حكاية الجنِّيَّة
عماد شابٌّ مراهق، عادل مثلُهُ كذلك، لكنَّما عماد يفهم المراهقة معركةً يجب أن يخوضها ليثبت نفسه بأسلوب أحمق، كثرت مشاكله مع والديه، وهما يريان الدُّنيا في عينَيه، فهو ولدهما الوحيد، مكانته في قلبهما كبيرة، أمَّا مكانتهما في قلبه فباتت موضع شكٍّ ولعب، وإن لم يرهما يصرخان بمنتهى الغضب، لا يشعر بالسَّعادة!
قلنا إنَّ عادلًا شابٌّ مراهق، لم نقل إنَّه صديق عماد المفضَّل، على اختلاف شخصيَّاتهما اختلافًا غريبًا، عادل شابٌّ يريد أن يثبت للكلِّ أنَّه رجل، لكنَّ مشاكله مع أمِّه، بخلاف فكريٍّ مستمرٍّ، عادل يريد أن يعمل وهو في مقاعد الدِّراسة، هذا مفهوم الرُّجولة في نظره، بالأخصِّ أنَّ الوضع المادِّيَّ سيِّئ، والده مات منذ سنوات طوال، راتبه التَّقاعديُّ لا يكاد يكفي شيئًا، ووالدة عادل ترفض فكرة أن يعمل ابنها رفضًا تامًّا.
التقى عادل وعماد، تزاملا وتصادقا، عادل نصح عماد مرَّات كثيرة، يا أخي اهدأ، لا تعذِّب أهلك، لن تفهم أهمِّيَّة أبويك ما لم تفقد أحدهما، عندئذٍ تتمنَّى أن يعود به الموت إليك، لتفعل كلَّ ما يقوله لك، أنا فقدت أبي يا عماد، وأعلم تمامًا ما أقول لك، وعماد يردُّ أنا أريد اللعب والسَّهر، أهلي يرفضون، أنت تريد العمل والتَّعب، أمُّك ترفض، ألا ترى أنَّ أهلنا يحاربوننا، فقط لأنَّنا بتنا رجالًا؟ ألا تعلم أنَّهم يريدون أن نبقى أطفالًا؛ كي لا نخرج عن كلامهم وأوامرهم ونواهيهم بغضِّ النَّظر عن مشاعرنا؟
هل اقتنع عادل؟ لا، كما أنَّ عمادًا لم يقتنع هو الآخر، لكنَّ الحوار كان يستمرُّ بينهما، ولا نتيجة تُذكر، ومرَّت الأيَّام بهما على حالها، وفي تلك الأمسية، أصاب نوع عجيب من الجنون عمادًا، جعله يصرخ مثل الوحوش، إنَّه الآن، رغم أنَّ الظَّلام قريب، رغم أنَّ لسعات البرد مؤلمة، يريد أن يخرج ويتنزَّه وحده، ربَّما ينام في الشَّارع لو خطر في ذهنه أن يفعل!
ارتفع الصُّراخ حتَّى أزعج أهل القرية جميعًا، خرج عماد غاضبًا، أغلق الباب خلفه، انطلق في الشَّوارع يمشي، وهو يشعر بالانتصار، وبأنَّه رجل! بل هو بطل الأبطال، مشى عماد حتَّى أُرهق تمامًا، ثمَّ... ثمَّ ماذا يا عماد؟ البرد يشتدُّ أكثر، آخر أضواء شمس النَّهار بدأت تنسحب بالتَّدريج، اعترف عماد بعد ذلك لنفسه بأنَّه يشعر بخوف شديد، يرى الليل كائنًا مخيفًا يفتح فمه الكبير كأنَّما يهمُّ بابتلاعه!
أسرع عماد نحو البيت يلتمس الأمان، لكن ليس نحو بيته هو؛ كي لا يوصم بالجبن ويتشكَّك أبواه في رجولته المزعومة! لكن أين يكون الأمان إن لم يكن في البيت؟ بيت عادل طبعًا! خرج عادل، وهو يشعر بالانزعاج والغضب، من يدقُّ الباب في هذا الوقت المتأخِّر، وفي البيت امرأة؟ هذا عيب! هذا عار! عماد؟ ماذا تفعل هنا في هذا الوقت يا أحمق؟!
غضب عماد، أحمق؟ الحقُّ عليَّ أنِّي جئتُ إليك! ولماذا جئتَ يا سيِّد عماد؟ تفضَّل أخبرنا! تكلَّم عماد بكلِّ هدوء، بابتسامة واسعة كأنَّها بحر عجيب: لأقضي الليلة عندك ونتسلَّى، انتفض عادل كأنَّه أصيب بتيَّار كهربائيٍّ عنيف! تقضي الليلة عندي؟ ماذا تعني يا أحمق؟ هل جُنِنْتَ يا ولد؟ أمِّي في البيت، فكيف تقضي الليلة هنا؟ يبدو أنَّك تحتاج إلى من يعلِّمك الأدب! يبدو أنَّ...
هتف عماد يؤكِّد أنَّه كان يمزح، بل لا يمزح، هو يريد أن يقضي الليلة، لكن ليس (عنده)، بل (معه)! أين؟ لا يهمُّ ذلك! لقد تقاتل مع والديه وخرج، وهما لن يرضيا بأن يعود الليلة إلى البيت، ليس أمامه سوى عادل ليساعده، سأله عادل في سخرية لاذعة: من أخبرك أنَّ عندي نُزلًا للمسافرين؟ أو فندقًا للأثرياء؟ غضب عماد من جديد، لم يغضب على عادل، بل كان غضبه على نفسه، إذ يتَّضح له كلَّما مرَّت دقائق قليلة أنَّه أحمق بالفعل، عقله قليل، بل شبه منعدم، فكيف يكون رجلًا، وكلُّ كلامه سخافة في سخافة؟
استأذن عادل من أمِّه، خرج بعماد، كان يريد أن يعيده إلى بيته ويتوسَّط له عند أهله، عادل قويُّ القلب لا يخاف الظَّلام، ولا يؤمن بالعفاريت الليليَّة مثل عماد، عماد ليس راضيًا، لا يريد أن يعود إلى بيته الآن، توقَّف بغتة في الطَّريق، يتمتم كأنَّه مسحور: المدرسة، المدرسة، المدرسة، نعم! إنَّها المدرسة!
سخر عادل منه، المدرسة؟ في أيَّام المدرسة أنت لا تسأل عن المدرسة! كلَّ مرَّة تغيب، كلَّ مرة تبدي غضبك لأنَّ المدرسة إلزاميَّة، هل أحببْتَها الآن؟ ردَّ عماد إنَّنا الآن في العطلة الصَّيفيَّة، هذه المدرسة أمامنا، ولقد قرَّرْتُ أن أنام فيها! وفي رشاقة عجيبة لم يتميَّز بها يومًا، تسلَّق سور المدرسة ووثب إلى الملعب، لحق به عادل؛ ليطمئنَّ إلى أنَّه وصل إلى الأرض بسلام بلا كسور، دُهش حين رآه على قدميه معافًى تمامًا، لكن، هنالك ما أدهشه أكثر، وأثار الكثير من علامات الاستفهام في ذهنه، لكنَّه لم يُفصح عن ذلك وقتها لعماد، لسبب لم يفهمْه عادل في تلك اللحظات.
باب المدرسة الدَّاخليُّ الذي يؤدِّي إلى غرف الإدارة والنُّظَّار والصُّفوف مفتوح! تقدَّم عماد في نشاط، وتقدَّم عادل في حذر، الصُّفوف مفتوحة كذلك، زاد الخوف في نفس عادل، وهو الشُّجاع الذي لا يخاف، عماد يمشي في ثبات، وهو المشهور بالجبن الزَّائد على الحدِّ، فكيف انقلبت الأمور وتحوَّلت إلى النَّقائض بغتة؟
عماد لا يرضى بأن يدخل أيَّ صفٍّ في الطَّابق الأرضيِّ، ولا في الطَّابق الأوَّل، فقط في الطَّابق الثَّاني، هنالك صفُّه، لن ينام في أيِّ مكان آخر، هو يحبُّ صفَّه حبًّا جنونيًّا، وبصراحة، بدا لعادل أنَّ في الأمر جنونًا بالفعل، جنون عماد، لا جنون محبَّته صفَّه التي هبطت في قلبه بدون مقدِّمات!
شعر عماد بالدِّفء، مع أنَّ الطَّقس في الصَّفِّ لا يختلف في شيء عن الطَّقس خارجًا، لا يوجد مكيِّفات يتمُّ تشغيلها على تقنيَّة الهواء الحارِّ، لا يوجد دفَّايات غاز أو مازوت، من أين هذا الدِّفء المزعوم؟ ودَّع عادل صديقه عماد وانصرف عائدًا بأقصى سرعته، وقلبه يشعر بالانقباض، هو عائد إلى أمِّه، ليس من اللائق ولا من الرُّجولة أن يتركها وحدها في الليل، وهو رجل، لكنَّه اعترف لنفسه بأنَّه يريد الفرار من المدرسة؛ لأنَّ فيها خطرًا كبيرًا، لا قبل له به، ولا لذاك الأبله عماد.
في زاوية أخرى من زوايا الأحداث، في البيت، حيث جلس والدا عماد حزينين لما يفعله ابنهما بهما، فوجئا بغتة بالباب يُدقُّ في عنف شديد، شهقت الأمُّ رعبًا، فورًا تهيَّأ لها أنَّ هذه الطَّرقات تحمل خبرًا مخيفًا عن ولدها، أسرع الأب يفتح، فوجئ الاثنان بابنهما عماد يندفع داخلًا، وهو يبكي، فوجئا به يسرع نحو أمِّه يحاول احتضانها يلتمس الأمان، تلقائيًّا أبعدت الأمُّ جسدها بقدر المستطاع؛ كي لا تتنجَّس، نعم! عماد الشَّابُّ في المرحلة الثَّانويَّة، عماد الذي يظنُّ نفسه رجلًا، عاد إليها باكيًا، بعد أن تبوَّل في ملابسه حتَّى كاد يُغرقها!
مضى وقت طويل قبل أن يهدأ عماد قليلًا، كلَّ لحظة يُردِّد كلامًا عن جنِّيَّة واجهها في المدرسة وهرب منها قبل أن تحرقه بنيرانها! مدرسة؟ في العطلة الصَّيفيَّة؟ وفي الليل كذلك؟ جنِّيَّة ونيران؟ يبدو أنَّ في الأمر جنِّيَّة حقيقيَّة، لكنَّها تستوطن عقل عماد وتدفعه إلى ترداد الخرافات، لا شكَّ في ذلك، تعمَّق الشُّعور في قلبيهما، فلقد زاغت عينا عماد فجأة، وصرخ بصوت رهيب: عااااااااادللللل! وأسرع خارج البيت يركض، كأنَّه نسي الرُّعب والليل والظَّلام! صرخت أمُّه: لاااااااااا، وفي قلبها شعور مخيف، بأنَّ ابنها خرج الخروج الأخير، ولن يرجع من بعد ذلك إلى حضنها أبدًا!
كم كان غضب عادل فظيعًا! عماد لا يفهم في الأصول! لماذا يدقُّ الباب ويصرخ مثل الوحوش؟ ألا يحترم وجود أمِّ عادل في البيت؟ فتح عادل الباب، أمسك به عماد صارخًا: اهرب يا عادل، اهرب، الجنِّيَّة خرجت في أثرك، تريد أن تأكلك! بل ليتها تريد أن تأكلك! الجنِّيَّة معها نار، وتريد أن تحرقك بها! ولم يفهم عادل ما ينبغي له أن يفعل الآن، أيبكي من فرط الغيظ لهذا الكلام الفارغ؟ أو يُغرق في الضَّحك حتَّى ينقلب على ظهره؟
أسرعت أمُّ عادل على صوت الصُّراخ، وهي ترتجف من هذا الكلام المخيف، طلبت من عماد أن يدخل ليخبرهما بما يقصد، دخل عماد وتكلَّم، ارتعشَتِ الأمُّ مع كلماته، وابتسم عادل في تهكُّم، لا يصدِّق حرفًا واحدًا ممَّا يقوله عماد.
لنرجع قليلًا في ذلك الممرِّ الزَّمانيِّ، عماد في الصَّفِّ يشعر بمشاعر لا يمكنه وصفها، ولا فهمها، لم جاء إلى هنا؟ هناك نداء خفيٌّ دفع به إلى هنا، لكن ما السَّبب؟ لِمَ يشعر بالدِّفء، وقد كان يرتعد بردًا؟ بدا الصَّفُّ بهيجًا إلى حدٍّ فريدٍ! لا تلاميذ ولا أساتذة ولا كتابة على اللوح، لا فروض ولا دروس، شعر بأنَّ أغنيةً غريبةً تتردَّد في ذهنه، انسجم معها وهو لا يفهم شيئًا من كلماتها، ثمَّ انتبه بغتة إلى أنَّها لا تنطلق من ذهنه، بل من مكان ما في هذه المدرسة الحبيبة والمخيفة!
مشى عماد على أطراف أصابعه، نزل إلى الطَّابق الأوَّل، تجمَّد في مكانه كأنَّه صار تمثالًا، من دون إرادة منه، لم توقَّف؟ بل لم تجمَّد؟ لا يعلم! لكن، هذا لحسن ظنِّه طبعًا، بعد ثانية واحدة برز خيال يتقدَّم في الطَّابق الأرضيِّ، وكلمات الأغنية ترتفع بالتَّدريج، وما هي إلَّا ثوان حتَّى برزت أمامه جنِّيَّة! أجل! جنِّيَّة طويلة القامة، شعرها يلامس الأرض، تحمل في يديها موقدًا مشتعلًا بالنَّار، تغنِّي بكلمات لا مثيل لها في اللغة العربيَّة، ولو أنَّها رفعت بصرها قليلًا لرأت عمادًا المرتجف، لحسن ظنِّه أنَّها لم تفعل، بل ما هذا؟ ماذا تفعل؟ يا للهول! لقد ضعْتَ يا عماد! الله يرحمك يا عماد!!
ظنَّ عماد فعلًا أنَّه انتهى، لكنَّ الجنِّيَّة لم تتوقَّف لأنَّها رأتْه هنا، لقد جمدت ملامحها، وبدت لعماد تمثالًا من الأناقة المرعبة! ابتسم عادل في سخرية زائدة هنا، لكنَّ ابتسامته تلاشت، وحلَّت بدلًا منها دهشة عارمة، إذ استطرد عماد إنَّ الجنِّيَّة صاحت بصوت مخيف إنَّ إخوتها الشَّياطين يشعرون بوجود شخص غريب هنا، ثمَّ عادت تتكلَّم باللغة (العفاريتيَّة) تمزج بها كلماتٍ بالعربيَّة، بعد ذلك ذكرت اسم عادل الثُّنائيَّ! يقول عماد هنا إنَّ الرُّعب في نفسه بات مثل الجبال لا يستطيع تحمُّله، وبدخول الجنِّيَّة أقرب صفٍّ إليها، انزلق هو على حرف الدَّرج؛ ليوفِّر بعض الوقت، ووثب بكلِّ قوَّته، وانطلق يركض في الملعب كأنَّه وحش ذاهب لاصطياد فريسة، بل هو الفريسة المسكينة، الجنِّيَّة كانت تحاول اصطياده بشعرها الطَّويل! اصطدم عماد بجدار المدرسة أكثر من مرَّة قبل أن يتسلَّقه ويقفز إلى الشَّارع ويركض إلى بيته، حيث الأمان والاطمئنان.
أمسكت أمُّ عادل بابنها الوحيد بقوَّة، منذ أن ذكر عماد أنَّ الجنِّيَّة ذكرت اسمه وعائلته، ترى هل تريد أن تأكله وتأكل عائلته كلَّها؟ يا ستِّير يا رب! عادل ظلَّ يبتسم في سخرية، وإن شردت نظراته قليلًا، شيء ما في رواية عماد لا يروق له، الرِّواية بأكملها موضع شكٍّ، لكن لماذا جاء عماد إلى هنا ليتكلَّم بهذا الكلام الأبله؟ ما غرضه من ذلك؟ أن يستدرجه إلى المدرسة لسبب ما؟ هل ينوي قتله أم ماذا يريد بالضَّبط؟ هل هذا خاطر خياليٌّ يا عادل؟ لكنَّه أخفُّ خيالًا بكثير من قصَّة الجنِّيَّة التي يكلِّمها العفاريت وتشعر بوجود أحد في المدرسة، ثمَّ تكتشف أنَّ هذا الموجود هو عادل الذي غادر المدرسة، ولا تكتشف ولا تشعر ولا تحسُّ وجود عماد وهو فوق رأسها بسنتيمترات قليلة! فهل هي الجنِّيَّة الخارقة الخرقاء؟ وكيف يجتمع النَّقيضين فيها يا ترى؟
وقف عادل يقول لعماد في هدوء: ما رأيك في أن نذهب إلى المدرسة الآن، وأثبت لك أنَّه لا توجد جنِّيَّة هناك؟ وقف عماد بدوره يهتف متحمِّسًا: نعم، هيَّا، وبعد ثانية تراجع يهتف في رعب بدا مصطنعًا لعادل: لا، الجنِّيَّة قد تقتلنا، معها نار، لن ترحمنا! ما هذه الشَّجاعة يا عماد؟ هل نسيت دورك التَّمثيليَّ بغتة؟ ألقى عماد بطعم آخر، ما رأيك في أن يكون ذلك في الغد، في ضياء النَّهار؟ تحمَّس عماد: نعم، لم لا؟ في النَّهار لا توجد جنِّيَّات، فقط في الليل هنَّ موجودات! وتضاعف الشَّكُّ في نفس عادل أكثر!
كيف جاء عماد إلى هنا؟ على قدميه طبعًا! هل الدُّنيا ضياء أو ظلام؟ بل هي ظلام! إذًا كيف جاء؟ أمر عجيب فعلًا، جاء وحده، بلا أيَّة مشاكل، والآن يرتجف من الخوف، كيف يرجع وحده؟؟ ثمَّ في الليل الجنِّيَّات موجودات، فكيف خرج عماد في الليل، وقد واجه جنِّيَّة بالفعل منذ دقائق قليلة؟
شعر عادل بأنَّ هناك من يتربَّص به ليقتله، لكنَّه كبت مشاعره في أعماقه كي لا يخيف أمَّه المسكينة، أخبرها بأنَّه سيذهب بعماد إلى بيته؛ فليس من الشَّهامة تركه يرجع وحده في الظَّلام، وهو بهذا الخوف الشَّديد، لاحظت الأمُّ أنَّ ابنها اتَّجه إلى المطبخ أوَّلًا، غاب فيه ثوانٍ لا تكفي حتَّى ليصبَّ لنفسه بعض الماء ويشرب، عاد بعدها يمسك يد صديقه ويخرجان معًا، وفي قلبها تردَّد صوت يهمس: يا أمَّ عادل، لن تَرَي ابنَكِ بعد اليوم، أبدًا، أبدًا!
بنظرة واحدة من الأمِّ إلى المطبخ، فهمت ما الذي فعله ابنها، لقد سحب سكِّينًا كبيرة كانت على المجلى، وأخفاها في ملابسه، لماذا؟ هل يريد قتل صديقه عماد؟ مستحيل! لكن، لنترك الأمَّ في خواطرها المخيفة، ولنبحث عن الصَّديقين، هل ذهبا إلى بيت عماد؟ لا، لم يحدث هذا، أين هما؟ هناك طبعًا! يتسلَّقان سور المدرسة، يثبان إلى الملعب، يتسلَّلان داخل المدرسة، إلى الطَّابق الثَّاني، يختبئان في أحد الصُّفوف يرهفان السَّمع جيِّدًا، وكلٌّ منهما يشعر بالخوف بسبب وجود الآخر معه، وكلٌّ منهما يحاول أن يلتمس بعض الأمان في وجود هذا الآخر معه!
بغتة ارتفع صوت الغناء (العفاريتيِّ) الأنثويِّ، بغتة ارتفعت صوت وقع حذاء أنثويٍّ يدقُّ الأرض في إيقاع عجيب، بغتة أدرك عادل أنَّه وقع في فخٍّ مخيفٍ! كلام عماد صحيح، لكن بتعديل رهيب، الجنِّيَّة ليست في الطَّابق الأرضيِّ! إنَّها هنا! تمشي في بطء وهدوء، خيالها ينساب تدريجيًّا أمام عيون ترتجف، فما البال بالأجساد، وكيف الحال بالأرواح؟ موقدها يُشعُّ نارًا، ها هي تقترب قليلًا قليلًا، أسرع عماد يحتضن عادلًا وهو يرتجف، عادل نفسه نسي شجاعته كلَّها وارتجف بدوره، أحدهما أغرق نفسه، أو كلاهما، لا نعلم، تحسَّس عادل بيد ترتعد سكِّينه، فلم يجدها! هل ضاعت منه في الطَّريق؟ هل سرقها عماد الذي يُمثِّل دور الخائف المذعور؟ هل؟ نسي عادل كلَّ الأسئلة والفرضيَّات والنَّظريَّات، ها هو خيال الجنِّيَّة وموقدها النَّاريُّ يبدوان في منتهى الوضوح، ها هو وقع خطوات حذائها يرتفع، بصوت ينافس نبض قلب عادل، ها هي ملامح جسدها تدخل دائرة الضَّوء، ثانية واحدة فحسب، وتصبح الجنِّيَّة أمام الصَّفِّ تمامًا، ثانية واحدة فحسب، لا بل أقلَّ من ذلك، تلتقي العيون السِّتُّ في لقاء عجيب، لقاء نادر مخيف، ومواجهة ناريَّة عنيفة، ما بين الجنِّ والبشر!!
ما الذي حدث بعد ذلك؟
نترك تصوُّر النِّهاية لخيالكم الخاصِّ!
لكن نقول إنَّه فعليًّا طرف من هذه الأطراف الثَّلاثة مات بالنَّار في تلك الليلة...
طرف عاد إلى بيته يبدو شاردًا ساهمًا كلَّ الوقت...
ولا يُعلم هل هو فعلًا كذلك بسبب صدمة فظيعة لم يتوقَّعها في حياته...
وطعنة غادرة من أحبِّ النَّاس إلى قلبه...
أو أنَّه يدَّعي التَّوهان لسبب ما؟
وطرف اختفى من القرية....
ولم يُسمع عنه أيُّ شيء بعد ذلك...
على الإطلاق!
رتِّبوا الأحداث والنِّهاية...
وزِّعوا أدوار الشَّرِّ والخير على الشَّخصيَّات...
واخرجوا بالقصَّة بما تحبُّ أنفسكم...
وبما تهوى!!
المفضلات