رمضان كرييييييييم يا حلوين , وشكرا حار لكل من يقرأ الرواية وإليكم الفصل الرابع


4 ـ النوايا المزدوجة .
ثلاثة أيام انصرمت من عمر الأيام , و(كريستين) مع شقيقتها في قصر
آل (ستيوارت) ..
ثلاثة أيام مثلت الدهر بذاته , جراء ما شعرت به من الملل والسأم والكآبة ..
(ديانا) تزور طبيبها لمدة ساعة واحدة كل يومان , يرافقها أحد الخدم من القصر , وتمض (كريستين) الساعات الطوال وحيدة , تتنقل في ضيق ما بين الحديقة وأرجاء القصر المنيف , الهادئ دائماً ..
(ويلي) يمض لمدرسته ليعود مرهقاً بعد الظهر , بالكاد يجيبها , أما (وليم) فهو قصة أخرى عجيبة ..
(كريستين) تقسم في أعماقها أنها لم تقابل قط رجل مثله , منذ مجيئها لم يتبادل معها سوى بضع كلمات , لا تتجاوز .. صباح الخير , عمت مساء ً , فقط ..
فقط !
الأمر الذي سيؤدي بها للجنون ..
من أي شيء قد هذا الرجل ..
ودفعها عقلها الغاضب إلى احتمالات عدة ..
إما أنه خلق من صخر لذلك خلا قلبه من إحساس الرجل الطبيعي , أو أنه ...
الثري ذي الأطوار الغريبة ..
نعم , لا تجد صفة أكثر ملائمة له سواها ..
لقد اعتادت أن تكون محط أنظار الرجال في (دوفر) ..
الجميع يحوم حولها, والجميع يتمنى لو تجود له بنظرة..
مركزها الاجتماعي, وجمالها الأخاذ يبهر كل من يراها ..
إلا (وليم)..
يا للقدر ..
(كريستين) التي طالما استمتعت بإذلال كل من يقترب منها ..
أضحت في نفس موضع أولئك البؤساء ..
بالأمس أذلت ناصية نبلاء (دوفر) .. واليوم يذل نبيلاً من (لندن) ناصيتها ..
وليته يشاركها الوجبات ليتسنى لها مبادلته أطراف الحديث, بل أنه منعزل دائماً في غرفة ما أقصى الرواق الشرقي , تاركاً إياها مع (ويلي) الذي يتجاهلها على نحو سافر, وشقيقتها (ديانا) تقض معظم وقتها متنقلة بين حديقة القصر وإسطبلات الخيول , غير مدركة أبداً نوايا شقيقتها ..
لكن (كريستين) لم تعتد رفع راية الاستسلام بسهولة ..
إنها (كريستين هارولد) ..
الأرملة الأكثر شهرة في (دوفر) ..
لن تسمح لشخص كـ(وليم) بإذلال ناصيتها ..
أبداً ..
وفي هذا الصباح اتخذت قرارها ..
إن لم يشعر بها (وليم) بهدوء فستجبره بسحرها ودفئها أن يفعل ..
وفي الغرفة المخصصة لها , ارتدت ثوباً فضفاضاً في لون السماء , عاري الذراعين , قصير كعادتها , وطوقت عنقها بعقد من اللؤلؤ الطبيعي , مع لمسة عطرية ناعمة , دفعت بالمزيد من الثقة لفؤادها , وغادرت الغرفة وفي رأسها تعربد فكرة واحدة ..
يجب أن ينظر (وليم) إليها ..
تريد أن ترى نظرات نهمة في عينيه , واهتمام يشوبه الحب ..
نعم , هي تريده أن يقع في حبها ..
رغماً عنه سيحبها ..
وعن طريق إحدى الخادمات وصلت لمرسمه , وتمالكت أنفاسها قليلاً , وقرعت الباب
وانتظرت ..
أجابها الصمت فقط , فأنتابها السأم من الانتظار , فعادت تقرع الباب في إلحاح مزعج , ولا مجيب أيضاً , فعقدت حاجبيها الجميلين , وزفرت قائلة في حنق :
ـ هل يمارس العاملون هنا نوعاً من العبث معي ؟
وقرنت قولها بدفع الباب في بساطة , فانفرج عن غرفة واسعة , مشرقة في ارتياح , بأشعة شمس الصباح التي تتوسد أرضيتها الخشبية , وان كانت توحي بالفوضى والإهمال , بلوحاتها وأوراقها , وفي المنتصف تماماً وقف (وليم) يضرب لوحته بفرشاته , وقد توقف عن الرسم , وأرسل إليها نظرات حيرة ودهشة ...
ولأول مرة ينتاب (كريستين) شيء من الخجل , ورجل ما يتأمل محياها الرقيق , فسرت حمرة خجل طفيفة على وجنتيها , دفعتها للقول في ارتباك ضايقها شخصياً :
ـ عذراً يا (وليم) , لكن طرقت الباب عدة مرات ولم يجبني أحد , فدخلت .
استمر متطلعاً إليها بذات النظرات التائهة , كالذي يراها للمرة الأولى , ففسرت نظراته تلك على نحو خاطئ , الأمر الذي جعلها تفقد سيطرتها على أعصابها لتصرخ في حدة مباغتة :
ـ لست كاذبة , إنها الحقيقة .
اضطرب (وليم) كثيراً من صوتها الحاد المباغت , لدرجة وقوع فرشاته و طبق ألوانه في صوت مزعج , وهو يتراجع للخلف مطبق الشفتين , ممتزج الحاجبين , وقد تسارعت نبضات قلبه , وتعاقبت أنفاسه , وفرت الدماء الطبيعية من وجهه , فغدا شاحباً شحوب الموتى .
بلغت دهشة (كريستين) مبلغها مع حالته هذه , وأدركت بطبيعتها الخبيثة أنه يعاني من متاعب ما , وتواثبت قطرات السعادة في حناياها , وبسرعة تفوق التصور , تقمصت الوداعة واللهفة الخائفة , وهي تثب إليه قائلة :
ـ رباه , هل أرعبتك يا عزيزي ؟
أشاح بوجهه عنها , وحاول عبثاً السيطرة على خفقات قلبه , وقد أرعبه صوتها المرتفع بحق .
وضعت (كريستين) كفها على صدره , وأودعت شفتيها أكثر ابتساماتها إغراءً وفتنة ,
وهي تستطرد في قلق كاذب :
ـ آسفة جداً , أنا الملامة على تصرفي , و..
بترت عبارتها حينما شعرت بنبضات قلبه أسفل كفها , تكاد تخترق صدره , وأدركت أنه خائف للغاية , وبالرغم من جهلها أسباب كل هذا الذعر والأمر لا يستحق , إلا أنها قررت استغلال هذا الأمر لصالحها , فربتت على صدره , ورفعت رأسها إليه ودفعت بالمزيد من أريجها العطري لأنفاسه , والسكينة الخادعة تملئ عينيها , وتأملت وسامته في افتنان , ثم ملت نحوه هامسة كالأفعى :
ـ لا تقلق , (كريستين) هنا , وستظل بجوارك لترعاك .
تجاهلها تماماً ومازال مشيحاً بوجهه , وقد عجز حتى عن الرد مع ارتجافه شفتيه , وجزءً كامن في ذاكرته يخبره أن من تقف جواره , تحمل الكثير من دفئ زوجته وحنانها , فرفع ذراعيه في بطء ليحتويها , لولا صرخة ألم انبعثت من أعمق أعماق فؤاده , تحمل صوت زوجته الحبيبة , فأزاحها عنه برفق , وركض مغادراً مرسمه وهو يسد أذنيه بكفيه , والألم يغزو ملامحه , ويعمي بصيرته .
وقفت (كريستين) في مكانها حائرة , فتصرفه أقلقها وأسعدها في نفس الوقت ..
إنه بحاجة للمزيد من الوقت معها , لتكسب وده وحبه , لكنه غير طبيعي ..
بل إنه ..
معتوه ؟!
أجل .. إنه كذلك ..
مثلما توقعت ..
تألقت عينيها في نشوة , واستدارت تنظر للوحاته وهي تهمس في ثقة :
ـ إنه مريض يا (كريستين) , هذه فرصتك الذهبية , لن يقف شيء بينك وبينه , ستجذبينه بقلبك ودفئوك , واهتمامك المزيف , ومع شخص كهذا .. لن يكتشف خداعك له أبداً .
تطلعت للوحاته الغامضة , ومررت سبابتها على إحداها وقلبت شفتيها قائلة في امتعاض :
ـ ياللسخف , لوحات غبية , من المؤسف أنه فاحش الثراء .
استمرت تستعرض لوحاته وإهمال مرسمه , و حذاؤها يدوس أكوام الأوراق في استهتار ..
ثم أردفت في خيلاء :
ـ إنه لا يستحق كل ما حصل عليه في حياته .
من يصدق أن (وليم ستيوارت) معتوه ؟
ضحكت في سرها وهي تضم ساعديها أمام صدرها , متخيلة نفسها تزف لمعتوه مثله , ولكن لا يهم ..
عائلتها تواجه شر الإفلاس , وسمعتها على المحك ..
والكونت المعتوه هدفها ..
لن يقف أحد في سبيل أهدافها ..
وستقذف (ويلي) كالحذاء القديم من طريقها ..
و..
" ماذا تفعلين هنا ؟ "
صكت هذه العبارة الغاضبة أسماعها , فأفاقت في فزع من أفكارها , وعقدت حاجبيها في شدة وهي ترى (ويلي) أمام عتبة المرسم , غاضباً حانقاً , ولم يمهلها لتستعيد جأشها بل وثب نحوها , وغرس أصابعه في ذراعها العاري وهو يتابع في خشونة :
ـ ما لذي جاء بك إلى هنا ؟
أحتل العناد والغضب محل الصدارة في مشاعر (كريستين) فأستاعدت ذراعها وصرخت في ثورة :
ـ لا شأن لك , وإياك والتدخل في أموري .
صاح في ثورة مماثلة :
ـ ليست أمورك فقط إن تعلق الأمر بعمي (وليم) .
انقلبت سحنتها وبدت أشبة بالشيطان وهي تتراجع للوراء , وتصوب إليها نظرات تحرق الفؤاد , بادلها بمثلها , وأسرعت تغادر بدورها , محاولة إيجاد منفذ آخر يفضي بها لـ(وليم) , لا سيما الآن وقد أدركت جزء من متاعبه .
أما (ويلي) فقد زفر في غضب , والخوف يتسلل إلى أعماقه ويعبث جيداً بمشاعره ..
مثلما تكهن ..
هدف هذه المرأة عمه ..
وتغير الأمر يا (ويلي) , فعوضاً عن خوفك من عمك على هذه المرأة , أصبح الأمر معكوساً ..
ومرعباً ..
فطن لحالة الألوان المسكوبة أرضاً , فانحنى وحملها مع الفرشاة في عناية , ووضعها على المنضدة الرخامية , ولفت انتباهه أنبوب الألوان الفارغ , ذي اللون الأسود , فحمله في حرص , واحتواه بين أصابعه قائلاً لنفسه :
ـ إن ابتعت المزيد من هذه الألوان القاتمة , فسأحتفظ بعمي (وليم) إلى الأبد .
واحتوت راحته الأخرى الأنبوب , وعقله شارداً لما وراء حجب النظر ..
نعم .. سأبتاع كل الألوان الداكنة في المتجر ..
سأجعلك تنغمس في سواد سرمدي ..
هذه هي الطريقة الوحيدة التي أضمن بها الاحتفاظ بك لي ..
لا أريد شفاؤك من مرضك ..
أريدك أن تبقى كما أنت ..
لا تقوى على العيش دوني ..
قلبك لي فقط يا عمي الحبيب ..
للأسف يا (ويلي) ..
لست مختلفاً أبداً عن (كريستين) ..
وكما تسعى هي لاستغلال ضعفه ومرضه , ستفعل أنت الشيء ذاته ..
حبك الأناني لعمك , سيحطمه دون أن تشعر ..
هذه هي المؤامرة القذرة ..
والضحية , (وليم) البائس ..