حكاية زينا (متابعة)

بين النَّقيضَينِ قد تتحرَّك المشاعر، ما بين الهدوء والقسوة، ما بين اللطف والعنف، رامز يمسك الطِّفلة في حنان نبض له قلب زينا في حبٍّ وألم، الحبِّ لطفلتها، الحبِّ لأخيها بعد كلِّ الجفاء الذي كانت تشعر به تجاهه، والألم لأنَّ والد ابنتها لم تتحرَّك فيه مشاعر الإنسان لطفلته...
زينا بكَتْ في أعماقها، وهي ترى طفلتها في الأيدي الأمينة، زينا بكَتْ في أعماقها، وهي تنظر إلى أمِّها بطرف عينها، وكم كانت تتمنَّى لو تحضن أمَّها، تقبِّل رأسها، بل تمنَّت لو تجلس في حضنها كأنَّها طفلة، كانت تفتقد الأمن والحنان أكثر من طفلتها الرَّضيعة! لكنَّها شعرَت بأنَّ هذا الأمر ليس من حقِّها، فهي ليسَت من أهل الدَّار، بل هي مدمِّرة الدَّار بما فيه ومن فيه...
ألقَتْ زينا نظرة الوداع الأخيرة على أمِّها وطفلتها، وهمَّت بالانصراف، ولكن...
رامز يمسكها في قوَّة، شعرَت بيديه تكادان تخترقان كتفيها، ووجدت نفسها تندفع نحوَه بدون أن تملك أدنى مقدرة على المقاومة، وشهقت أمُّها في رعب، ولكن!!
سالَت دموع الأمِّ غزيرة، تفرِّغ انفعالات سنة مضَت انقلبَت فيها حالة العائلة من الاطمئنان إلى القلق والتَّوتُّر...
كم مرَّة جاءها الخبر بأنَّ رامز في قسم الشُّرطة لأنَّه ضرب شخصًا وأدماه؟ كم مرَّة حاولَت أن تُقنع رامز بالهدوء والتَّروِّي، ورامز لا يستجيب، ويمضي محاولًا كسر عظام من يتحدَّث عن أخته بسوء؟ بل كم مرَّة ضرب رامز أشخاصًا، فقط لمجرَّد قولهم (أختُك)... وإذ باللكمة تكاد تطيح بأسنانهم قبل أن يفهم ما يريدون قوله عن أخته؟
لكن، لماذا تبكين أيَّتها الأمُّ؟ هل أنهى رامز حياة أخته؟ آخر ما صدر من زينا شهقة عنيفة، وبعدها لم تَعُد تَرَ شيئًا!
وكيف ترى، وأخوها يضمُّها إليه في قوَّة، بل في غلظة لم ينتبه إليها، لما في قلبه من مشاعر الشَّوق والحبِّ لها، ما لم تنتبه إليه زينا من قبل أو تفهمه في غمرة اندفاعها في بحر الكراهية السَّوداء، بلا مبرِّر...
ضمَّ رامز أخته، وبكى! اتَّسعت عينا الأمُّ في ذهول ما بعدَه ذهول، ابنُها هذا الشَّابُّ القويُّ العنيف، يبكي؟؟ بكَت زينا لبكاء أخيها، وإن كانت لم تسمع لبكائه صوتًا أو ترى دموعه، لكنَّ شعرها امتلأ بهذه الدُّموع...
الماضي مضى، بما فيه من آلام وآمال، مضى بما خلَّفَه من الدَّمار، في حياة عائلة تهاوت في مهاوي الانهيار، والكلُّ ينظر إليها كأنَّها تُخفي أسوأ الأسرار، وما كانوا ليصدِّقوا أنَّ ابنتهم فيها الطُّهر والعفاف، لكنَّها وقعت ضحيَّة الخداع، فتزوَّجت زواجًا لا لبس فيه ولا شائبة، سوى أنَّه لم يتمَّ باحتفال على عيون النَّاس، فانطلقت ألسنتُهم تفري في عرضها، وفي تربية أمِّها وأخيها...
لكنْ، ما انتَهتِ القضيَّة هنا، وما كان رامز ليترك الأمور تمضي في سلام كأنَّ شيئًا لم يكن، أثر الضَّرب على وجه أخته فجَّر في أعماقه غضبًا هادرًا؛ لذا بدا لزينا كأنَّه وحش مفترس، قبل أن يضمَّها إليه...
والأمُّ لم تَعُدْ تطيق صبرًا! ألن يترك رامز أخته اليوم؟ هذه ابنتها، فلذة كبدها، قطعة من قلبها، تريد أن تحضنها، تريد أن تبكي معها، ولسان قلبها يهمس ويناجي: هيَّا يا رامز! اترك لي المجال، هذه ابنتي زينا رمزُ الجمال، أفسح في المكان، ودعْني وزينا ننسَ ثواني الزَّمان!
هل سمع رامز صوت قلب أمِّه الهامس في هدر الآلام الَّتي تريد أن تنطفئ بمشاعر الإنسان؟ ربَّما! لكنَّه سمع صوت قلبه قبل كلِّ شيء، فسأل أخته في غضب مدمِّر: هيثم الذي ضربَكِ وضربَ الطِّفلة؟ هزَّت زينا رأسَها في أسى، فتركها رامز وطلب عنوان هيثم ليذهب إليه الآن!
سبحان الله! نسيَت الأمُّ أنَّها تريد احتضان زينا حين سمعَت هذا الكلام! تذهب إلى من يا ولدي؟ إلى هيثم طبعًا! سأكسر يديه أوَّلًا، وبعدها سأكسر رأسه وأشرب من دمه! لقد مدَّ يده على أختي! بكَت زينا! أرجوك لا، دعْهُ بما فعل، المهمُّ أنَّني ارتحْتُ منه، المهمُّ أنَّ ابنتي ستكون في أمان، حسنًا يا زينا، أريد رقم هاتف هيثم! صاحت زينا مستنكرة: ولماذا؟ سألها رامز مبتسمًا: هل تظنِّين أنَّني سأتَّصل به وحين يردُّ أضع جسمي في السَّماعة وأخرج من شاشة هاتفه المحمول وأقتله؟ ضحكَت زينا على نفسها، يا للغفلة والتَّسرُّع! رفع رامز سمَّاعة الهاتف، ذكرَت زينا الأرقام، اتَّصل رامز، وهنا أفاقت الأمُّ إلى نفسها ومشاعرها، فحضَنَت ابنتها، وعادَتِ الدُّموع تسيل، لكنَّ الموقف الرُّومانسيَّ لم يستمرَّ طويلًا...
لماذا؟ لأنَّ هيثم ردَّ يتساءل من الأحمق الذي يتَّصل به ليزعج نومه في هذا الوقت المتأخِّر؟ ضرب زينا وطفلته وألقاهما في الشَّارع ونام كأنَّ شيئًا لم يكن! ردَّ رامز في صوت حازم إنَّه يريد نسخة من وثيقة الطَّلاق، وإلَّا فسيظلُّ يبحث عنه حتَّى يشرب من دمائه!
وإذ بهيثم يسأل في لهجة اتِّهاميَّة: وثيقة الطَّلاق؟ هذا يعني أنَّ زينا تحبُّ رجلًا آخر؛ لذا تريد وثيقة طلاقها بسرعة، هل... وصرخ رامز صرخة هادرة كادت تصيب أمَّه وأخته بالصَّمم، صرخة ارتجَّت لها جدران البيت: أغلق فمك يا كلب!
مضت ثوان من الصَّمت، ورغم الموقف ابتسمَت زينا فخرًا بأخيها، فخرًا بسندها، كم كانت غبيَّة حين كرهتْه بلا سبب! في الواقع كادت زينا تضحك، إذ خطر لها أنَّ أخاها يتمنَّى لو في إمكانه أن ينفِّذ كلامه فعلًا، وينساب في سمَّاعة الهاتف ليخرج لهيثم من شاشة جوَّاله ويبدأ بتكسير عظامه!
ثوان مضت، وقال رامز بعدها في هدوء عجيب: أنت طلَّقْتَ أختي ثلاثًا، صارت غريبة عنك، لا يحقُّ لك أن تذكر اسمها على لسانك حتَّى، هل تفهم؟ وفي صباح الغد أريد وثيقة الطَّلاق... وهنا صاح هيثم وقد تذكَّر أنَّ له لسانًا: انتظر! الطَّلاق ليس لعبة في المحكمة! هناك أوراق وإجراءات، وصدِّقني أنا مفلس تمامًا؛ لأنَّ زيـ... أعني أخت...، أعني السِّتَّ (زاي) كلَّفَتْنِي الكثير من المصروف عليها!
كلَّفَتْكَ الكثير؟ سأله رامز ساخرًا، يا لك من مسكين! قال له متهكِّمًا، وأردف في لهجته الحازمة: في الغد، الحادية عشرة والنِّصف صباحًا، أمام القصر العدليِّ، سأدفع كلَّ تكاليف إجراءات الطَّلاق، أعتقد أنَّها تكلِّف في حدود ثمانية آلاف.
هتف هيثم في استنكار: ثمانية آلاف ماذا؟ ماذا عن عطلتي عن العمل؟ صرخ رامز في غلظة: هس! اسكت! هل تظنُّ أنَّني سعيد بالحديث مع كلب مثلك حتَّى تأخذ وتردَّ معي؟ عمومًا سأدفع لك عشرين ألفًا، لكن إيَّاك أن تتأخَّر عن الموعد ثانية واحدة، وإلَّا...
كلمة واحدة هي، أحرف قليلة جدًّا، ختم بها رامز حديثه، لكنَّه جمَّد الدِّماء في عروق السَّامعين؛ لما في كلمته من الغضب والحزم والوعيد، وضع رامز سمَّاعة الهاتف، وعاد إلى أخته، ضمَّها إليه، يمسح شعرها ويقبِّل رأسها، ولم تقف أمُّه تتفرَّج هذه المرَّة، لم تشبع من ابنتها بعد، ضمَّتها إليها مع رامز بيد واحدة في رفق، وفي اليد الثَّانية الطِّفلة تمسك بها في حزم كي لا تقع، وبدأتِ الدُّموع تسيل، بدا كأنَّ الزَّمان قد تجمَّد بهم، ربَّما لولا بكاء الطِّفلة الجائعة، لاستمرُّوا واقفين على أقدامهم كلَّ الليل! لكن، هذه الطِّفلة لا تفهم في الحنان إلَّا إذا كان موجَّهًا إليها، أمَّا أن تجوع من أجل مراعاة مشاعر الآخرين، فهذا أمر مستحيل!!
في سريرها القديم كانت زينا سعيدة، تتلمَّس السَّرير، تنظر في أنحاء غرفتها، تقوم وتقعد، تتلمَّس خزانتها، بل حتَّى حائط الغرفة، هنا الأمان يا زينا، هنا الاطمئنان يا فتاة، هنا تعود الحياة من جديد لكِ ولطفلتِكِ، ومن الغد... من الغد ماذا؟ نعم! لن تعود الحياة من جديد، بل ستبدأ زينا حياة جديدة، بكلِّ معنى الكلمة...
ما أبعدَ اليوم عن الأمس! زينا تنهض في نشاط، وتسرع نحو المطبخ؛ تريد أن تُعِدَّ القهوة المفضَّلة لأخيها، في حماسة وسعادة، في فخر به واعتزاز، كم كانت حمقاء حين تأفَّفَت من هذا الأمر فيما مضى! أخذت زينا تنادي بأعلى صوتها، بلا سبب في الواقع: رامز، رامز، رامز... شرب القهوة لا يحتاج إلى هذا الصُّراخ يا زينا! لكنَّها من أعماقها تريد أن تهمس باسم أخيها وتصرخ، هذا أخوها هذا مصدر قوَّتها، هذا... هذا ماذا؟ رامز ليس هنا؟ يا للخسارة!
أمر ما جال في ذهنها بغتة فانقبض له قلبها، لماذا أعطى رامز الموعد لهيثم في الحادية عشرة والنِّصف؟ لماذا لم يطلب منه أن يحضر في الثَّامنة؟ أين ذهب في هذا الصَّباح؟ زينا في حيرة وأمُّها مثلها، أين رامز؟ ساعة تمضي وأخرى وثالثة وأخيرة، السَّاعة الآن الحادية عشرة، وصل رامز أخيرًا، بكَت زينا! لماذا تبكين؟ لأنَّ رامز خرج من الصَّباح إلى السُّوق؛ ليشتري لها ولابنتها الكثير الكثير من الفساتين، والإكسسوارات، ابتسمَت زينا! لماذا تبتسمين؟ رامز اشترى دبدوبًا صغيرًا لطفلتها، ودبدوبًا كبيرًا لها هي! قرَّرت زينا أن تقبِّل يد أخيها، لكنَّها بوغتت به يمسك يدها ويقبِّلها، ويحضنها وجسمه يرتجف، قبل أن يتكلَّم بصوت مخنوق، ربَّما لأوَّل مرَّة في حياته، مناديًا أمَّه: يا أمِّي! زينا أمانة في رقبتِكِ! لا تخرج من البيت إلَّا في أجمل منظر، وأيَّة امرأة تحاول أن تتكلَّم عليها بسوء اقلعي لسانها، أعتمد عليكِ يا أمِّي! وغادر البيت، ولم تحقِّق زينا أملها في أن يشرب القهوة من يدها، بل من ابتسامة عينها وقلبها!
ذهب رامز إلى القصر العدليِّ، وقف أمامه ينتظر، ثمَّ تذكَّر أمرًا مهمًّا، كيف سيلتقي هيثم؟ كلاهما لا يعرف الآخر! لم يلتقيا من قبل قطُّ! المشكلة ليس هنا هاتف عموميٌّ ليتَّصل بهيثم، ولكن لا بأس، لكلِّ مشكلة حلٌّ، حمل رامز رزمة المال في يده، لم يمضِ من الوقت الكثير، إلَّا وصوت يهتف: أنت رامز؟ أنا هيثم! التقت الأعين في نظرة متباينة، في عيني هيثم لهفة وطمع، في عيني رامز هدوء وثقة، ركض هيثم نحو رامز، ولكنَّه وقف في استنكار، لقد ردَّ رامز المال في جيبه، وهو يقول في صرامة: لم أتوقَّع أنَّك غبيٌّ، لكنِّي لن أحزن طبعًا، بالعكس هذا من حسن ظنِّي! وقبل أن يفهم هيثم مغزى الكلام، ارتفعت يد رامز بالمسدَّس! أمام القصر العدليِّ، وأمام رجال الأمن، رامز يصوِّب مسدَّسه إلى هيثم، قائلًا في غضب ما بعده غضب: لقد مددْتَ يدك على أختي وضربْتَها، وستدفع الثَّمن! وأطلق النَّار...
أفرغ رامز خزانة المسدَّس في رأس هيثم، نسفه نسفًا، تجمَّد النَّاس خارج القصر العدليِّ لهول المنظر، اندفع النَّاس من داخله إلى الخارج، أسرع رجال الأمن، ولكن عبثًا، رامز سريع إلى حدٍّ غير طبيعيٍّ، مرق كالسَّهم من بينهم، واختفى، تاركًا الجميع في ذهول، ولكن إلى أين ذهب رامز؟ إلى أين انطلق هذا الشَّهم المليء نخوة ورجولةً؟ (طبعًا مع اعتراضنا على القتل وإراقة الدَّم)، لقد ذهب رامز إلى مركز الشُّرطة يسلِّم نفسه، وقد كان في إمكانه أن لا يفعل ذلك، لا يوجد من انتبه إلى ملامحه هناك، ولا توجد كاميرات، لكن ليس رامز من يهرب من الواقع، ليس رامز من يرتضي على نفسه كلمة الجبان؛ لهذا السَّبب ركض مبتعدًا بعدما قتل هيثم، لأنَّه سيسلِّم نفسه، ولا يقبل بأن يقولوا إنَّهم (ألقَوا القبض عليه)...
تفجَّرَت قضيَّة زينا بتفاصيلها أمام المحكمة والرَّأي العامِّ، مهما كانت أفعال هيثم قذرة، مهما كان ظالمًا، هناك قانون وقضاء، ولا يمكن التَّهاون في ما فعله رامز، حتَّى لو أنَّه يثأر لأخته المظلومة، لكنَّ الواقع كذلك يقول إنَّ رامز لم يقتل هيثم عمدًا لأنَّه اختلف معه على تجارة ما مثلًا، لم يقتل هيثم عمدًا ليسرقه، بل لسبب يتعلَّق بالشَّرف؛ لذا لن يُحكم عليه بالإعدام ولا بالمؤبَّد، ولكن لن يخرج بالبراءة، حكموا عليه بالسِّجن خمس عشرة سنة...
تنتهي قضيَّة زينا، لكنَّها ما تزال مستمرَّة...
تنتهي قضيَّة زينا الفتاة الواحدة المحدودة، وتستمرُّ قضيَّة بنات كثيرات، خاصَّة في مجتمعات بعدت عن الدِّين والأخلاق الإسلاميَّة العريقة، ظنَّت أنَّ الحضارة في اتِّباع عادات غريبة غربيَّة، فانطلقَت الصَّرخات في مجتمعاتنا، في بيوتنا، تتساءل ما نهاية لهب النَّار؟ وأين نجد طريق النَّجاة من وقد الدَّمار؟؟