الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على الصادق الأمين وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين .
الكذب خُلَّة ذميمة، لا يلجأ إليه ويتحرَّاه إلا من ضعف دينه، وقلّ عقله، وتلاشت ثقته بنفسه ؛ وما ذاك إلا لأن الكاذب لا يكذب إلا لينال من خلاله مطمعًا، أو ليدفع عنه مزعجًا، أو ليستر به نقصًا، ويواري به ضعفاً، ولو كمُل إيمانه، وعظمت ثقته بنفسه، وتم َّ له عقله لأيقن أن الله قد كتب كل شيء وقدَّرَه، فلن يستجلب العبد بالكذب ما لم يُقدَّر له، ولن يدفع عن نفسه بالكذب ما قُدِّر عليه، ولن ينال به حمدًا، ولن يدفع به ذمًّا؛ بل هو طريقٌ يستجلِبُ به العبدُ سخطَ الله ومقته عليه.
وكلما كان الكذب أعظم أثرًا، كانت عقوبته أكبر وأعظم.
فأعظم الكذب: الكذب على الله؛ حيث جعله الله أعظم من الشرك، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
ومن القول على الله بلا علم: الخوض بالتحليل والتحريم من غير دليل وقد أعد الله هذا الأمر من الافتراء عليه - سبحانه وتعالى، فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}.
ومن أعظمه أيضاً ؛ الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم – وقد توعده صلى الله عليه وسلم بالنار ، فقال عليه الصلاة والسلام ((من تعمَّد عليَّ كذِبًا فليتبوَّأ مقعده من النار)) .
قال الذهبي -رحمه الله- : "ولا ريب أن تعمّد الكذب على الله ورسوله، في تحليل حرام أو تحريم حلال كفر محض" .
الكذب مُجَانِب للإيمان : سُئل رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- : أيكونُ المؤمن جبانًا؟ قال: ((نعم))، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: ((نعم))، فقيل له: أيكون المؤمن كذَّابًا؟ فقال: ((لا)) .
والكذب شعبة من شعب النفاق ؛ عن عبد اللّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- : ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، حَتَّى يَدَعَهَا: "إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غدر")) .
والكذاب يُعذب في قبره قبل يوم القيامة؛ عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث الرؤيا الطويل: «فأتينا على رجُل مستلق لقفاهُ، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شِقّي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخراه إلى قفاهُ، وعيناهُ إلى قفاهُ» قال: «ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح الأول كما كان، ثم يعود فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى» فسأل عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: «إنه الرجل يغدو من بيته فيكذبُ الكذبة تبلغ الآفاق» .
فهذا من علامات نبوته -صلى الله عليه وسلم- ؛ حيث أخبر عن هذا النوع من الكذب الذي يعظم أثره، ويبلغ الآفاق، ولعل أوضح وسيلة لهذا الكذب الواسع، الكذب في وسائل الإعلام، ومواقع الشبكة المعلوماتية (الإنترنت)، ورسائل الجوال، وكلما كان الكذب على شخصٍ ذي بالٍ، أو أمرٍ ذي بالٍ فهو مما يتسارع الناس في نقله وإشاعته فيدخل صاحبه في هذا الوعيد الشديد.
ولقد جاء الإسلامُ الكريم بالتشريع الدُّنيوي والديني، فربَّى النفسَ على الخُلق والطَّهارة؛ لتتربَّى على الطاعة والعبادة، وقد تعلَّمنا منذ أنْ كُنَّا صغارًا أنَّ الصدق منجاةٌ والكذب مهلكة، وأن الحسد مُحرَّم شرعًا، ويأكل قلبَ صاحبه وحسناتِه، كما تفعل النار بالحطب، وتعلَّمنا أن الخيانة ضلال، والأمانة هي خلق المسلم.
قال عليه الصلاة والسلام ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجلُ يصدق، ويتحرَّى الصدق حتى يُكتَبَ عند الله صدِّيقًا، وإيَّاكم والكذب، فإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفُجُور، وإن الفجورَ يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب، حتى يكتَب عند الله كذَّابًا)) .
ورتب النبي -صلى الله عليه وسلم- الثواب العظيم لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مُحقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خُلُقَه)) .
الإصلاح بين متخاصمين، والكذب في الحرب، والكذب إذا كان لدفع الظلم، فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله وأخفى ماله وسئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده وديعة وأراد ظالم أخذها فإنه يكذب لإخفائها، والأحوط أن يوَرِّي ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه، وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب ، وأيضاً ما كان من باب زيادة الحُبِّ بين الزَّوجين .
قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ليس الكذَّابُ الذي يصلح بين الناس فيَنْمي خيراً، أو يقول خيراً)) .
قال ابن شهاب -رحمه الله- : "ولم أسمع يُرخَّص في شيء مما يقول الناس كذبٌ، إلاَّ في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها" أهـ .
قال الإمام النووي -رحمه الله- : "قال العلماء: فإِنْ دعَت إلى ذلك - أي: الكذب - مصلحةٌ شرعيَّة راجحة على خِداع المخاطب، أو دَعَت إليه حاجة لا مندوحة عنها إلاَّ بالكذب - فلا بأسَ بالتعريض، فإنْ لَم تدعُ إليه مصلحة ولا حاجة، فهو مكروه وليس بحرام، فإن تُوصِّل به إلى أخذ باطل أو دفع حق، فيصير حينئذ حرامًا، وهذا ضابط الباب" أهـ .
ولنعلمْ بعد ذلك أنَّ النبي الكريم والشرع الحكيم أعلمُ بتفصيلات النفس البشرية، ولذلك حَرَص النبي على استثمار كل ما هو خير للمسلم، حتى وإن كان ظاهرُه سيئًا، وتلك هي الفطرة السليمة التي تتولَّى توجيه الطبع والسلوك لاستثماره في الخير والشرِّ معًا، دون الحاجة للمواجهة الصَّارمة بين الحدَّين والتخلي عنه بالكلية.
مع التذكير بأنَّ الأقومَ هو اتِّباع السلوك الواضح، الذي لا يَقبل مُراوغة، ولا السير على شعرة دقيقة بين الحقِّ والباطل؛ لنكون أزكى نفسًا، وأَسْمى خلقًا، وأقرب لرب العزة ، فالواحد لا يَملك نفسه من الزلل عن سَهوٍ أو ضعف.
● في البيع والشراء :
عن أبي ذر –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم)) ، قال : فقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرار ، قال أبو ذر : خابوا وخسروا من هم يا رسول الله ؟ قال : ((المسبل ، والمنَّان ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) .
● الكذب في الرؤى والأحلام :
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ((من تحلَّم بحلم لم يره كلِّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل .... الخ)) .
● الكذب في المزاح ولإضحاك الناس :
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال : قال -صلى الله عليه وسلم- : ((إني لأمزح ولا أقول إلا حقّاً)) .
وعن معاوية بن حيدة قال : سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول : ((ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ، ويل له ، ويل له)) .
● الكذب في ملاعبة الصبيان :
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ((من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة)) .
قال ابن القيم -رحمه الله- :
" الكذب متضمن لفساد نظام العالم، ولا يمكن قيام العالم عليه لا في معاشهم ولا في معادهم، بل هو متضمن لفساد المعاش والمعاد، ومفاسد الكذب اللازمة له معلومة عند خاصة الناس وعامتهم، كيف وهو منشأ كل شر، وفساد الأعضاء لسان كذوب، وكم أزيلت بالكذب من دول وممالك، وخربت به من بلاد، واستلبت به من نعم، وتقطعت به من معايش، وفسدت به مصالح، وغرست به عداوات، وقطعت به مودات، وافتقر به غني، وذلَّ به عزيز، وهتكت به مصونة، ورميت به محصنة، وخلت به دور وقصور، وعمرت به قبور، وأزيل به أنس، واستجلبت به وحشة، وأفسد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه، وأحال الصديق عدواً مبيناً، ورد الغني العزيز مسكيناً، وهل ملئت الجحيم إلا بأهل الكذب الكاذبين على الله، وعلى رسوله، وعلى دينه، وعلى أوليائه، المكذبين بالحق حمية وعصبية جاهلية " أهـ .
قال الشاعر:
الكذبُ عار وخير القول أصدقه ... والحق ما مسهُ من باطلٍ زهقا
وقال آخر:
ودع الكذوب فلا يكن لك صاحباً ... إن الكذوب لبئس خلاً يُصحبُ
لقد أصبح للكذب مدارِسُه، وأساليبه الخاصَّة التِي تعلِّم الناس كَيْفَ يكذبون، ولا أبالغ إِذَا قلت: إنَّ أغلب وسائل الإعلام في العالَم - شرقِه وغربه - قد قامت في جلِّ برامجها عَلَى الكذب، وقَلْب الحقائق، وتسمية الأمور بغير أسمائها، وقد تجاوز الأمر حدَّه، حَتَّى ظهر الحقُّ في صورة الباطل، والباطلُ في صورة الحق، وأصبحنا نسمَعُ مَن يقول عن الصَّادق الذِي يتحرَّى الصِّدق بأنَّه ساذج وبسيط وسطحيّ، في الوقت الذِي يُوصف فيه الكاذب المنافق بأنَّه الحكيم المُحنَّك !
نعم، لقد كثر الكذب في حياتنا، وراج سوقُه، وارتفعت راياته، وعلا صوته، وانتشر انتشارَ النَّار في الهشيم، كما أخبَر - عليه الصلاة السلام -: ((خَير الناس قَرْني، ثم الذين يلونَهم، ثم الذين يلونهم، ثم يَفْشو الكذب حتَّى يَشهد الرَّجلُ ولا يُستَشهد، ويَحلف الرجل ولا يُسْتحلَف)) .
ولكن ما أجمل الصدق وما أجمل عاقبته وفوز صاحبه برضا الله وجنته : { قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "وقلب الصادق ممتلئٌ بنور الصِّدق، ومعه نور الإيمان".
؛؛؛
اللهم إنا نسألك الصدق في القول والعمل والفعل ، ونعوذ بك اللهم من النفاق وأسبابه ونعوذ بك من الكذب والبهتان
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
المفضلات