السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أذكر مقولة لـ أبو حامد الغزالي .. يقول فيها:
"من لم يحركه الربيع وأزهاره ، والعود وأوتاره ، فهو فاسد المزاج ، وليس له علاج"
وماقوله هذا "كما جاء في أحد مقالات جريدة الشرق الأوسط" إلا وصفٌ للمتحجرين شعورياً ونفسياً ،
يشخص مرضهم ويعبر عنه بصفة بشعة مقيتة "الفساد" ،
ويجنح إلى الإقرار بثقة أنه مزمن وخطير لحدّ جعله يصرح بأسى أنّ: ليس له علاج : (
وإذا عدنا لتلك الجملة ،
فلا أبلغ منها في رأيي ، ذلك لأنها قانون لا يغفر للفاسدين ركودهم وبلادتهم ،
ولا يبرر لهم القسوة والجبروت ، ويجعلهم في مصافّ المجذومين والمساكين والمرضى ، ليس لهم علاج.
وحين أتأمل النافذة وقت شروق الشمس ووقت مغيبها ، أو السماء في صفائها وكدرها ،
أو الأشجار حين توصي بناتها الأوراق الصغيرة وتهتم بهنّ ترقصهنّ ما إن يخطف النسيم أو يعبر الهواء ،
علّ أريج الأوراق يسترعي انتباههما فيفتن لبّهما ، ويأخذ بعقولهما!
فيحمل رسائل الأغصان للأحباب ، والثمار للعشاق ،
حتى لا يبقى في الطبيعة شيءٌ لم يدخل الحبّ في تركيبه وخلاياه ، وكأنها تشكلت منه ، وهُيّئت من مادته ،
ثم تصورت في أشكال شتى ،
فإذا نطقت فإنما تنطق بالحب ، وإن غضبت فلا تغضب إلا لأجله ،
وإذا ماهدأت ونعست ونامت فلا تذكر في مناماتها إلا معدنها الذي خلقت منه: الحبّ.
أقول إنني لا أتأمل شيئاً من شؤون الطبيعة إلا ويتملكني العجب ممن يستطيعون المرور بها مرور الكرام ،
ويتمكنون بكل عربدة من النظر إليها كأجرام وأشياء ومواد جمالية شكلية بحتة ،
تكتمل بها اللمسات النهائية للصور ،
مجرد ألوان وخطوط متوازية وأخرى متعرجة وأصوات يتم التعامل معها على أسس علمية فيزيائية معقدة ،
الشجرة تخرج الأكسجين إذا توفر الهواء والضوء والماء ، الشجرة تحوي مادة الكلوروفيل الخضراء ،
غصن الوردة جامد لأنه مكسوّ بمادة لزجة مغطاة باللحاء ،
ماذا لو أن غصنها جلدها ، وأنها تحتضن في داخلها روحاً طيّبة وغير مرئية كأرواحنا؟
وأنها تبكي إذا ما قطفناها ، وجرّدناها من تربتها ، وشرّدناها عن موطنها ،
حتى تبدو لنا دموعها الغاليات الثمينة على هيئة المادة اللزجة تترقرق بهدوء وبدون صوت لأنها لا تملك حنجرة ،
أو لأنها تملك حنجرة فريدة مختلفة لا يسمعها سوى جنسها ، فتخفق رؤوس الوردات الأُخر حين تقطف إحداهنّ ،
وتذبل مطرقةً حزينة.
الماديّة! الثبور والهلاك للماديّة العفنة حين تتسلل إلى النفوس وتحجز لها المساحات ،وتجمع الأنصار ،
وتعدّ المخابئ ، وتوسّع نفوذها ، فتستولي على الأراضي اللينة الهادئة البسيطة من أجزاء الروح ،
وتحيلها مستعمرات مدنيّة فارغة ، ضخمة أو هائلة.
المشاعر والأحاسيس والرؤى والتصاوير والشؤون المعنوية أخذت تتوارى خجلة ، وتنسحب من تلقاء نفسها ،
إنها تُهزم هزائم تترى في معاركها مع غريمتها الجشعة ، وهي لفرط حساسيتها ونبلها لا تودّ أن تؤذي أحداً ،
أو تضايق أحداً ، أو تزاحم أحداً ، حتى لو أن هذا الأحد صادرها دارها.
والروح ، هي دارها ، الأصل .. أن تمتلئ الروح بكل هذه المعاني ، وبها فقط ، فهي مسكنها وموئلها وملاذها.
البشر يقصدون الهاوية ، إنهم يسيرون جماعات جماعات ، زرافاتٍ ووحدانا ، صغاراً وكباراً ،
بأعين مغمضة عبر طريق موحش وسيء ووعر ، من أجل أن يقصدوا هاوية خطرة مميتة ،
تفتح فيها المادية ثغرها بتوحّش ، وتلتهم الجميع ، كافة الألوان والأعراق والقبائل ،
والبشر القادمين من مناطق شتى
(البارحة .. وعندما كانت السيارة تقف بحزم أمام الإشارة الضوئية ، لاحت قربي سيارة صغيرة مهترئة قديمة ومتسخة ، وضيقة جداً ،
يقودها شاب بجاكيت ثقيل صوفيّ الأطراف ، قرب امرأة مليحة تعبث في حضنها بطفل صغير ، ورغم أني لم أكن أسمع شيئاً ، لكنني شعرتُ أن ضحك الصغير يريد أن يبلغني ، وقهقهة والديه ، وحركة أيدي الرجل بانفعال ،
الانفعال الناشئ من السعادة (منذ متى ونحن نفقد انفعالات السعادة؟ كم هو مؤذٍ أن أحسب!)
وابتسامات أمه وتحديقها البهيج في وجه الطفل خالي الوفاض الذي لا يملك لنفسه حولاً أو قوة ، لكنه يملك لغيره كنزاً عظيماً يهلك دونه الناس ، فهو قادر على الـ إسعاد.
كانت غيمة وارفة ، أو ملاك صغير ، أو ورقة ظليلة ، أو ربما علامة واضحة فارقة ، تسير مع هذه السيارة ،
تحلّق فوقها ، وتتبعها ، لتقول: هنا تباع السعادة)
وكما نادى إيليا قبلاً مشيراً إلى البلبل الصدّاح ، والزهرة الفواحة ، كانت سبابتي تشير إليهما وتردد حديث إيليا:
يا صاح! خذ علم المحبة عنهما
إني وجدتُ الحبّ علماً قيّما
وأنا أيضاً يا إيليا ، وجدته كذلك ، ولا أملك الآن في هذه اللحظة ، غير أن أعمل بقولك:
أيقظ شعورك بالمحبة إن غفا
لولا الشعورُ ، الناسُ كانوا كالدّمى
مجرّد خاطرة : )دمتم إلى خيرات
المفضلات