..
بِســمِ اللهِ الرَّحمَـنِ الرَّحِيـــم
السَّلامُ عليكُـمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتُـهُ
..
،
يُــومٌ عمـل جدِيــد .. رُوتِينِـي قاتِـل كالعَـادة ،
المكَـان مُزدحِـم ، الأصوَات تعلُـوا و تتهادَى ، صخـبٌ فضٍيــع يكسُوا المكَـان ..
صُـوت رنيـن الهواتف يختَرق حصنَ الأذن ، و نقاشَـات و تنسيقَـات العمـل هيَ السَّائدة بينَ الزُّملاء
هذا يطلبُ القهوة من الخَادِم ، ذاك يصفُ عشاءَ البارِحة لزمِيله .. ، آخرٌ يُلقي نُكتـة سخِيفَـة ، و آخرٌ أسخَـف يستمعُ إليها و يضحكُ عليها ..
هكذا هُـم ، في عالـمٍ آخـر طالما أنّ ليسَ عليهِم رقيـب في هذهِ الفترَة مِـنَ اليُـوم
..
ليـسَ لِي إلا أن أضـع رأسِي على مكتَبـي منزَعجـاً ، لتبدأ الإتهَـامـات تتراشَقُ على نفسِي تِباعـاً
لِـمَ بحقّ الجحيـم سهرتُ البارِحة لفوقَ المعتـاد ؟ لمَ انشغلتُ بِذاك ؟ لماذا لم أنظِّـم وقتِـي كما اعتدتُ أن أفعَـل ؟
لماذا أشعُـرُ أني مُنهك ؟ هل لأنَّـي لم أنم جيداً البارِحَـة ؟ هل لأنّ ذهنِـي ليسَ صافيٍ ؟ ..
تستمرُّ الإتهامَـات ، و تستمرُّ الأمانِـي الورديَّـة بطلب الخلاص و الإنتِهاء سريعـاً من هذا اليُوم لأعُود لمنزِلي للرَّاحـة ..
لـمْ أشعُـر بنفســي .. ، ذهـبــتُ فِـي سُبـاتٍ يكَـادُ يكُون عمِيـق ،
هيَ بعينِها القيلُولة اليوميَّـة التي لا تحلُوا لي إلا مكتَبِـي .. أخـذت بِي كلَّ مأخّـذ كمَـا اعتادت أن تفعَـل
..
فجـأةً ، لا أدرِي لمَ سَـادَ الهُدوء المكَـان و تركَّـز الصَّوتُ في مكـانٍ مُعيَّــن ،
لستُ آرَى مصدَر ذلك الصَّوت فيدِي تحجِبُ الرُّؤيـا و أنا مُتكِئ على المكتَب و لستُ أملك من الهمّة لتحرِيكها من شدّة الإرهَـاق ،
اخترتُ حلَ الإستمَـاع طالمَـا أنّ السُّبـات بدأ بالإختِفـاء تدرِيجيَّـا و لستُ أملكُ من الهمّة ما يكفي لإرجَـاعه ،
أصَـواتٌ مؤلُوفَــة ، هـم زُملائِـي و أصدقاءُ العَمـل .. نعم هُـم و لا غيرهُـمُ
يبدُوا موضُـوعـاً مُهمَّـا ذلك الذي يشذّون و يجذِبُون فيـه ،
ما زادتي حرصاً على الاستمَاع أنّه بدَا و كأنه موضُوعٌ ليسَ لهُ علاقـةً بأمور العمـل الرّتيبــة .
يتردّدُ على كلامِهُـم إسمٌ مؤلُـوف ، إسـمٌ عرفتُ صاحبُـهُ قدِيمـاً و كانتْ بيننا علاقـة معرفيَّـة ..
..
[ مُعـــاذ ]
نعـم هذا هُو الإسـم بعد أن التقطتـه من شدّة تركِيزي معهـم ،
و هذا المُعـاذ شـابٌ حسن المعشَـر أصِيل المنبَـت في حالهِ لا يتعدَّى أحـد ، شخصيَّـة مُسالمـة تعامُليـاً ..
و لكن ما يعِيبُــه هُـو تهـوّرهُ الشديــد و اندفـاعه و انقياده خلفَ عُنفوانَ شبابهِ الذي على ما أذكُر لا يؤمُرهُ بشيءٍ تُرجَـى السَّلامـة منـه ..
بعـد مُرور شرِيـط الذكريَّـات أمَام عيناي المُغلقتيـن ، أعدتُ التركِيـز لحدِيثهم لعلّي أعرف السّبب الذي جعلهُـم يذكُرُونـه بعدَ فتـرةٍ و طُول غيـاب
علمتُ أنّ الخبر لن يكُون بجيَّـد الوقع ، و لكن ضللتُ استمع على اية حـال ..
و إذا بِي أستمعُ الكَلمـة التي خشيتُهـا ، [ حَـادِث ] .. !
عِندَهَـا رفعتُ رأسِـي و دبّ فيَ النشـاط و دفعنِـي الفضُول لأشدّ لي كُرسي متحرّك و اقتَرِب منهم و اباغتهم بسؤال جَـازِف ،
[ ما الذي حدث بالظبـط ؟ ] ..
التفـت إليَ أحدُ الملمِّيـن بتفاصِيـل الخبر ، و أجابَنِـي :
- حصلَ حـادِث لِمُعـاذ !
- كَـانَ هُو و أخُـوه و صديقٌ لهـم يردِفـون ثلاثـةً في دبَّـاب نـاري ذُو أربَـع إطـارات و يقُـودُون بِـهِ بِسرعةٍ جُنونيَّـة و يقُومُون بالتَّمهِيـر بهِ و الإستعرَاض
حتّى حصـل و أن باغتهم سائِق ما بالتفافـة مُفاجِئـة ففُقد مُعـاذ السّيطرة على الدّباب النّـاري
و كَـانَ أن قُذف بعيـداً و سقطَ على الأرض و أخُـوه وقعَ مُباشرةً على الأرض هُو و صاحبهـم
فكَــان أن حصلَ في معـاذ خللٌ مَـا في مركَـز التّحكَّـم العَصبِي من وقعِ السّقطَـة قد تُسبب لهُ شللاً كامِلاً و حصلَ في أخُـوه
جرُوحٌ بلِيغَـة و لكن ليستْ خطِيـرة ، و صاحِبهم حصلَ لهُ نزِيـفٌ داخلي و دخلَ في غيبوبـة غير معلُومَـة المدّى ..
لا حـولَ و لا قُـوّة إلا بالله ..
و الآن مـاذا حصـل لِمُعـاذ ؟
- لقـد أجرَى عمليـة تكلّلت بالنجَــاح أعـادت لهُ القدرة على الحِـراك تدرِيجيَّـاً ..
الحمـدُ لله الذي ستَــر ، هـل زُرتمُــوه بعـد ؟
- ليـسَ بعـد ، كُنَّـا نخطّط لذلك اليُـوم بعد انتهـاء الدّوام العملـي ..
جمِيــل جداً ، خُذُونـي معكُـم !
- حسنـاً ، لا يُوجَـد مانِـع
..
لا أدري حقيقـةً لماذا كانت رغبَتِـي مُلحَّـة فِي الذّهـاب لزيارتِـه رغـم أني لا أحبُّ ألتواجُـد في المُستشفيَــات
جوُّهـا يحيطَـك بالكـآبـة ، و رائِحتها الفريـدة تلك في الأدويَـة و الأمـراض ، و المناظِـر التي تقشعرُّ لهَا الأبدَان ، و هُدوئُهَـا الغرِيـب ..
لا أُحبَّ ذلك الجـوّ ، و لا أحبّ تلكَ الرَّوائِـح ، و لا تلكَ المناظِــر .. ، و لا ذاكَ الهُـدوء
و لكنني على الرًّغـم مِن ذلك طلبتُ الذّهـاب !
..
كَـانَ المُتبقَّـي من انتهـاء الدَّوام العَملِـي الشيءُ القليـل ..
فأخـذتُ أرتِّبُت أمُـوري و مهامِـي ، السَّهـل منهـا و العاجِـل ، و الصعب و المعقـد هيَّئتُـهُ للغـد ..
يأتيني الموظّفيـن ليكلّمونـي في أمورٍ مَـا فأجيبهـم بما تقتضيه الحاجَـة دُون زيـادة أو كلف ، كانَ بالـي مشغُـولاً حقـاً ،
عـدّت الدقائِـق و مرَّت اللحظَـات حتَّـى حَـانَ موعِـد انتهـاءُ الدَّوام ..
..
تناولتُ هاتفِـي و مفاتِيحـي و ذهبتُ حتّى المدخَـل ، لأرَى أصدقائِـي يتفقّـون في الذّهـاب في سيارة صديقنا الآخـر الكبِيـرة و التي ستسِعُنَـا جميعـاً بإذنِ الله ،
ركبنـا و ما أن ركبنــا ، حتَّـى بدا اهتمامُهـم الجليّ بقضيّـة هذا الفتَــى مُعــاذ ،
أخذُوا يتبادلُـون أطـراف الحدِيــث عنه و عمَّا حصلُ لهُ بالتفاصِيـل المُمِلَّـة ،
يقُـولون أنّ السائِق الذي التفّ عليهم قد لاذ بالفرار ، و يقُـولون أنَّ أخـاه الآن سليمٌ معافى ، و يقُولون أنّ حالة صديقهـم الثالِث حرِجة للغايـة ،
و عمِيقـاً ما يغُوصُون في تفاصِيـلٍ أنا في غِنىً عنهَـا
أمّا أنَـا فكنتُ عند جهـة شُباك السيارة المفتُـوح ، أستَمِـعُ لحدِيثهـم و استمتعُ أيضـاً بِنسمِ الهواءِ العلِيـل الذي يضرِب الوجه و يُنعشه ..
و المناظِـر السّريعة المختلفـة لأنمَـاط الحيـاة اليوميَّـة في هذهِ المدينَـة ، لشيءٌ رائِـع ..
ضللتُ هكـذا طوِيـلاً ، حتَـى أن وصلنَــا لمواقف سيَّـارات الزُّوار
..
هبطنـا جميعـاً على الأرض ، و سرنـا معـاً حتَّـى المشفَـى ،
و ماهيَ لحظَـاتٌ حتَّى بدأتُ بالشُّعـور بالبرد ، و ذلك الجوّ الكَئِيـب ، و تلكَ الرائِحة التي أميُّزهـا ، و ذلِكَ الهُدوء المُرِيـب
إنّها اللحظة التي تُخبِـرك أنَّك قد تجاوَزت حدُود المشفَـى و أصبحتَ بِداخلـه ! ، ..
سألُوا أصدِقائِي في مكانِ الإستقبَـال عن اسـمِ المرِيـض و مكَـانِ غرفتـه ، فحصلُوا على اجابَتِهـم ..
استقلّينـا المصعَـد لنصـل لدورٍ بعيـــد ذلك الذي يرقُـد فيه صاحِبُنـا مُعـاذ ، ..
و مَـا أن حصـل صوتُ تلكَ النغمَـة .. حتَّـى فُتـح المصعـد فخرجنَـا منه و قد كَـانت غرفتـهُ مُلاصقة لهذا المصعَـد ،
..
اقتربنَــا و دخلَ اصدقائِـي واحداً يلي الآخـر ..
لا زلتُ لا أرى ماذا بداخـل الغُرفَـة ، الأمور غير واضِحَـة بعـد ، فقد كُنت آخر الدَّاخلِيـن ..
حانتْ اللحظَـة ، لا أدرِي حقيقـةً و لكن كَان هُنالك شعُـورٌ غرِيــب غامض يُخالجنـي آن ذاك ..
دخلـتُ لأجِــد مُعـاذ أمامِـي مُباشـرةً مُمدّداً في سريـرٍ طبِّـي و ظهرهُ مسنُـود و قد تمكَّن الزَّمن من تغييرِ بعضٍ من ملامِحه ،
كَـانَ بالكَـاد يتكلَّـم أو يُحرّك يديـه ، و بالطّبـع المحاليل قد اخترقت جزءاً كبِيـراً من يديـهِ الإثنـتان .. و كَانتْ أيضـاً هُنالك ابتِسامةٌ برِيئَـة تعلُوا محيَـاه
قبَّـل أصدقائي رأسـه و تمنَّـوا لهُ الشفـاء العاجـل و كَـانَ هذا ما فعلتهُ أيضـاً عندمَـا حَانَ دورِي ،
و بعَـد ذلك التففتُ قلِيـلاً لكي أجـدَ لي مكـانٌ مَـا أجلِسُ فيـه ، فوجـدتـه ، مكَـان مُريح و قِبالـة صاحِبنا مُعـاذ ،
فجلَـستُ فِيــه .. و أثنَـاءَ ذلك كَـانً أصدِقـائِي يتسامرُون مع مُعـاذ و يخفّفون عنـه و يُحاولوا أن يضحِكُوه رغمَ عيائِـه ..
و كَـانَ هُو يردُّ عليهم بكلمـاتٍ بسِيطة و قليلة جرّاء قدرتـهِ المعدُومة على الكلام ،
..
أمَـا أنَـا ، فلَـم أُشارِكُهـم الحدِيـث ، و اكتفِـي بالإبتِسَـام عندمَا ينظُر إليّ معــاذ ، ..
فقـد كُنت مشغُـولاً بالتحدِيــق إليـه و تفصِيصِ وضعَـه ،
نظــرةٌ غرِيبـة حفظتُهـا ظهراً عن غيـب ، تلكَ التي تُـراوِدُ الأطفَـال عندمَـا يفعلُـون شيئـاً خاطِئـاً و متهوّراً ،
و عندما يمرُّ ذلك الموقف برداً و سلاماً ، تعلُوا وجُوههـم تلكَ النَّظـرة التي تخبـرك بأنّ صاحِبها قـد ’’ تعقَّــل و تَـاب ’’ من فعلتـهِ هذه ! ..
هذا ما رأيتُـهُ على وجهِ صاحِبنَــا ، نظـرةٌ غرِيبـة عجِيبــة ، تدلُّ على انكِسَـارٍ و توبـة بِلا رجعَـة
هذا شيءُ أفرحَنـي كونِـي سأطمئَّن على ما إن كَان سيعُـودُ متهوِّراً طائِشـاً كما كَان أم سيرتَجِـع !
..
عـدَّت الدقّائق و الثَّـوانِـي ، لم نُطـل البقَـاء معـهُ لكِـي لا نتعبـه و نعيي بـه أكثَـر ممَّـا هُـو عليـه ،
و لهذا هممنَــا بالرحّيــل بعـد أن ودَّعنَـا مُعــاذ و تمنِّينَـا لهُ الشّفــاء و آنسنَـا لهُ وحدتــه ،
خرجَ أصدقائـِي من الغرفـة تواليـاً أيضـاً كما دخَلُـوا ، و أيضـاً كُـنتُ آخِـرَ الخارِجيــن ،
خُطوات أصدِقائِـي كانتْ سرِيعة فسبقُونِـي ، أمَّـا أنا فكنتُ أمشِـي بخطواتٍ هادِئَــــة ..
كُنت أمــرّ بجانِب غُـرف المرضَـى فِي قسـمِ الحوادِث الذي شَـاءَ القدر أن يرقِـدُوا فِيـه بأوضَاعَ متفاوِتَــة ،
هذا رأسـهُ لا أدري ما بِـهِ ، ذلك يدهُ مربوطَـة ، و آخـرٌ يُحيطُون بِـهِ الأطبَّـاء لسببٍ لا أعرفه ، و ذَاك تعلُوا وجهه كدمَـات جعلتْ من لون وجههِ أزرقـاً و أحمَراً ..
..
أمـرٌ غرِيـب ..
لطَالمَــا كُنت مُحافظَـاً على نفسِـي طَوال السَّنِيـن التي كُنت فِيها ناضِجَ العَقـل و عاقِـل التًّصرّف ،
و لهـذا و بفضلٍ من ربِّ العالمِيـن ، لم أصبْ بأيّ نوعٍ من الإصابات التي تكُون لنفسِك المتعدّيـة دورٌ كبيـر فِيهـا ،
الحمـدُ لله ..
حسنـاً ، مـاذا عن هَؤلاءِ النَّـاس ؟
هـل وهبهـمُ الله أجسامـاً عفيَّـة ليقُومُـوا بالتعدِّي عليهَــا ؟
..
لم أشــأ أن أنظُــرَ زيــادةً على ما رأيـت ، حصلتُ على كِفايتِـــي ، فأسرعتُ بِخطوَاتِـي كي ألتَحِـق بِرفقَتِــي .. لم أراهُــم ، ربَّما هم ينتَظِـرُونـي في السَّيـارة ؟ ،
على كلٍ أزدادت سُرعتِــي حتّى رأيتُ بـابَ المشفَـى أخِيــراً .. بَـابُ الخلاص من هذا اليُــوم ،
و مَـا أن تجاوزتُـــه ، حتَّى وقفـت .. و نظـرتُ إلى الأعلَـى .. إلى السَّمـاء التي قد تلبَّدتهَـا الغُيُـوم ، و زفـرتُ نَفَسِـي بقوَّة ،
تساؤُلات عجِيبـة أطرحُها دُون إجابـة ، قضَـاءُ الله و قدرهِ شيءٌ لا اعترَاض عليـه بالتأكِيـد ..
و لكِـن هل أولئِك البَشَـر قد أخذُوا بالأسبَــاب ؟ ..
هــلْ هيَ الحَيــاةُ رخِيصــةٌ القِيمَـة لدِيهَــم حتَّى يتعدُّوا على نفسِهـم بهذا الشَّكــل ؟
حقٌّـاً .. مـاذا قد يفيـد العِـرَاك ؟ ماذا قد يفِيـد التهوّر و العجـل ؟ ماذا قد يُفيـد التّعدِّي و الإفـراط ؟
*
*
*
إنتهَـــــى !
المفضلات