الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين , أما بعد :-
فإن لموسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر منزلة رفيعة عند أهل السنة فقد قال عنه الذهبي في السير (6/270) :-
الإمام القدوة .
وقال أيضا :-
ذكره أبو حاتم فقال: ثقة صدوق ، إمام من أئمة المسلمين . انتهى .
وسبب كتابة هذا المقال هو طعن البعض في أمير المؤمنين الخليفة الرشيد بأنه أمر بقتله .
فأقول
أما عن موته فقد مات وهو محبوس بأمر الرشيد في بغداد حتف أنفه (ميتة طبيعية ) .
وهذا قول كل المؤرخين من أهل السنة كالخطيب البغدادي وابن الجوزي وابن الأثير والذهبي وابن كثير وابن خلكان .
ومع أن ابن خلكان ذكر ذلك لكنه ذكر رواية بصيغة التمريض بأنه مات مسموما .
ومن الشيعة الذين ذكروا موته في الحبس غير مسموم اليعقوبي والأصفهاني .
ولكن الشيعي المسعودي ذكر بأنه أخرج من الحبس ثم مات مسموما.
وأما الرافضة فقد أجمعوا على أنه مات محبوسا مسموما .
فلنا تاريخنا ولهم تاريخهم كما أننا لنا ديننا ولهم دينهم .
وكان قد حبس في عهد المهدي بسبب خوفه من خروجه ثم أطلقه .
قال ابن الجوزي في المنتظم (3/147) :-
وأقدمه المهدي بغداد ثم رده إلى المدينة لمنام له رآه.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: حدَّثني الحسن بن، محمد الخلال قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عمران قال: حدثنا محمد بن يحيى، الصولي قال: حدثنا عون بن محمد قال: سمعت إسحق الموصلي يقول: حدثنيا الفضل بن الربيع، عن أبيه: أنه لما حبس المهدي موسى بن جعفر رأى المهدي في النوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول: يا محمد " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " قال الربيع: فأرسل إلي ليلاً، فراعني ذلك فجئته، فإذا هو يقرأ هذه الآية، وكان أحسن الناس صوتاً. وقال علي بموسى بن جعفر: فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جانبه، وقال: يا أبا الحسن، رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في النوم فقرأ علي كذا، فتؤمننيِ أن َتخرج علي أو على أحد من ولدي؟ فقال: والله لا فعلت ذلك، ولا هو من شأني قال: صدقت، يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار ورده إلى أهله إلى المدينة قال الربيع: فأحكمت أمره ليلاً، فما أصبح إلا وهو على الطريق خوف العوائق . انتهى .
ثم حبس مرة أخرى في عهد الرشيد واختلف في سبب سجنه .
فقد قال ابن الجوزي في المنتظم (3/147) :-
ثم لم يزل مقيماً بالمدينة إلى أيام الرشيد، فحجَّ الرشيد فاجتمعا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسمع منه الرشيد كلاماً غيّره.
وهو ما أخبرنا به منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي قال: حدثنا عمر بن أحمد الواعظ قال: حدَّثنا الحسين بن القاسم قال: حدِّثني أحمد بن وهب قال: أخبرني عبد الرحمن بن صالح الأزدي قال: حج هارون الرشيد فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم زائراً له وحوله قريش وأفياء القبائل ومعه موسى بن جعفر فلما انتهيا إلى القبر قال: السلام عليك يا رسول الله ، يا ابن عم. افتخاراً على مَنْ حوله، فدنا موسى بن جعفر فقال: السلام عليك يا أبت فتغير وجه هارون وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن حقاً .
ثم اعتمر الرشيد في رمضان سنة تسع وسبعين، فحمل موسى معه إلى بغداد فحبسه بها، فتوفي في حبسه، فلما طال حبسه كتب إلى الرشيد بما أخبرنا به عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني قال: حدثنا عبد الواحد بن محمد الخصيبي قال: حدثني أحمد بن إسماعيل قال: بعث موسى بن جعفر إلى الرشيد من الحبس رسالة كانت: إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نقص جميعاً إلى يوم ليس فيه انقضاء، يخسر فيه المبطلون . انتهى .
وأما الأصفهاني الشيعي فقد ذكر بأن الرشيد خاف خروجه فحبسه .
فقد قال في مقاتل الطالبيين (1/131) :-
ذكر السبب في أخذه وحبسه حدثني بذلك أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي عن أبيه وحدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثني يحيى بن الحسن العلوي، وحدثني غيرهما ببعض قصته، فجمعت ذلك بعضه إلى بعض.
قالوا: كان السبب في أخذ موسى بن جعفر أن الرشيد جعل ابنه محمداً في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث، فحسده يحيى بن خالد بن برمك على ذلك وقال: إن أفضت الخلافة إليه زالت دولتي ودولة ولدي. فاحتال على جعفر بن محمد، وكان يقول بالإمامة، حتى داخله وأنس به، وأسر إليه، وكان يكثر غشيانه في منزله فيقف على أمره ويرفعه إلى الرشيد ويزيد عليه في ذلك بما يقدح في قلبه. ثم قال يوماً لبعض ثقاته: أتعرفون لي رجلاً من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرفني ما أحتاج إليه من أخبار موسى بن جعفر؟ فدل على علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، فحمل إليه يحيى بن خالد البرمكي مالاً. وكان موسى يأنس إليه ويصله وربما أفضى إليه بأسراره، فلما طلب ليشخص به أحس موسى بذلك، فدعاه فقال: إلى أين يا بن أخي؟ قال: إلى بغداد قال: وما تصنع؟ قال: علي دين وأنا مملق. قال: فأنا أقضي دينك وأفعل بك واصنع، فلم يلتفت إلى ذلك، فعمل على الخروج، فاستدعاه أبو الحسن موسى فقال له: أنت خارج؟ فقال له: نعم لا بد لي من ذلك فقال له: انظر يا بن أخي واتق الله لا تؤتم أولادي! وأمر له بثلثمائة دينار، وأربعة آلاف درهم.
قالوا: فخرج علي بن إسماعيل حتى أتى يحيى بن خالد البرمكي، فتعرف منه خبر موسى بن جعفر، فرفعه إلى الرشيد وزاد فيه، ثم أوصله إلى الرشيد فسأله عن عمه فسعى به إليه، فعرف يحيى جميع خبره وزاد عليه وقال له: إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب، وإن له بيوت أموال، وإنه اشترى ضيعة بثلاثين ألف دينار فسماها اليسيرة، وقال له صاحبها وقد أحضره المال: لا آخذ هذا النقد ولا آخذ إلا نقداً كذا وكذا، فأمر بذلك المال فرد وأعطاه ثلاثين ألف دينار من النقد الذي سأل بعينه، فسمع ذلك منه الرشيد وأمر له بمائتي ألف درهم نسبت له على بعض النواحي، فاختار كور المشرق، ومضت رسله لقبض المال. ودخل هو في بعض الأيام إلى الخلاء فزحر زحرة فخرجت حشوته كلها فسقطت، وجهدوا في ردها فلم يقدروا، فوقع لما به، وجاءه المال وهو ينزع فقال: وما أصنع به وأنا أموت؟! وحج الرشيد في تلك السنة فبدأ بقبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعتذر إليك من شيء أريد أن أفعله، أريد أن أحبس موسى بن جعفر؛ فإنه يريد التشتت بين أمتك وسفك دمائها.
ثم أمر به فأخذ من المسجد فأدخل إليه فقيده .
وأما المسعودي الشيعي فقد ذكر بأن الرشيد أطلقه من حبسه ثم مات مسموما .
فقد قال في مروج الذهب (3/356) :-
إن عبد الله بن مالك الخزاعي كان على دار هارون الرشيد وشرطته، فقال: أتأني رسول الرشيد وقتاً ما جاءني فيه قط،، فانتزعني من موضعي ومنعني من تغيير ثيابي، فراعني ذلك، فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم فعرف الرشيد خبري، فأذن لي في الدخول عليه فدخلت فوجدته قاعداً على فراشه فسلمت عليه فسكت ساعة، فطار عقلي وتضاعف الجزع علي، ثم قال: يا عبد الله أتدري لما طلبتك في هذا الوقت قلت: لا والله ياأمير المؤمنين، قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني ومعه حربة فقال: إن خليت عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة، فاذهب فخل عنه، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أطلق موسى بن جعفر ثلاثاً، قال: نعم امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: إن أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فالإذن في ذلك لك، قال: فمضيت إلى الحبس لأخرجه، فلما رآني موسى وثب إلي قائماً وظن أني قد أمرت فيه بمكروه، فقلت: لا تخف، فقد أمرني بإطلاقك وأن أدفع لك ثلاثين ألف درهم، وهو يقول لك إن أحببت المقام قبلنا، فلك كل ما تحب، وإن أحببت الانصراف إلى المدينة فالأمر في ذلك مطلق لك، وأعطيته ثلاثين ألف درهم، وخليت سبيله وقلت له: لقد رأيت من أمرك عجباً، قال: إني أخبرك، بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا موسى، حبست مظلوماً فقل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس، فقلت: بأبي وأمي ما أقول قال: قل يا سامع كل صوت، ويا سابق الفوت، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت، أسألك بأسمائك الحسنى وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليماً ذا أناة لا يقوى على أناته، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يحصى عدداً، فرج عني؛ فكان ما ترى . انتهى .
والله أعلم بالصواب .
* الشكر موصول لأخي في الله ( عبد الإله العباسي ) على جهوده في الموضوع
المفضلات