انطلقت سلوى خارج بوابة جامعتها مودعةً كتبها وصديقاتها وهي في قمة السعادة. فاليوم قامت بأداء آخر امتحان لها في سنتها الجامعية الأخيرة، اليوم أغلقت الباب على سنوات أمضتها بالمذاكرة والسهر والتعب.
اليوم ستستمتع بالحرية بعيداً عن قيود المحاضرات والكتب، كان ذلك هو كل ما فكرت به سلوى بعد استنشاقها أولى نسمات الهواءخارج أسوار جامعتها. فعادت إلى بيتها وجلست مع أمها وإخوتها لتحدثهم عما مرت به أثناء الامتحانات.
الآن انتهى الامتحان، ولم يبقَ إلا أن تُعرف نتيجة الجهد الذي بذلته سلوى، فيوم إعلان النتيجة قد اقترب، وقلبها كان ينبض بشدة كلما فكرت باللحظة التي ستعرف فيها نتيجتها، فكانت تحسب الساعات والدقائق وكأنها تعد العد العكسي بانتظار تلك اللحظة.
في اليوم الموعود انطلقت سلوى إلى الجامعة، لتعرف نتيجتها وتريح قلبها الذي تلاطمته أمواج أمواج القلق. وقفت أمام لوحة الأسماء تبحث عن اسمها، عيناها تقفزان من اسم إلى آخر ومن نتيجة إلى أخرى، و دقات قلبها تتزايد كلما بحثت أكثر، وفجأة لمحت اسمها، وقفت ساكنة دون حراك، لم تصدق نفسها، هل هذه هي نتيجتها؟! هل هذا حقيقي؟!، "ناجحة! أنا ناجحة!". هتفت سلوى ثم أسرعت نحو بيتها، تمشي بخطى متسارعة، كل خطوة تجر معها ضحكة، تريد أن تصل إلى البيت بسرعة، لتبشر أمها وإخوتها بنتيجتها.
دخلت سلوى البيت، لتجد أن عائلتها قد أعدت لها احتفالاً بماسبة نجاحها، فالكل توقع لها ذلك، والكل كان يعرف مقدار الجهد الذي بذلته لتحقيق هدفها بالتخرج، فكان الكل موجوداً ليحتفل بها، ما عدا والدها الذي غادر المنزل بعد أن رمق ابنته بنظرة جافة قائلاً لها: "هاقد حققتُ لكِ حلمكِ وخرجتكِ من الجامعة، حان الوقت الآن لتسددي ثمن ذلك". نظرت سلوى إلى والدها وقد عقدت الصدمة لسانها، ثم تمالكت نفسها وعادت لتجلس بين إخوتها، فما الذي كانت تتوقعه منه؟ هل توقعت أن يعانقها ويبارك لها نجاحها؟ لا، فهي تعرف والدها الذي أعماه حب المال، هل كانت تتوقع أن يطبع على جبينها قبلة ويرفع رأسه فخراً بها؟! أبداً، فهي تعلم أن لا شيء يجعله يفخر إلا المال. حبست سلوى دمعة الألم في عينيها، كي لاتفسد فرحة أهلها بها، وأكملت الاحتفال مع باقي أفراد عائلتها.
في اليوم التالي خرجت سلوى تبحث عن عمل ، لتقي نفسها من لسان والدها الذي أمات فرحة النجاح في قلبها. أرادت أن تجد عملاً في أسرع وقت فهي لا تريد له أن يبدأ بالتذمر وافتعال المشاكل إذا ما تأخرت عن جلب المال له. ولحسن حظها قُبلت سلوى في إحدى الشركات، فحمدت الله على توفيقه لها في إيجاد وظيفة.
شعرت بالخوف في البداية حين استلمت العمل، فهي وحيدة في مكان كبير، الكل فيه مشغول بعمله ونفسه، ولا أحد مستعد لإضاعة الوقت بتعليم هذه الموظفة الجديدة أسس العمل في الشركة، فواجهت الكثير من المشاكل وتعرضت للكثير من المواقف المحرجة أمام زملائها. لكنها لم تستسغ طعم الفشل، فقررت أن تتعلم بنفسها أسس عملها، أخذت تسأل هذا وذاك، وتجمع المعلومات من هنا وهناك، حتى شعرت أنها الآن قادرة على المضي في عملها كبقية الموظفين، فأصبحت الموظفة النشيطة التي يعتمد عليها الجميع، وكسبت احترام كل من في الشركة.
كان الوقت الذي تمضيه في العمل بالنسبة لها هو أسعد أوقاتها، لكنها كانت تخشى من المساء، حين تعود إلى البيت وترى والدها بانتظارها، هو ليس بانتظارها حقيقة، بل هو بانتظار أن تدخل والراتب بيدها، كانت المسكينة بانتظار استلام راتبها بفارغ الصبر كي ترتاح من تشكيه الدائم وعبوسه في وجهها. وفي اليوم الذي تسلمت فيه أول راتب لها عادت إلى البيت والبسمة على شفتيها، فاليوم ستسعد والدها وستعطي أمها وإخوتها بعض المال ليشتروا ما ينقصهم، قسمت راتبها نصفين، النصف الأول أعطته لأمها، أما النصف الثاني فدخلت إلى غرفة أبيها لتسلمه إياه، نظر إليها وصرخ: "ما هذا؟ أين الباقي؟"، سألته بخوف: "باقي ماذا؟!"، فرد عليها: "باقي الراتب، أين أضعته؟"
- لم أضعه، أعطيته لأمي.
صرخ في وجهها:" ما هذا التصرف الأخرق؟ هيا اذهبي وأحضريه منها"
شعرت سلوى برغبة في البكاء، فكيف تأخذ المال من أمها بعد أن أعطتها إياه!، لكن صراخ والدها أصم أذنيها فذهبت وأخذت المال من أمها وأعطته له، حينها انفرجت أساريره وابتسم قائلاً لها: "خذي"، نظرت إلى يده التي امتدت بمبلغ لا يكفي حتى لشراء حذاء جديد تذهب به إلى عملها بدل حذائها الذي تآكل من كثرة ما وُطىء. قالت في نفسها: "و ما الذي توقعته منه أصلاً؟ أن يقول لي لا يا عزيزتي! اذهبي واشتري ما ينقصك؟!"، تنهدت بحسرة وحمدت الله، فعلى الأقل كان كريماً كفاية ليعطيها ما تضعه في حقيبتها.
صبرت المسكينة على تسلط والدها عليها، تحملت حياة التقشف التي أجبر عائلته على عيشها فقط ليرى المال أكواماً بين يديه. كانت تذهب أحياناً إلى سريرها باكراً، لتتجنب رؤيته وصراخه الدائم عليها، كانت تطمر نفسها تحت الغطاء وتبكي قهراً، فما الذي بيدها أن تفعله لتغير هذا الوضع!.
عاشت سلوى على هذه الحال سنة كاملة، اعتادت فيها على نظرة والدها الجافة إليها، اعتادت فيها على استعباده لها، فقد كان ينتظرها يوماً واحداً في الشهر، يكون فيه واقفاً بالباب ليسألها لحظة عودتها من عملها: "هل نزلت الرواتب؟ هيا أمامي إلى المصرف!"، فكان يجرها إلى المصرف لتسحب كل رصيدها ولا يسلمها إلا مبلغاً ضئيلاً.
لكن في أحد الأيام اتصل بها أثناء العمل وأخبرها أن تطلب من مديرها شهادة تفيد بأنها تعمل موظفة في هذه الشركة، استغربت سلوى من هذا الطلب فأخذت تسأل من حولها عن فائدة هذه الورقة، فجاء الجواب ليصدمها، بأن هذه الورقة تُعطى لمن يريد أن يأخذ قرضاً من المصرف،خافت المسكينة وأخذت تتساءل ترى ما الذي يفكر به والدها؟! ما الذي ينوي عليه؟!.
بعد أن عادت إلى البيت مساءً ، وجدته بانتظارها، فقال لها : "تعالي". مشت خلفه بخطى ثقيلة، لم تكن تريد أن تسمع ما يريد منها هذه المرة، أرادت أن تغلق أذنيها وتهرب ، دخل معها إلى غرفته وأغلق الباب، قال لها: "اسمعي، أنا أمر بضائقة مالية وأحتاج إلى مبلغ كبير، لذا ستأخذين قرضاً من المصرف الذي تتعاملين معه"، صاحت سلوى:"ضائقة مالية؟ كيف ولديك راتبي وراتبك؟! ما الذي تفعله بكل هذا المال؟!"، صرخ فيها: "هذا ليس من شأنك! ستحضرين لي شهادة الراتب من مديرك وتقترضين المبلغ الذي أريده"، فسألته: "وهل ستقوم أنت بسداد المبلغ؟"، رد بغضب: "هل تسخرين مني؟ هذا القرض باسمك أي أنك أنتِ من سيقوم بسداده".
- وكيف لي أن أسدده وأنا لا أرى راتبي حتى!
- لا أدري هذه مشكلتك.
سكتت سلوى ثم قالت: "لا، أنا آسفة لكني لن أحضر تلك الورقة"، حينها لم تشعر إلا وكأن وحشاً انقض عليها وبدأ بضربها، صرخ فيها : "هل ستحضرين الورقة أم أستمر بضربك؟"، فردت بصوت تشوبه نبرة الألم :"لا، لن أطلب قرضاً"، فأمسك عصاة وأخذ بضربها وهي تصيح بصوت تخنقه الدموع : " مستحيل، افعل ما يحلو لك، لن أحضرها!"، لم يترك ابنته إلا بعد أن تعب من ضربها، فسحبت نفسها لتندس في فراشها قبل أن يراها أحد، فهي لا تريد لأمها وإخوتها أن يعلموا بما حدث.
في اليوم التالي، خرجت سلوى إلى عملها تجر قدميها جراً، وآثار الإرهاق بادية على وجهها، فهي لم تنم لحظة بسبب الآلام التي تشعر بها، سألوها في العمل ماذا بها، فكانت ترد بأنها مريضة ومتعبة فقط، أرادت أن تنسى همها، لم ترد للموضوع أن يكبر أكثر، لكن الهم استمر بملاحقتها، فقد اتصل بها والدها ليسألها عن مكان مكتب المدير، وبعد أن أغلقت سماعة الهاتف، انهمرت دموعها، وقالت: "ألم يكفِه ما سببه من ألم ليلة أمس، مازل مصراً على ملاحقتي حتى في مكان عملي؟"، لم تدرِ ماذا تفعل، كيف تخرج نفسها من هذه الورطة، لم تشعر بنفسها إلا وهي تدخل مكتب مديرها، وتحكي له عن المشكلة، أخبرته أن والدها يريد منه تلك الورقة ليجعلها تأخذ قرضاً، وأنه سيأتي بعد قليل ليأخذها منه، فقال لها المدير: "اطمئني، لا تشغلي بالك لهذه الدرجة"، فعادت إلى مكتبها لكنها بقيت تفكر، فوالدها لن يرتاح حتى يحقق ما يفكر به. بعد قليل أتت إحدى زميلاتها في العمل لتخبرها أنها رأت والدها يدخل مكتب المدير. فوضعت المسكينة يدها على قلبها وهي ترجو من الله ألا ينجح في إقناع المدير بإعطائه تلك الورقة، في الوقت نفسه كان الألم يشتد على سلوى، كانت تشعر بألم رهيب في ظهرها يعيقها عن الحركة، لكنها كبتت ألمها واستمرت في أداء عملها، لكن إلى متى ستتحمل، فلم يكد اليوم ينتهي حتى أغمي عليها. تم نقلها إلى المستشفى ليكتشفوا أن جسدها مليء بالرضوض، سألها الطبيب عن سبب هذه الرضوض فأخبرته أنها تعثرت و وقعت في العمل، أخفت الحقيقة عن أمها وكل من حولها، وحده والدها كان يعلم حقيقة ما بها، انتظرت منه أن يواسيها بكلمة لطيفة، أو حتى أن يمسح فقط على رأسها، ليشعرها بأنه لم يقصد ما فعل، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، فهو لم يكن مخطئاً في نظره، بل هي التي أجبرته على ضربها برفضها طلبه، كالعادة ... ابتلعت المسكينة ألمها ولم تشكُ حالها إلا لله.
عادت سلوى إلى عملها بعد إجازة مرَضِية قصيرة، لم تكن قد شفيت بعد لكن العمل لا ينتظر، كانت تتألم كثيراً كلما تحركت، لم يكن هناك من يرحمها، فلا أحد يريد للعمل أن يتوقف، تحملت الألم كي تحافظ على مكانها في الشركة، عانت من ضغط كبير بسبب العمل المتراكم عليها، لم يكن هناك من يساعدها، فقط هي وحدها عليها أن تنجز كل ما تأخر وإلا فستتهم بالإهمال وتكثر الشكاوي عليها. و مع كل هذا الضغط ترِدُها مكالمة أخرى من والدها، أخبرها هذه المرة أنه تحدث إلى مدير المصرف وأقنعه بأنها تريد أن تأخذ قرضاً، لذا حين يتصل بها موظف المصرف عليها أن تخبره بأنها موافقة على أخذ القرض، بكت سلوى خوفاً، وأخذت تصيح: "ألن يرتاح حتى يراني خلف القضبان!"، ولم تجد أمامها إلا أن تخبر مديرها بما حدث، فطمأنها بأن المصرف لن يعطيه ما يريد ما لم تكن هناك ضمانات من مكان عملها بأنها ستعيد القرض.
عادت سلوى إلى بيتها مشغولة البال بانتظار ذلك الاتصال المشؤوم، أرادت أن تحكي لأمها لكنها لا تريد أن تفتح باب المشاكل بين والديها، حبست نفسها في غرفتها مع ألمها تنتظر أن يرن الهاتف، لكن الهاتف لم يرن ولم يتصل أحد. بدأ حينها شعور بالراحة يتسلل إلى قلبها، فلابد أن الأمر كما أخبرها مديرها "لا قرض من دون ضمان". في اليوم التالي ذهبت سلوى إلى عملها، لتجد أن المدير يطلب رؤيتها، دخلت سلوى مكتبه والخوف يملأ قلبها، لكنها رأته يبتسم، وبعد أن جلست بدأ يسألها عن حياتها، و عن عائلتها، ثم أخبرها أنه معجب بجدها ونشاطها وحرصها على عملها وأنه يريد أن يخطبها لابنه، لذا فإن ابنه سيأتي غداً مع والدته ليطلب يدها من أبيها.
كان هذا أصعب موقف مرت به سلوى، خفضت رأسها حياءً وخرجت من المكتب، وحين عادت إلى البيت أخبرت أمها بما حدث، لكنهما كانتا تخشيان على الشاب من جشع والدها، فأخبرت الأم والد سلوى أن شاباً سيأتي لخطبتها، لكنها أخفت عنه حقيقة كونه ابن مدير الشركة.
في اليوم التالي، أتى الشاب مع والدته، لكنهما لم يلبثا أن غادرا المكان سريعاً، وحين سألته الأم عما حدث، أخبرها بأنه لم يعجبه فرفضه، لكن بعد أن ألحت بالسؤال عليه عن سبب رفضه، أجابها: " هل تريدين أن يذهب راتب البنت له؟". لم تستطع الأم أمام هذا الرد سوى أن تقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله "، ثم أخبرته بأن الشاب الذي تقدم لها هو ابن مدير الشركة التي تعمل بها سلوى، حين أخذ بالصراخ عليها لإخفائها الأمر عنه، فقد ضاعت من بين يديه فرصة لا تقدر بثمن.
قررت سلوى ترك العمل، فكيف تعمل عند شخص أكرمها وساعدها، فلم يلقَ من أسرتها إلا الصد والجفاء؟!، وحين علم والدها بقرارها، أقام الدنيا عليها وأخذ يهددها، لكنها ذهبت إلى الشركة لتخبرالمدير بقرارها، الذي لم يعجبه ما حدث فأخبرها أنه لايزال يريدها لابنه وأنه سيأتي الليلة ليخطبها.
في المساء تشرف بيت سلوى بزيارة مديرها الذي لم يتوقع أن يلقى الترحيب من والدها، استمرت الزيارة فترة طويلة، وطوال تلك الفترة كان الخوف هو كل ما سيطر على سلوى، فقد كانت قلقة مما قد يحدث بين والدها ومديرها. وبعد أن غادر الضيوف، دخل الأب على ابنته وأخبرها أنه تحدث مطولاً مع الشاب ووالده، وأنهم اتفقوا على كل شيء، ثم نظر إلى ابنته وابتسم لها قائلاً: "مبارك لكِ"، ابتسمت سلوى أخيراً من قلبها وحمدت الله كثيراً، فهذه هي المرة الأولى التي يبتسم لها والدها، شعرت حينها بأن معاناتها و صراعها من أجل المال قد انتهى، وأنها ستبدأ مع الدنيا صفحة جديدة، ستبدؤها تحت ظل زوج يرعاها ويحيطها بالحنان بعيداً عن هموم الحياة.
المفضلات