التفتت كاترين الى الصغير
الذى تحول الى تمثال صامت يحدق باتجاه واحد فقط,
وكأن الحياة قد خلت حوله الا من الذئب..
فلم يعد ينظر الى سواه
أحست الأم بقلقها على الصغير..
فوضعت حدا للموقف بقولها :
أعتقد أنكم بحاجة الى النوم بعد يومكم الشاق
اتجهت كاترين مع الصغير الى الغرفة
التى أعدتها الأم لهما
وأخذت تتأمل الغرفة ومحتوياتها,
كانت غرفة واسعة مريحة, ومرتبة جيدا
وتحوى كل الأثاث الضرورى وسبل الراحة
أخذت الأم تدور فى الغرفة
وتتأكد من ان جهاز التكييف يعمل بشكل جيد,
وكذلك الإضاءة
سألتها كاترين بدهشة :
يبدو أن جهاز التكييف لم يعمل من مدة طويلة
قالت الأم : نعم, فمنذ وقت طويل لم يأتينا ضيف
قالت بدهشة :
الا تستخدمون تلك الغرفة الا عندما يأتيكم ضيف؟
الأم :في كل منزل في القرية غرفة مخصوصة للضيف،
تسمى "غرفة الضيف"،
جاهزة دوما للإستقبال في أي وقت,
ولا أحد من أهل البيت يمكنه استخدامها ،
إكرام الضيف واحترامه له مكانة عظيمة لدى الشيشانيين,
وخاصة فى القرى
" فالبيت الذي لا يدخله ضيف- لا تدخله البهجة والسرور "،
كما يقول المثل الشيشاني
كاترين بامتنان كبير :
لا أدرى ماذا أقول,
ولكنى حقا سعيدة للتعرف باناس مثلكم
أتمنى الا يتسبب وجودنا هنا فى أية مشكلات
أو يعرضكم لأية مضايقات
اقتربت منها الأم وأمسكت بيديها
وهى تبتسم مطمئنة وقالت بلهجة حانية :
نامى قريرة البال, واطمئنى
فمن قواعد إكرام الضيف عندنا،
الحفاظ على حياته، والدفاع عن كرامته،
وحماية ممتلكاته مهما حدث
ونحن قوم نحب أن نتمسك بتقاليدنا
التفتت الأم للصغير,
فوجدته قد توسد الفراش واستغرق فى نوم عميق
اقتربت منه وخلعت حذائه بهدوء
ووضعت رأسه على الوسادة برفق,
وغطته بالأغطية الثقيله
قالت كاترين براحه :أحمد الله أنه نام أخيرا
أردفت بأسف كبير :
كنت أظنه لن ينام أبدا بعد ما رآه اليوم,
لكم أشعر بالألم والشفقة لحاله
تنهدت الأم بعمق وقالت بحزن :
هناك آلاف من الأطفال مثله, بل وأسوأ حالا منه,
لهم الله, فهو نعم المولى ونعم النصير
قالت كاترين :هل يمكن أن أتحدث الى زميلى؟
الأم : بالتأكيد,
خرج عمر من حجرة الفتى آدم
بعد أن نادته الأم بناء على طلب من كاترين
تركتهما الأم فى بهو البيت
واتجهت الى غرفة الجد لتطمئن عليه
قال الذئب بهدوء : هل تشعرين بالراحة هناك؟
هزت رأسها وقالت باسمة :
بالتأكيد, فالسيدة لا تدخر وسعا لطمأنتى
واشعارى بالراحة
قالت بعجب : هل كل العائلات الشيشانية بتلك الحفاوة؟
قال بتأكيد :كما تقول الأساطير،
وُلِد الشيشاني و قطعة حديد في إحدى يديه- رمز المحارب،
وقطعة جبن في اليد الأخرى- رمز إكرام الضيف.
قالت متعجبة : لم يسألونا أى سؤال,
لم أتينا, أو من نحن!
قال بهدوء :خلال الأيام الثلاثة الأولى
من غير اللائق أن يٌسأل الضيف أي سؤال,
فالضيف لدينا يعيش في البيت كعضو شرف بين العائله.
تنهدت وقالت : أظن أنك تشعر بالراحة هنا
فآدم فتى لطيف, أليس كذلك؟
شرد قليلا وقال : نعم, يذكرنى بشخص ما
قالت بعد تردد : أود أن أقول لك شئ,
عليك أن تكون أكثر حرصا
فى اظهار مشاعرك السلبية تجاه الروس أمام الصغير..
فكما أخبرتك.. هو ينظر اليك كمثل أعلى,
ويراقب كل حركاتك وتصرفاتك,
ويتوحد مع مشاعرك أيا كانت
التفت اليها
وقال بهدوء يشع بالغضب العارم المعربد فى أعماقه :
أتظنى أنه ينتظرنى لأعلمه كيف يكره قتلة أهله وشعبه؟
لم لا تسألينه عن أمه المعتقلة فى جروزنى؟
لم لاتسألينه أين أباه الآن
هل فى إحدى المعتقلات يتجرع العذاب ألوانا
بأحط الطرق وأشنعها على الإطلاق
أم رحمه الله بالإستشهاد فى مقبرة جماعية
لم تكتشف حتى الآن
لم لاتسألينه عن أهله,
وماذا يفعلون فى المستشفى الجنوبى؟
كم منهم لايزال على قيد الحياة
وكم منهم استشهد متأثرا بجراحه من جراء القصف الروسى؟
وكم منهم فقدوا أعضاءهم أو أصيبوا بعاهات
لن يبرأوا منها مدى الحياة؟
لم لاتسألينه أين بيته؟
وهل لازال هناك منه بقايا؟ أم محى من الوجود؟
الروس لاينتظرون منا أن نعلم أولادنا كراهيتهم,
فهم يقومون بهذا الدور ببراعة منقطعة النظير
وفى كل الأحوال, نحن الخاسرون,
يخسر أبناءنا سلامهم النفسى,
ويعيشون ما أراد لهم الله البقاء معاقين نفسيا,
يحملون أمراضا لا شفاء منها
ظلت تتأمله وهو يتحدث, وعينيها تتسع بتأثر كبير,
وعجز جفناها عن حمل كل هذا القدر من الدموع,
فتركتها تنسكب على خديها
ظلت صامتة لفترة, حتى وجدت أخيرا ما تقوله :
اذا فقضية السلام... قضية خاسرة؟
عقد حاجبيه بشدة
وقال بنفس صوته الهادئ الذى يحمل الغضب الكثير :
هناك حكمة شيشانية تقول
(من لا ينشد السلام, يقع فى الحرب)
وجهت السؤال الى الجانب الخاطئ, عليك أن تسأليهم هم..
هل يريدون السلام؟
قالت بتعاطف كبير :لقد عانيت كثيرا, أليس كذلك؟
قال مؤكدا : كأى انسان يحيا على هذه الأرض,
ويسكن تلك الجبال,
يسعى الى الحرية ويرفض أن يترك وطنه للغزاة
قال منهيا الحوار :
والآن عليك الذهاب الى النوم, فغدا أمامنا رحلة شاقة
اتجه الى باب البيت, فاستوقفته قائلة بدهشة كبيرة :
الى أين فى هذه الساعة المتأخرة؟
والجو شديد البرودة
قال وهو يفتح الباب ليخرج :
سأتفقد الطريق.. لتأمين المكان
قالت قبل أن يخرج :فقط سؤال أخير
نظر اليها فقالت بتردد : هل.....هل زوجتك جميله ؟
شعرت كاترين بالندم وتمنت لو لم تسأله
وذلك عندما شاهدت النظرة الحزينة التى هربت من عينيه
قبل أن يخرج بسرعة ويغلق الباب خلفه
دون أن ينطق بكلمة أخرى
تنهدت بعاطفة كبيرة وهى تقول بحنان :
أيها الوحيد الغريب
لكم تفتقد أحضان أهلك وأحبتك,
لكم تشتاق الى دفء بيتك
و تراب وطنك
المفضلات