حكاية شمس
شمس بنت عربيَّة! شمس لا أمَّ لها، تركَتْها أمُّها ورحلَت إلى دار الحقِّ، فنقص في نفس شمس كثير من الحنان والعطف، وليت الأمر توقَّف عند هذا، فلقد تزوَّج والدها، وهذا من حقِّه طبعًا، لكن ليس من حقِّه أن يأتي بامرأة تقهر ابنته وتنظر إليها على أنَّها خادمة لا قيمة لها، وتتكلَّم عليها بكلِّ السُّوء أمام معارفها منَ النِّساء.
فهمَت شمس أنَّها ليسَت سوى خادمة في هذا البيت، وليسَتِ ابنة صاحب البيت، بدا أبوها غريبًا عنها، وبعيدًا كلَّ البعد، بدا أنَّه ليس أكثر من مردِّد لأوامر امرأته هذه، بما فيها من الألم والأسى والقهر والعذاب لشمس، وما أصعبَها من كلمة تسمعها شمس بأذنيها من امرأة أبيها: "لو أنَّ امرأة غيري كانت امرأة أب شمس، لطردَتها من البيت، ولكنَّ قلبي كبير"!
مع تقدُّم السِّنين باتَت معاناة شمس أشدَّ وأقسى، زادَت أعباء البيت عليها كثيرًا، لم تَعُد خادمة لامرأة أبيها فقط، بل لأولادها كذلك، إخوتها من أبيها، والكلُّ ينظر إليها على أنَّها خادمة البيت، مع ذلك، كانت شمس طالبة مجدَّة جدًّا، وتحصل على درجات عليا في مدرستها، لكن في بداية السَّنة الأولى في المرحلة الثَّانويَّة حدثت مفاجأة سيِّئة جدًّا لشمس.
امرأة أبيها أعلنَت أنَّ العلم لا يفيدها ولا ينفعها، وأنَّه بعد اليوم (لا مدرسة)، اعترضَت شمس، ويا للعجب العجاب! صرخَت امرأة أبيها في وجهها تتَّهمها بأنَّها تريد الذَّهاب إلى ثانويَّتها لأنَّها قليلة الأدب! تريد أن (تتمايع) أمام الشَّباب، ويا لكِ من قليلة الأخلاق يا شمس! ما الذي فعله أبوها هنا؟ لم ينتصر لابنته المهذَّبة الأصيلة، بل ضربها لأنَّها قليلة الأدب والأخلاق، مع أنَّها لم تفعل شيئًا، لكنْ، هذا ما قالتْهُ امرأتُهُ، إذًا كلامُها صحيح!
هل تتوقَّف معاناة شمس هنا؟ لا بالتَّأكيد! فمن مصيبة إلى أخرى، ومن كارثة إلى أخرى، فُوجئَت شمس، بل صُعقَت شمس، ستتزوَّج رغمًا عن أنفها، ربَّما هذا أفضل إذ يُبعدها عن هذا البيت الكئيب؟ لا يا شمس لا، زوجُكِ سيقيم معكِ في غرفتِكِ هنا، زوجُكِ هو أخو امرأة أبيكِ، زوجُكِ يعاني كثيرًا في عقله، هو مجنون! صرخَت شمس، اعترضَت، استنكرَت، ضربها أبوها! هدَّدَت بأنَّها ستهرب، ضحكَت امرأة أبيها، اهربي! ما المشكلة؟ سنرتاح منكِ، وسيتحدَّث النَّاس أنَّكِ هربْتِ قبل زواجِكِ لأنَّ أمرَكِ سيُفتضح لأنَّكِ بلا شرف!
وهكذا مضى الأمر بشمس رغمًا عنها، جاء زوجها، ضخم الجثَّة، عديم العقل، رجل مسكين جدًّا، مسالم، لا يفعل شيئًا، لكنَّه مجنون لا يعي، وهذا ليس زواجًا صحيحًا، المشكلة الألعن من كلِّ ما سبق أنَّ امرأة أبيها كانَت تضربه في قسوة كأنَّه عدوٌّ لدود، ولو كان واعيًا لما جرؤت على مدِّ يدها عليه، لقوَّته الجسديَّة، لكنَّ المسكين كان يبكي في ألم، وقلب شمس يتفطَّر حزنًا عليه؛ لأنَّه مظلوم مثلها، لا لأنَّه زوجها، إذ لم يحدث الزَّواج بينهما، فهذا المسكين لا يستوعب من هذه شمس، ولا يعرف ربَّما لو خرج من البيت كيف يرجع إليه، ولو كان على بعد أمتار قليلة منه.
لماذا زوَّجَت هذه المرأة أخيها بشمس؟ لا نجد لذلك تفسيرًا منطقيًّا سوى أنَّها أرادت أن تزيد في قهرها وعذابها، لا أكثر ولا أقلَّ، ولم يستمرَّ الزَّواج طويلًا، هذا لو أنَّ كلمة زواج كلمة صحيحة في هذه الظُّروف، جاءت النِّهاية سريعة، الرَّجل كان مريضًا أساسًا، رحل من الدُّنيا إلى حيث لا آلام ولا أحزان، واستولَت أخته على حصَّته كلِّها، لم تترك لشمس منها شيئًا، وما شأنها بالمال والممتلكات؟ يكفيها أنَّها في هذا البيت، ولم تُلقِها امرأة أبيها (ذات القلب الحنون) في الشَّارع!
تمرُّ الأيَّام والسُّنون، شمس في معاناة حياتها الدَّائمة ومرارة روحها الدَّائبة، ثمَّ جاءها الخبر التَّالي مثل صاعقة شديدة التَّدمير، يا للهول! جاءها عريس جديد، رجل أعمال، ثريٌّ جدًّا، صحيح أنَّ أصغر أولاده أكبر من شمس، وأنَّ هذا العريس يكبرها بأربعين سنة (فقط)، لكن لا مشكلة في هذا! الرَّجل أرمل، ومن حقِّه أن يبحث عن امرأة تشاركه حياته وتخدمه، ومن تكون شمس هذه لتعترض على حقوق الرِّجال؟!
انتقلَت شمس إلى بيت زوجها هذا، رغمًا عن أنفها، طلب منها أن تبدِّل ملابسها وتوافيه ليتكلَّما قليلًا، جاءَته شمس بعد وقت قليل، تنظر إليه في غضب، وقبل أن يسألها عن أيِّ شيء كان، صرخَت في وجهه: أكرهك، أكرهك، أكرهك! وانفجرَت بعدها تبكي وتصرخ، تتحدَّث عن زواجها هذا أنَّه جاء رغمًا عنها، تتحدَّث عن زواجها السَّابق بمجنون، وأنَّ ذلك الأمر جاء رغمًا عنها، تتحدَّث عن إخراجها من الثَّانويَّة، عن كلِّ فظائع امرأة أبيها في حقِّها، بالأخصِّ المجيء بمجنون إلى غرفتها وتسجيله زوجًا لها على الورق، وتزويجها الآن، ربَّما القبر أكثر رحمة، لكن لم لا يأتي الموت حينما نشتهيه؟؟
ظلَّ الرَّجل ينظر إليها في صمت، لم يبتر استرسالها في سرد معاناتها، وحين سكتَت أخيرًا، مدَّ يديه يمسك بها، ويضمُّها بغتة في قوَّة حانية، هامسًا: يا صغيرتي! كم ظلموكِ! ودموعه تسيل على رأسها وخدَّيها، عادت شمس إلى البكاء، أو عاد البكاء إلى شمس، لا فارق، أوَّل مرَّة في حياتها تجد من يضمُّها إليه، تجد من يحتوي آلامها، ربَّما فعلَت أمُّها معها شيئًا من ذلك في طفولتها، لا تذكر، لكنَّها طيلة حياتها تفتقد الحنان، وها قد أتاها!
وعدها الرَّجل بأنَّ كلَّ شيء في حياتها سيتغيَّر، اليوم التَّالي فهمَت شمس أنَّ هذا الرَّجل لا يتكلَّم مجاملات، لقد ذهب إلى الثَّانويَّة وفتح ملفَّها وأعاد تسجيلها، رغم الاعتراض على ذلك، هل ستجلس فتاة في الثَّالثة والعشرين مع فتيات في الخامسة عشرة؟ لكنْ، لكلِّ مشكلة حلٌّ، تعهَّد بعدم حضورها إلَّا لأداء الامتحانات، كادت شمس تطير من السَّعادة، لكنْ، هل يمكنها الرُّجوع إلى الدِّراسة بعد هذا الانقطاع؟ من سيعلِّمها الموادَّ؟
لكلِّ مشكلة حلٌّ مع هذا الرَّجل، عيَّن لها معلِّمات لكلِّ الموادِّ، أقبلَت شمس على التَّعليم بكلِّ شغف، استعادَت بريقها القديم سريعًا واستغنَت عنِ المعلِّمات، نجحت بامتياز، حضنها زوجها وهو يبارك لها، ودموع السَّعادة في عينَيه، صحيح أنَّها امرأتُهُ، لكنَّه يراها كذلك بمنزلة ابنته حين كانت صغيرة وتأتي سعيدة بدرجات النَّجاح، كافأها على تفوُّقها، عاهدَتْه على أنَّها لن تتوقَّف قبل نيل شهادة البكالوريا، لم يُرضِهِ هذا! ماذا تريد إذًا؟ أريد العهد بأن لا تتوقَّفي قبل نيل درجة الدُّكتوراه يا شمس! ورقصَت شمس!
ولو أنَّ علم المدرسة وحده يكفي لظنَّت شمس أنَّها نالَت علوم الدُّنيا، لكنَّ زوجها اصطحبها في رحلات كثيرة إلى شركاته، جعلها تحضر اجتماعاته مع المسؤولين ورجال الأعمال، لم تكن تستوعب شيئًا من مصطلحاتهم في البداية، لكن بتكرار الاجتماعات، وبحوار زوجها بعد كلِّ اجتماع، أكسباها خبرة كبرى لا يُستهان بها، حتَّى لنظنَّها من كبار سيِّدات الأعمال المخضرمات، وهي التي لا خبرة عمليَّة عندها على الإطلاق.
سافرَت شمس كثيرًا مع زوجها إلى بلاد أوروبيَّة متعدِّدة، بين العمل والسِّياحة وزيارة سنويَّة لكلٍّ من أولاده، كما كان هؤلاء الأولاد يأتون في زيارات سنويَّة تباعًا، عرفَت شمس معنى اجتماع العائلة في موائد رمضان، عرفَت معنى اجتماع النِّساء في المطبخ لتحضير طعام الإفطار بالتَّعاون بينهنَّ، وإبداء الآراء، وتبادل النِّكات ربَّما، بعد أن عاشت سنوات تعمل وحدها في المطبخ، وما من يدٍ تمتدُّ إليها في مساعدةٍ ولو بسيطة.
صارَت شمس طالبة جامعيَّة، أنَهت شمس الليسانس، أخذَتِ الدِّبلوم، والماجيستير، بدأت التَّحضير للدُّكتوراه، لكن لم يكن كلُّ هذا متتاليًا بلا انقطاع، كانت تتوقَّف أحيانًا بسبب الحمل والولادة والرَّضاعة، ثمَّ وهي في مرحلة الدُّكتوراه، وكان قد مضى على زواجها سبع عشرة سنة، انهار زوجها تمامًا، وبات وداعه الدُّنيا أمرًا شبه مؤكِّد، طبِّيًّا وعلميًّا.
منذ أربع سنين، وهو يحاول أن يتحامل على نفسه، ويقاوم تعب السِّنين والأمراض، لكن للزَّمان أحكامه، وما من شيء إلى الأبد يبقى مخلَّدًا، أحيانًا كانَت شمس تقرِّب يدها من أنفه وتنتظر حتَّى تشعر بنفحة بسيطة من الهواء، ما يؤكِّد أنَّه ما يزال يتنفَّس، وكانَت تبكي، هذا الرَّجل ليس زوجها فحسب، هذا الرَّجل هو حياتها كلُّها، هو نبض روحها، لا تظنُّ وجود مثيل له في العالم! حتَّى أولاده، الصِّبيان والبنات، كلُّهم أكبر منها سنًّا، لكنَّهم جعلوها الأكبر منهم مقامًا؛ لأنَّها امرأة أبيهم الحبيب الغالي!
هل أغمي على شمس، وهل على صدر زوجها تبكي؟ ربَّما، لكنَّها أفاقت لتجده يحاول احتضانها بذراعه، على ضعفه التَّامِّ، في خفوت همس لها: يا شمس، امرأة أبيكِ لا تخاف الله، امرأة أبيكِ ستعود بعد وفاتي، لتحاول سرقة أموالِكِ وحقِّكِ، ستسعى إلى إعادتِكِ إلى بيتها لتستعبدَكِ من جديد، وتستعبدَ أولادَكِ في بيوت أولادها هي، خدمًا بالمجَّان، ستقضي على حرِّيتَّهم ومستقبلهم وإنسانيَّتهم، يا شمس عديني بأنَّكِ لن تسمحي لها بهذا، عديني بأنَّكِ ستحمي أولادي وأولادَكِ، دعيني أطمئنَّ عنهم قبل أن أموت.
ارتعد جسد شمس، حين سمعَت كلماتِهِ الأخيرة...
ربَّما دُهشِت لكلامه عن امرأة أبيها، وما الذي جاء بسيرتها الآن...
لكنَّها تعوَّدَتِ الأمر، زوجها لا يتكلَّم بكلمة ما لم يكن موقنًا بها...
صرخَت ترجوه أن يتماسك...
لا تمت يا سندي، لا تمت يا قلبي!
أنتَ من أعدْتَني إلى هذه الحياة بعدما كنْتُ أنوي الانتحار...
بكلِّ الضَّعف في جسده وروحه، تمتم في تهالك: عِديني...
وعدَتْه شمس، ابتسم الرَّجل، وهو ينطق الشَّهادتَين، ومات...
في اليوم التَّالي، قبل أن تشرق الشَّمس، دقَّ الباب في عنف...
من هذا؟ بل من هذه؟ امرأة أبيها تلطم وجهها بكفَّيْها وتولول!!
هل هي حزينة على زوج شمس؟ لا!
إنَّها تتحدَّث عنِ الشَّرف والأخلاق!
إنَّها تصرخ في وجه شمس: متى كان لنا بنات يعشْنَ وحدهنَّ؟ ماذا سيقول النَّاس عنَّا؟ هيا وضِّبي أغراضَكِ، جهِّزي أولادَكِ، وامشي معي!
ها هي شمس على المحكِّ! كم كان زوجها حكيمًا وبعيد النَّظر...
هل تستسلم شمس أمام جبروت هذه المرأة التي لا تخاف الله؟
هل تلقي نفسها من جديد في هاوية المهالك، وأولادها معها هذه المرَّة؟
أو أنَّ زوجها قد ترك شخصيَّته القويَّة المؤثِّرة في نفسها وروحها فعلًا، بما يكفي لتمنح نفسها وأبناءها أملًا متَّسعًا في حياة كريمة، ملؤها الأمان وبناء شخصيَّة الإنسان، والانطلاق في الحياة بكلِّ ما النُّفوس من قوَّة، في سبيل تحقيق مستقبل جديد وجميل؟
أيُّهما سيغلب يا ترى؟
الأمل الممضُّ أو الألم المزدهر؟!
(حكاية حقيقية، فقط ربما اسم شمس ليس حقيقيًا في القصة)
المفضلات