أمَّا تلك الفتاة فجاءت مسرعةً نحوي، تقول لي في غضب هادر: أعطني ماما! سألتها متهكِّمًا: لماذا؟ هل تظنِّين أنَّني أضعها في حقيبتي؟ أجابت وهي تكاد تصرخ: أظنُّ؟ أنا متأكِّدة! رأيتُكَ تضع ماما في حقيبتك؟ هذه جريمة شرف! ستسيل الدِّماء! دماؤك يا أستاذ!
الله يبشِّرُكِ بالخير! ما هذه البشارة الرَّائعة؟ أخبرني عبَّاس أنَّ هذه أخته، كنْتُ قد توقَّعْتُ ذلك فعليًّا من قبل أن يخبرني هذا الخبر العالميَّ! فجأةً أشرق وجه عبَّاس، وهو ينظر إلى سيِّدة تمشي في الملعب، أمسكْتُ به من يده، واتَّجهْتُ نحوها، هتفا في صوتٍ واحدٍ، في لهفةٍ متبادلةٍ: مدام/عبَّاس، واندفعَت نحوه تحتضنه وتمسح رأسه، سألتُها هل تُدرِّسه الآن؟ أجابت بالإيجاب، سألتُها كيف تقيِّم أداءه في الصَّفِّ؟
هذه إنسانة تفهم معنى التَّعليم والتَّربية، هذه إنسانة تفهم معنى الإنسانيَّة، احتضنت عبَّاس أكثر، وانحنت كأنَّها تودُّ الجلوس على ركبتيها، كي لا يرى إشارتها من فوق رأسه أنَّ الأمر ميؤوس منه تمامًا، وهي تهتف متحمِّسة: عبَّاس؟ يقبر قلبي! شطُّور شطُّور، الله يحميه! رُنَّ الجرس هنا، انتهى وقت الفسحة، وقفَت هي، لمحْتُ في عينَيها التَّردُّد، فتحت فمها لتتكلَّم ثمَّ سكتَتْ، انصرفت أخت عبَّاس به، وهي تشير إليَّ بيدها متوعِّدة، قلْتُ للمعلِّمة في ثقة تامَّة: والآن تكلَّمي، وكوني واثقة بأنِّي أعرف ما ستقولين لي!
تردَّدَت أكثر، قالت في عناد: من قال إنَّ عندي كلامًا؟ ابتسمْتُ قائلًا في سخرية لاذعة: زميلتُكِ التي تشير إليكِ من خلفي ألَّا تتكلَّمي، تظنُّ نفسها ذكيَّة وهي تحاول إخفاء الحقائق؟ شهقَتِ المسكينة شهقة كدْتُ أظنُّ أنَّ روحها خرجت معها! المعلِّمة الأخرى الحنون جمدَت في ذهول، وكلتاهما تهتف معًا: كيف؟ كيف عرفْتَ ذلك؟ نظرْتُ إلى المعلِّمة الَّتي أمامي بدون أن أجيب، بعد لحظات من صمتها قالت: نعم، أظنُّ أنَّك تعرف! أنا معلِّمة اللغة الفرنسيَّة، صحيح أنَّ عبَّاسًا لا يكتب ولا كلمة، ومعظم الوقت مثل النَّائم في الصَّفِّ، لكنْ أحيانًا قليلة، أطرح سؤالًا صعبًا، لا أحد يجيب عنه في الصَّفِّ كلِّه، أجده يقف ويجيب عن السُّؤال، إجابته صحيحة تمامًا، أكاد أبكي وأنا أرجوه أن يوضِّح لنا كيف علم بالإجابة، لكنَّه يعود إلى صمته ولا يجيب بعدها، هل هو مخبول؟
مخبول؟ يبدو أنَّكِ تظنِّين أنَّ في جسد عبَّاس جنِّيًّا أنتِ الأخرى! يا عزيزتي عبَّاس عبقريٌّ، ليس ذكيًّا فحسب، لكنَّه رفض البيئة الصَّفِّيَّة تمامًا لسبب ما، أو لأسباب ما، ويجب أن أعرفها، ذهبْتُ إلى غرفة الإدارة ولحقَتْ بي تلك المعلِّمة الخرقاء، تهتف بي تطلب أن أتوقَّف، وأن أشرح لها كيف عرفْتُ أنَّها خلفي، وأنَّها تشير إلى صاحبتها بالصَّمت؟ قلْتُ لها في جدِّيَّة: تكرمي! سأكشف لكِ السِّرَّ، لكن لا تخبري أحدًا!
التهب الفضول في أعماقها، سرٌّ، ولا تخبر أحدًا! يا سلام، نظرْتُ إليها، شردَتْ نظراتي بغتة كأنَّني أنظر إلى شيء وهميٍّ يحلِّق حولها في الهواء، ما أثار توتُّرها، وأنا أقول في صوتٍ عميقٍ: لقد أخبرني الجنِّيُّ الذي يركب عبَّاس يا ذكيَّة! شهقَت في رعب، صرخَت هل تمزح؟ قلتُ لها في تهكُّم: أمزح؟ هل عندَكِ حلٌّ آخر لهذا اللغز؟ هربَت عيناي من مكانهما إلى ظهري فرأتا حضرتَكِ وإشاراتِكِ؟ أو هناك عينان خفيَّتان، عينا جنِّيٍّ طبعًا، رأتاكِ وأخبرتاني؟
يا لملامح الرُّعب في وجهها! تابعْتُ إلى غرفة الإدارة، أطلب من المدير أن يفتح لي سجلَّات علامات عبَّاس منذ التحاقه بالمدرسة، وأن يخبرني بالوقت الذي سيجيء فيه طبيب المدرسة لأنَّني أريد أن أراه، وأن... هتف الرَّجل: ما هذا؟ هل تظنُّ أنَّني موظَّف عندك؟ بحثُك انتهى، المعلِّمة التي رأيتَها عندي تقدَّمَت بشكوى ضدَّك منذ قليل، وأنا لن أقبل بأن تتابع بحثك في مدرستي، ثمَّ إنَّ...
تابعْتُ بدلًا منه: ثمَّ إنَّ كلَّ الأمور واضحة، هل تعتقد أنَّك تخفي الأسرار؟ عبَّاس كانت علاماتُهُ مميَّزة في الصَّفِّ الأوَّل تمامًا، تراجعَت قليلًا في الصَّفِّ الثَّاني، لكنَّه هنا في الصَّفِّ الثَّالث لا شيء أبدًا، ثمَّ هل تظنُّ أنَّ ما فعلَتْه هذه المعلِّمة يخفى عنِّي؟ شهقَت كعادتها، وشاركها هو هذه المرَّة، وهتفا في ذهول: كيف تعلم كلَّ هذا؟ أجبْتُ في برود: لقد أخبرتُكِ قبل قليل، لكنَّكِ لم تقتنعي، هل تريدين أن يخرج الجنِّيُّ من عبَّاس ويركبَكِ لتستوعبي؟؟
فعلًا كيف عرفْتُ بكلِّ هذا؟ من نظرة أوَّليَّة إلى رسمة عبَّاس، ولسْتُ خبيرًا بالرَّسم ولا أجيده، لكن تبيَّن لي الكثير من العناصر المتحقِّقة، لم يرسم عبَّاس دوائر سخيفة، بل ركَّز على التَّفاصيل، محقِّقًا كمِّيَّة كبيرة من عناصر الرَّسم: الرَّأس عنصر، الشَّعر عنصر، كلُّ أذن عنصر، كلُّ عين عنصر، كلُّ حاجب عنصر، عظمة الأنف عنصر، كل فتحة عنصر، وهكذا، عندنا – على ما أذكر – اثنان وخمسون عنصرًا، وعبَّاس حقَّق قسمًا كبيرًا منها، ما يؤكِّد أنَّه ليس غبيًّا، ثمَّ كلام معلِّمة اللغة الفرنسيَّة كشف لي عن ذكاء عبَّاس الخارق، لا بدَّ أنَّه بدأ قويًّا لامعًا متميِّزًا، ثمَّ تسبَّبت له هذه المعلِّمة بأذى فظيع جعله يكره المدرسة وينبذها، كيف علمْتُ ذلك؟ لأنَّها منذ اللحظة الأولى تريد منِّي ألَّا أندفع في البحث، وهي تتجسَّس على كلِّ ما أقوم به، وتحاول إقناعي بأنَّ عبَّاسًا غبيٌّ، والدَّليل على ذلك محاولاتها إسكات زميلتها كي لا تخبرني بهبَّات عبَّاس العبقريَّة الفذَّة الفجائيَّة.
يبدو أنَّ كلماتي وجدت أثرًا كبيرًا، طلب المدير من المعلِّمة الانصراف، وطلب منِّي أن أتفضَّل بالجلوس، نظرْتُ إليه في ثبات، كأنَّما أقول له لا مفاوضات، قال إنَّه سيخبرني بكلِّ شيء، جلسْتُ منتظرًا إبداعاته، ولقد أبدع فعلًا، عبَّاس بهرهم جميعًا في الصَّفِّ الابتدائيِّ الأوَّل بذكائه وعبقريَّته، كانت كلُّ نتائجه (أ) في كلِّ الموادِّ، هذا يعني أنَّه عبقريٌّ، لكن فجأة حدث له حادث مع هذه المعلِّمة التي تسلَّمَت صفَّهم فجأة، مرض عبَّاس، غاب شهرين، عاد بعدها كأنَّه في كوكب آخر، كلُّ علاماته (و) في كلِّ الموادِّ!
أمَّا في الصَّفِّ الابتدائيِّ الثَّاني، فبدأ عبَّاس بتميُّز مذهل، كلُّ علاماته (أ) في كلِّ الموادِّ، لكن فجأة حدث له حادث مع هذه المعلِّمة التي تسلَّمَت صفَّهم فجأة، مرض عبَّاس، غاب ثلاثة شهور، عاد بعدها كأنَّه في كوكب آخر، كلُّ علاماته (و) في كلِّ الموادِّ! أمَّا في الصَّفِّ الابتدائيِّ الثَّالث فمن بدايته عبَّاس صفر على الشَّمال، وهذا كلُّ شيء! لا يا عزيزي لا، هذا ليس كلَّ شيء، ما هو هذا الحادث العجيب الذي حدث مرَّتين في سنتين متتاليتين، وتسبَّب في غياب عبَّاس، مرَّة شهرين، ومرَّة ثلاثة شهور، وبعدها يرجع كأنَّه في كوكب آخر، وقد فقد ذكاءه وعبقريَّته كلَّها، هكذا فجأة؟؟
اليوم التَّالي كان عندنا حضور في المدرسة نفسها قبل وقت التَّعليم في التَّكميليَّة، وقد جاء والد عبَّاس يطلب مقابلتي! في عينيه غضب شديد، و...

يتبع إن شاء الله