول الشركة، في فخر لا نعلم من أين جاءنا به: هذا هو الشيخ الذي سيعلِّمكم كيف تؤدُّون العمرة!
وما هو الزمان المعكوس إن لم يكن هذا الزمان؟؟ كثيرون فينا ملتزمون أخلاقيًّا ودينيًّا، ولا أستثني الآخرين، لكنِّي أتحدَّث عمَّن أعرفهم، هؤلاء يحترمون الصغير والكبير، لكنَّهم هنا رحَّبوا بالشيخ الجليل، هاتفين في استهزاء واضح: هورااااااااااااااا! ما ملأ وجه الشيخ باللون الأحمر غضبًا، لكنَّه لم يستحِ من ذلك! بل استرسل في الشرح بكلِّ غباء، الباص عائد بنا إلى المدينة، وهو يشرح لنا كيف نؤدِّي... نؤدِّي ماذا؟ العمرة؟ لا! لا تتسرَّعوا في إطلاق الأحكام، لا تظلموا بَنِي الأنام، فالأخ، بانعكاس زماني في ذهنه العجيب هذا، كان يشرح لنا مناسك الحجِّ، وأنواعه ما بين مفرد ومقرن، وأيَّ الأنواع حجُّ البخيل وأيَّها ليس كذلك!
وكان للزمان المعكوس أن يعكس كلَّ قِيم أصدقائنا وتربيتهم، بل ويقلبها رأسًا على عقب، ليبدؤوا الغناء السعيد: (أحمد يا حبيبي حبيبي) و(يا إله الكون يا سندي)، إذا بدا لهم أنَّ احترام مثل هذا المخلوق، هو قلَّة احترام لأنفسهم، بل وقلَّة احترام عامَّة، يجب أن لا يختلف حولها اثنان في هذا العالم، أمَّا الشيخ (الوقور) فقد اندفع يصرخ في وجوههم: (اسكت أنت وهو، اسكت، اسكتا، اسكتوا)، ثم أصابته التناحة على أصولها، ليعلن أنَّه لن (يُفَهِّمَنا) أيَّ شيء بعد الآن، ويرتفع التصفيق في حرارة، وعبارات التهنئة له على (ذكائه النادر) و(عقله الذي استيقظ من السبات العميق أخيرًا)! والرجل يتَّهمهم بِقِلَّة الأدب!
ولأنَّنا في زمان معكوس، اندثرت فيه كثير من القِيَم والأخلاق، كان لرحلة أخرى إلى أطهر بلاد الله أن تودي بنا في الهلاك، وأورثتنا توترًا وعصبيَّةً بالغين، فعلى الصعيد الشخصي، أضاع مسؤولا الرحلة جواز سفري، وقد علمْتُ بذلك حينما أردْتُ الذهاب إلى جدَّة مع بعض رفاق السفر، لم تستلم إدارة الفندق جواز سفري، ولا اسم لي فيه! كلَّمْتُ مسؤولَي الرحلة، فتقمَّصتهما روح الإيمان الغريبة، أن (توكَّل على الله)، من دون أدنى اهتمام بما يعنيه ضياع جواز السفر المفاجئ هذا، وكيف لي أن أعود إلى بلادي، يبدو أنَّ هذا آخر ما يثير الاهتمام عند (المسؤولين)، ولأنَّ الزمان معكوس، حينما عدْتُ أذكِّرهما – مرَّة عاشرة ربَّما – بضياع جواز سفري، ونحن نريد الرجوع إلى المدينة النبويَّة، ومنها إلى بلادنا، انفجرا غاضِبَين يصرخان: لماذا لم أخبرهما بذلك قبل الآن؟ كأنَّه كان ينبغي لي أن أذهب إلى الحرم المكِّي، وأطلب إذاعة ذلك بعد الأذان، في كلِّ أوقات الصلاة؟
ولا أعلم أيَّ وصفٍ هنا الأفضل، أن أقول: بكلِّ بساطة، أو بكلِّ وقاحة؟ ضعوا اللفظ المناسب، إذ نسأل: وهل توقَّف الأمر هنا؟ لا ثمَّ لا! فلقد نادى أحدهما أحدَ الركَّاب، ممَّن هم معنا في الرحلة لكن في الباص الثاني، يهمس في أذنه بكلمات ما، ويذهب الأخ هذا ويعود وفي يده جواز سفر، يناوله للمسؤول الأوَّل، يناوله هذا للمسؤول الثاني، يناوله هذا لي، يطلب مني أن (أنبسط)، فهذا جواز سفر! وهل نحن في زمان معكوس لنظنَّ الكلَّ عميانًا، لن يقارنوا بين صورة صاحب جواز السفر، وبين الشخص الذي يحمله في يده ليقدِّمه إليهم؟ بل نحن في زمان معكوس فعلًا، وبكلِّ معنى الكلمة، فهذا جواز سفري أنا، أعطاه مسؤول الرحلة هذا بكلِّ وقاحة وغباء، لراكب من الركَّاب، وحين وجد أنَّني غاضب إلى درجة مخيفة، كان ردُّه هادئًا باردًا، كانت كلماته سخيفة سمجة، وما ذلك إلَّا لأنَّنا في زمان معكوس، لم يحمل فيه صاحب المسؤوليَّة أيَّة مسؤوليَّة كانت، فضاع وأضاعنا: (لقد نسيت جواز سفرك مع هذا الأخ)!
يتبع إن شاء الله...