الحمد لله رب العالمين، خالق الخلق أجمعين، ومدبّر الكون كله بسماواته والأرضين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين محمد بن عبدالله وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ:

الشبهات المثارة حول سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونبيّن الرد عليها، مستمدين العون من الله تبارك وتعالى، ومستلهمين التوفيق والسداد منه سبحانه، فنقول:
إن بعض من يتظاهرون بالمحافظة على الإسلام وتطهيره مما طرأ عليه من تغيير وتبديل، يُوردون لضعاف العلم من المسلمين شبهاتٍ ليبطلوا حجية السنة، فمنهم من يكتب ذلك في مقالات يدفعها إلى بعض المجلات فتنشرها تحت شعار حرية التعبير عن الرأي – مهما كان فيه من ضلال – ومنهم من يسوّد بها صفحات كُتُب ينشرونها بين الناس، ونحن نذكر بعض هذه الشبهات، ونذكر الرد عليها ملخِّصين كلام أهل العلم في ذلك:


الشبهة الأولى

قالوا: «إن الله تعالى يقول: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» [الأنعام:38]، ويقول سبحانه: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ» [النحل:89]، وذلك يدل على أن الكتاب قد حوى كلَّ شيء من أمور الدين، وكلَّ حكم من أحكامه، وأنه قد بيّنه بيانًا تامًّا، وفصَّله تفصيلاً واضحًا، بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر مثل السنة ينص على حكم من أحكام الدين أو يبينه أو يفصّله، وإلا: لكان الكتاب مفرِّطًا فيه، ولما كان تبيانًا لكل شيء، فيلزم الخُلْف في خبر الله تعالى، وهو مُحالٌ».
قال الدكتور عبدالغني محمد عبدالخالق، بعد أن ساق هذه الشبهة بنصها:
والجواب عن ذلك: أنه ليس المراد من الكتاب في الآية الأولى القرآن، بل المراد منه اللوح المحفوظ، فإنه الذي حوى كل شيء، واشتمل على جميع أحوال المخلوقات: كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، على التفصيل التام؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «جفَّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» [البخاري 5076].
وهذا هو المناسب لذكر هذه الجملة عقب قوله تعالى: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ» [الأنعام:38] – فإن أظهر الأقوال – في معنى المثلية هنا – أن أحوال الدواب من العُمْر والرزق والأجل والسعادة والشقاء موجودةٌ في الكتاب المحفوظ مثل أحوال البشر في ذلك كله.
ولو سلمنا أن المراد به القرآن – كما هو في الآية الثانية – فلا يمكن حَمْل الآيتين على ظاهرهما من العموم، وأن القرآن اشتمل على بيان وتفصيل كل شيء، وكل حكم، سواء أكان ذلك من أمور الدين أم من أمور الدنيا، وأنه لم يفرّط في شيء منها جميعها، وإلا للزم الخُلْف في خبره تعالى، كما هو ظاهر بالنسبة للأمور الدنيوية.
وكما يُعلم مما سبق من أن القرآن يتعذر العمل به وحده بالنسبة للأحكام الدينية، فيجب العدول عن ظاهر الآيتين وتأويلهما.
وللعلماء في تأويلهما أوجهٌ نختار منها الوجه الأول ونجتزئ به، ففيه الغُنْيَة:
وهو أن المراد؛ أنه لم يفرط في شيء من أمور الدين وأحكامه، وأنه بيَّنها جميعها دون ما عداها؛ لأن المقصود من إنزال الكتاب بيانُ الدين، ومعرفةُ الله، ومعرفةُ أحكامه.
وهذا البيان على نوعين؛ بيان بطريق النص، وبيان بطريق الإحالة؛ قال الإمام الشافعي في الرسالة: «فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله تعالى الدليل على سبيل الهدى فيها، قال الله تبارك وتعالى: «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» [إبراهيم:1]، وقال جل ذكره: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» [النحل:44]، وقال سبحانه: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» [النحل:89]، وقال جل ثناؤه: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» [الشورى:52].
قال: فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تعبَّدَهم به كما مضى في حكمه – جل ثناؤه – من وجوه:
فمنها: ما أبانه لخلقه نصًّا، مثل جُمَل فرائضه، في أن عليهم صلاةً وزكاة وصومًا وحجًّا، وأنه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونصّ الزنا والخمر، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فرض الوضوء، وغير ذلك مما بيَّن نصًّا.
ومنها: ما أحكم فرضه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.
ومنها: ما سنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نصّ حُكْم، وقد فرض الله تعالى في كتابه طاعةَ رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاءَ إلى حكمه؛ فمن قَبِل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَبِفَرْضِ الله قَبِل.
ومنها: ما فرض الله على خلقه الاجتهادَ في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم، فإنه تبارك وتعالى يقول: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ» [محمد:31]، وقال عز وجل: «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ» [آل عمران: 154].
وقال الشافعي أيضًا – رحمة الله عليه-: كل ما سنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه كتاب، من ذكر ما منَّ الله به على العباد: من تعلّم الكتاب والحكمة دليل على أن الحكمةَ سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيَّن من موضعه الذي وضعه الله به من دينه – الدليل على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه: منها: ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه، فلم يُحْتَج مع التنزيل فيه إلى غيره.
ومنها: ما أتى على غاية البيان في فرضه وافترض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله: كيف فرضه؟ وعلى
مَن فرضه؟ ومتى يزول بعضه، ويثبت، ويجب؟
ومنها: ما بيَّنه عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بلا نص كتاب، وكل شيء منها بيان في كتاب الله تعالى، فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه قَبِل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُنَنه، بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل.




الشبهة الثانية

قالوا: إن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن دون السُّنّة، كما يدل عليه قوله سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» [الحجر: 9]، ولو كانت السنة حُجةً ودليلاً مثل القرآن، لتكفل الله بحفظها أيضًا.
والجواب عن هذه الشبهة:
أن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ شرعه كله؛ قرآنًا وسُنة، ولم يقتصر حفظه سبحانه على القرآن، بدليل قول الله جل ثناؤه: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» [سورة التوبة: 32]، والمراد بنور الله شرعُه ودينُه الذي ارتضاه لعباده وكلّفهم به، وضمَّنه مصالحهم، والذي أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من قرآن وسنة ليهتدوا به إلى ما فيه الخير والسعادة لهم في الدنيا والآخرة.
وأما قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» [الحجر:9]، فللعلماء في ضمير الغَيبة – في له – قولان: أحدهما: أنه يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحينئذ لا يصح التمسك بالآية لإيراد هذه الشبهة.
الثاني: أنه يرجع إلى الذكر، فإن فُسِّر بالشريعة كلها من كتاب وسنة، فلا يصح التمسك بها أيضًا، وإن فسَّرناه بالقرآن، فليس في الآية حصرٌ حقيقيّ، فأنت ترى أسلوب الآية ليس فيه حصر – فإن الله تعالى حفظ أشياء كثيرة غير القرآن؛ مثل حفظه نبيّه صلى الله عليه وسلم من الكيد والقتل؛ بقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» [المائدة: 67]، وكذا حفظه العرش والسماوات والأرض من الزوال إلى أن تقوم الساعة. وتقديم الجار والمجرور (له) هنا ليس للحصر، وإنما هو لمناسبة رءوس الآي.
ولو كان في الآية حصر إضافي بالنسبة إلى شيء مخصوص ما جاز أن يكون هذا الشيء هو السنة؛ لأن حفظ القرآن متوقف على حفظها، ومستلزم له؛ لأنها حصنه الحصين، ودرعه المتين، وحارسه الأمين، وشارحه المبين، تفصّل مجمله، وتفسّر مشكله، وتوضّح مبهمه، وتقيّد مطلقه، وتبسط مختصره، وتدفع عنه عبث العابثين، ولهو اللاهين، وتأويلهم إياه على حسب أهوائهم وأغراضهم، وما تمليه عليهم رؤساؤهم وشياطينهم، فحفظها من أسباب حفظه، وصيانتها صيانةُ له.
ولقد حفظها الله تعالى كما حفظ القرآن؛ فلم يذهب منها شيء على الأمة، ولله الحمد والمنة.
فكما قيَّض الله تعالى للكتاب الحكيم، العددَ الكثير والجمّ الغفير من ثقات الحَفَظة المتقنين في كل قرن من القرون لينقلوه كاملاً إلى من بعدهم حتى أبقاه الله تعالى محفوظًا يُقرَأ إلى اليوم، وإلى أن تقوم الساعة غضًّا طريًّا كما أُنزل، دون زيادة أو نقص، أو تحريف أو تبديل أو تغيير، فكذلك قيَّض سبحانه للسُّنة الشريفة مثل هذا العدد من ثقات الحَفَظة؛ فَقَصَروا أعمارهم وأفنوا حياتهم في البحث والتنقيب عن الصحيح من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ينقلونها عمن كان مثلهم في الثقة والعدالة والضبط، إلى أن يصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ميّزوا لنا الصحيح من السقيم، ونقلوه إلينا سليمًا من كل شائبة، منزهًا عن كل شك وشبهة، واستقر الأمر وأسفر الصبح لكل ذي عينين.
ولأن الله تعالى حفظ سُنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما حفظ القرآن، وجعلها سبحانه حصنًا للقرآن، ودرعًا وحارسًا وشارحًا له، كانت الشجى في حلوق الملحدين، والقذى في عيون المتزندقين، والسيفَ القاطع لشُبَه المنافقين، وتشكيكات الكائدين، فلا غرو ولا عجب إذا لم يألوا جهدًا ولم يدخروا وُسْعًا في الطعن في حُجيتها والتهوين من أمرها، والتنفير من التمسك بها، والاهتداء بهديها؛ لينالوا من القرآن ما يريدون، ومن هدم الدين ما ينشدون «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ». والحمد لله رب العالمين. اهـ. [من كتاب الشيخ عبدالغني عبدالخالق. بتصرف].
نسأل الله تعالى أن يحيينا بالكتاب والسنة، وأن يرد المسلمين إليهما ردًّا جميلاً، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين للعمل بالكتاب والسنة، وتحكيم شرع الله في بلاده وعباده، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وللحديث بقية إن شاء الله.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.