السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أتيت لكم اليوم بـ "قصة قصيرة" بعنوان
"قصة نظرة"
بقلم الكاتب
يوسف ادريس
قبل أن أعرض لكم القصة إليكم نبذة قصيرة عن الكاتب:
"يوسف إدريس علي" أمير القصة العربية، من مواليد19 مايو1927م في البيروم الشرقية. مفكر وأديب مصري كبير، قدم للأدب العربى عشرين مجموعة قصصية وخمس روايات وعشر مسرحيات. ترجمت أعماله إلى 24 لغة عالمية منها 65 قصة تـُرجمت إلى الروسية. كتب عدة مقالات هامة في الثمانينيات بجريدة الأهرام صدرت في كتاب "فقر الفكر وفكر القصة".
حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عام 1966م والتشجيعية عام 1991م، يقول دنيس جونسون ديفز إن اسمه كان ضمن أسماء المرشحين المحتملين لنيل جائزة نوبل للأداب عام1988م والتي حظي بها الأديب العالمي نجيب محفوظ . كما أنه واحد من أشهر الأطباء الذين تركوا الطب ليمتهنوا الأدب. كان يتلمس الألغام الاجتماعية المحرمة ويتعمد تفجيرها بقلمه وظل يتمتع بحيوية الرفض لكل ما يحد من حرية الانسان في كل ما يكتب.
لمزيد من المعلومات عنه http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%8A%...B1%D9%8A%D8%B3
والآن أترككم مع القصة متمنية من الله أن تنال رضاكم
كان غريبًا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانًا كبيرًا مثلي لا تعرفه في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله وكان ما تحمله معقدًا حقًا، ففوق رأسها تستقر صينية بطاطس بالفرن وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة وكان الحوض قد انزلق برغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه، حتى أصبح ما تحمله مهددًا بالسقوط. ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل وتلمست سبلاً كثيرة، وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من الصاج وتعود فتميل الصينية، ثم اضبطهما معًا فيميل رأسها هي، ولكنني نجحت أخيرًا في وضع تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبًا حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.ولست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أرى لها رأسًا وقد حجبه الحمل، كل ما حدث أنها انتظرت قليلاً لتتأكد من قبضتها، ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير، لم تلتقط أذني منه إلا كلمة ستي.ولم أحول عيني عنها وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي يـُنظف بها الفرن أو حتى من رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين.وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض وتهتز وهي تتحرك ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها وهي تخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء ولكنها سرعان ما تستأنف المضي. راقبتها طويلاً حتى امتصتنني كل دقيقة من حركاتها، فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة، وأخيرًا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار.استأنفت سيرها على الجانب الآخر، وقبل أن تختفي، شاهدتها تتوقف ولا تتحرك، وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام، والحوض والصينية في أتم اعتدال. أما هي فكانت واقفة على ثبات تتفرج، ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون ولم تلحظني ولم تتوقف كثيرًا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف ، استدارت على مهل، واستدار الحمل معها وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة، ثم ابتلعتها الحارة.
وأخيرًا جماليات القصة: << نقلاً عن مذكرة النصوص للمرحلة الثانوية ^^
بين "طفلة صغيرة" و"انسانًا كبيرًا".. طباق يوضح المعنى ويقويه.
صغيرة.. تدل على حاجتها إلى المساعدة والرحمة.
قد انزلق.. أسلوب توكيد مؤكد بقد، تمثل عنصر في الأزمة القصصية.
قبضتها الصغيرة التي استماتت عليها.. كناية عن قوة إمساكها بالحوض.
لم تطل دهشتي وأنا أحدق.. يدل على سرعة استجابته لرغبة الطفلة.
الحيرى.. يدل على سيطرة الاضطراب عليها.
سبلاً.. يدل على كثرة الطرق التي حاول بها الكاتب مساعدتها.
ما بين أسوي و يميل.. طباق يوضح المعنى ويقويه.
تغمغم.. تدل على عدم قدرتها على الإفصاح عما تعانيه من آلام.
لم تلتقط أذني منه إلا كلمة ستي.. أسلوب قصر أداته النفي والاستثناء، غرضه التخصيص والتوكيد.
ستي.. كانت رمزًا لكل مظاهر الخوف والتسلط.
ما كنت أرى لها رأسًا وقد حجبه الحمل.. كناية عن صغر رأسها.
تغمغم بكلام كثير.. كناية عن اضطرابها.
ثوبها القصير الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن.. هذا التشبيه يدل على فقرها وقسوة ستها.
رجليها اللتين تطلان كمسمارين رفيعين.. يدل على الهزال والفقر الشديد.
تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض..يدل على دقة أصابعها وفقرها.
الفتحات الصغيرة الداكنة.. كناية عن عينيها الصغيرتين، استعارة تصريحية شبه عينيها بالفتحات.
تستقر.. تدل على ثقل الحمل وثباته.
مخالب الكتكوت.. حول الكاتب أظافر الكتكوت إلى مخالب ليوحي بأن الطفلة تحولت أصابعها الصغيرة إلى مخالب مجاراة للأقدار التي فرضت عليها أن تتحول إلى مخلوق له مخالب.
رأسها.. مجاز مرسل عن عقلها علاقته كلية.
بطء كحكمة الكبار.. تشبيه يدل على حسن تصرفها.
امتصتني كل دقيقة.. "صورة مركبة" كناية عن شدة المتابعة والاشفاق عليها، استعارة مكنية شبه نفسه بسائل وشبه الدقيقة بإنسان تدل على شدة تأثره بمنظر الطفلة.
كان كل شيء على ما يرام..كناية عن اعتدال الحمل على رأسها.
أطفال في مثل حجمها.. تشبيه يوضح المفارقة بين حالها وحالهم.
يهللون ويصرخون..كناية عن النشاط والسعادة.
ابتلعتها الحارة.. استعارة مكنية شبه الحارة بحيوان يبتلعها تدل على اختفاء الطفلة عن ناظره.
أسأل الله أن يكون الموضوع قد نال رضاكم
أترككم في رعاية الله وأمنه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المفضلات