مقالة أثارت اهتمامي بالرغم أنني لا أحب نقل المواضيع إلا أني قررت أن أنقلها



بقلم :د. محمد سلمان العبودي



قد يكون من غير المعقول، ولكنه بدأ يقترب من الواقع... وقد يعتقد البعض أنه من المستحيل ولكن هناك من بدأ التفكير فيه.. ظاهرة تستحق الدراسة قبل أن تستفحل وتنتشر، ومسألة لا يمكن المرور عليها مرور الكرام... ولا يجب السكوت عنها... إنها قد تتطور فتصبح مع الوقت أمراً عادياً، وهو أمر مرفوض تماماً.


بدأت المسألة قبل أكثر من خمس سنوات مضت، عندما كنت أجلس في أحد مطارات الدولة بانتظار الدخول إلى الطائرة، والتقيت هناك بأحد أصدقائي القدامى، فسألته عن وجهته، فرد قائلاً: نيوزلندا. سياحة؟ كلا، هجرة! قالها وهو يضحك. بالطبع كان مازحاً وقتها. ولم آخذ حديثه جدياَ ولا هو كذلك.


وكدت أنسى الأمر لولا أنه قبل أيام قليلة اجتمعنا في إحدى المناسبات كمجموعة من الأصدقاء الذين أبعدتهم مشاغل الدنيا فلم نلتق لأكثر من سنتين، مع أننا نعيش في دولة واحدة، بل في إمارتين لا تبعد الواحدة منهما عن الأخرى سوى 15 كيلومتراً فقط، ولكنها مسافة تتطلب (وتكلف) أحياناً مدة زمنية قد تزيد على ساعتين للوصول إلى حيث مقر العمل.


ودار الحديث بيننا حول أمور شتى ولكن الموضوع الأساسي الذي صدمني حقاً كان يدور حول التفكير في الهجرة. فتذكرت ذلك الشاب الذي التقيت به في المطار قبل أربعة سنوات مضت ولم أتصور أنه بعد أربع سنوات فقط ميم وعين وسين وبكل إمكانياتهم المادية قد يخطر ببالهم حتى مجرد التفكير في الهجرة ولو على سبيل الدعابة. إلى أين؟ لا أعرف... وشعرت بأن تلك المزحة قد تصبح واقعاً مؤلماً للمواطن.


قبل ثلاثين سنة كنا نرسم علامة التعجب الكبيرة على وجوهنا عندما كنا نسمع بأن اخواننا العرب يهاجرون إلى كندا واستراليا ونيجيريا وفنزويلا طلباً للقمة العيش وللحصول على الجنسية الأجنبية. كنا نرفض فكرة هجر الوطن والتراب الذي ولدنا عليه أياً كانت الظروف.


ولكننا كنا نفكر بمنطق العاطفة لأن حياتنا كانت وقتها ميسرة وسهلة وبسيطة للغاية. كنا ننتقل دون عناء، كنا نعيش وكأننا أسرة واحدة، كانت الوظيفة تبحث عنا وتتوسل إلينا، كنا سادة البلد، كنا وكنا وكنا، ولكن الأمور انقلبت رأساً على عقب في فترة وجيزة من الزمن لا يصدقها العقل ولا المنطق.


وأصبحنا نستيقظ قبل صلاة الفجر حتى نستطيع الوصول إلى عملنا، أو لزيارة أهلينا، أو لشراء حاجياتنا اليومية، وانقطعت الصلات الاجتماعية إلى درجة ملفتة للنظر، وأصبح الهم اليومي للإنسان المواطن لا يتعدى تأمين لقمة العيش لأولاده قبل نفسه، وضمان مستقبلهم التعليمي على حساب لقمة عيشهم.


ونفتح المذياع لنسمع شكاوى المواطنين بالمئات يومياً على ثلاث أو أربع جبهات من البث المباشر والخطوط الساخنة، بين من يطلب ومن يتوسل ومن يطالب ومن يتظلم ومن يشكو ومن يبحث عن وظيفة وعن مسكن وعن جهاز مكيف... وتحل بعض هذه المشاكل وتصبح الأخرى معلقة بكلمة (إن شاء الله يصير خير... الدولة ما تقصر... المسؤولين يقومون بعملهم... المسؤولين يسمعون البرنامج وراح يقومون بدراسة المشكلة وبجملة (الله يعين) التي اشتهر بها أخونا بوراشد).. ونعم بالله...


بالطبع فإن المواطن الذي تعود منذ قيام الاتحاد على الوفرة والنعمة والبساطة والسهولة لم يعد يستطيع اليوم التأقلم مع التغيرات التي تشهدها الدولة والتي تتطلب الصبر والكد والتعب والضغوط النفسية. نحن نتقدم بسرعة كبيرة جداً وهذا التقدم له ثمن وضريبة يجب أن يدفعها المواطن قبل الأجنبي. ولكن المواطن يرفض في قرارة نفسه أن تكون الضريبة باهظة جداً تمس كيانه ولغته وثقافته وهويته ونفسيته وأرضه.


أصبح المواطن يعاني في كل يوم مئة مرة من أزمة السكن، ومن أزمة الازدحام المروري المتزايد، ومن أزمة الحصول على وظيفة، ومن أزمة الغلاء المستفحل دون وجود يد من حديد تضرب على يد التجار الجشعين (كما هو حاصل في سلطنة عمان حالياً)، ومن أزمة التركيبة السكانية التي يمكن إدراجها ضمن عجائب الدنيا السبع. فلا توجد دولة في العالم بها هذه النسبة العالية جداً من الأيدي العاملة الأجنبية كما هو الحال في دولة الإمارات العربية المتحدة.


إن معظم من يفكر في الهجرة يلقي معاناته النفسية والمادية على هذه المشاكل المتراكمة والمتزايدة مع الوقت، الأمر الذي ولد لديه بالتالي الشعور بالخوف من المستقبل القادم والقاتم وهو خوف (أو فوبيا) ملازمة لقلقه نتيجة صعوبة العيش. إضافة إلى خوفه الداخلي ـ وهذا أمر طبيعي عندما يقيس ماضيه بحاضره ـ من أن تصبح الأوضاع في السنوات القادمة أكثر صعوبة وقتامة، ويصبح مثل المواطن كمن يجلس في بيته الصغير ذي الأبواب المشرعة على مصراعيها بينما هو محشور بين مئات الساكنين الأجانب الذين يتوافدون إليه بدون توقف والذين حصروه في النهاية في زاوية ركنية ضيقة جداً.


بالفعل هناك من يفكر جدياً في لحظة الازدحام المروري اليومي القاتل، أو أمام كاشير الجمعية التعاونية أو أمام منظر الشاحنات العملاقة المتراصة في طابور مستقيم أمام محطات البنزين، أو عندما ينتظر دوره للحصول على منحة أو قرض سكن منذ عدة سنوات دون رد، أو الذي يمشي في شوارع مدينته وكأنه غريب يتنزه في شوارع أحد المدن الآسيوية، أو عندما يبحث عن وظيفة لسنوات دون جدوى أو يسمع بأن هناك سيدة تلزمها أحدى دوائر الكهرباء المحلية بدفع 000 ,40 درهم لتمديد الكيبل لمنزلها الجديد الذي لم تفرح به (حادثة حقيقية حصلت أمامي شخصياً).


بينما كرمنا ومساعداتنا للخارج في شتى المجالات الإنسانية والثقافية تحصى بملايين الدولارات ، أو عندما يتعرض لحادث مروري من قبل سائق متهور كاد يقضي عليه وعلى عائلته... أو عندما تفاجئه جهة عمله بأن لا يفرح كثيراً لأن زيادة الـ 70% لسوء حظه لا تنطبق عليه رغم أنه يتمتع برتبة أستاذ جامعي تخرجت من بين يديه أجيال وأجيال وأجيال، وأصبحت هذه الأجيال أكثر ثروة وحظاً منه.


وهو ظل مدرساً جامعياً مكافحاً خسر في النهاية كل شيء حتى الـ 70% ليصبح راتبه أدنى من أقل رتبة عسكرية في الجيش (اقرأ مقالة الدكتور محمد بن هويدن ـ البيان ـ الأحد 13/4)، هذا المواطن لا نلومه، في لحظة الشعور بالظلم وعدم الإنصاف، إن يشرع في التفكير في الفرار إلى أي مكان آخر قد يشعر فيه بالعدالة والإنصاف.


هناك شعور لدى المواطن الذي يعاني من بعض المصاعب اليومية المتكررة أو من الخوف من المستقبل أو الذي يشعر بأنه أصبح غريباً في داره وفي وطنه.. بأن هجرته هذه سوف تنسيه وتريحه من أزمته الحالية وربما يحصل على حياة أكثر سهولة ومتعة. هي ظاهرة، بدأت قبل سنوات على شكل دعابة في أحد مطارات الدولة، ثم أصبح التفكير فيها جدياً هذه الأيام وربما تصبح غداً واقعاً لا مفر منه.


نرجو أن لا نصل إلى هذه المرحلة التي لا رجعة بعدها... خاصة ونحن نحتفل بعام الهوية الوطنية.