بَحرُ البَلاغَةِ يَحتَوى دُرَرًا حِسَان , وَالكَلامُ الفَصِيحُ يَسْلُبُ لُبَّ الإِنْسَانِ , لِمَا بِهِ مِنْ حُسْنٍ وَبَيَانِ , وَأَفْصَحُ الكَلامِ كَلامُ المنَّانِ , وَبِهِ نَسمُو نَحْوَ مَعَالى الجِنَانِ .
مَسَاؤكُم مُعَطَّرٌ بِرَوحٍ وَرَيْحَان , وَنَفَحَاتٍ مِنْ عَبَق الأكْوَان .
يَسُرُّنَا نَحْنُ فَرِيق البَلاغَةِ والإِنْشَاءِ تَقْدِيم ثَانِى دُروسِنا فِى (عِلْمِ البَدِيعِ) .
ونَرجُو مِنَ اللهِ التَوْفِيقَ والسَدَادَ .. وّمِنْكُم التفاعلَ والانتفاعَ .

البَدِيعُ لُغَةً :
الغَرِيبُ مَن بَدُع الشَيء إِذَا بَلَغَ غَايَةَ مَا هُو فِيه مِنْ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِه حَتَّى صَارَ غَرِيبًا .
وَمِنْهُ : أَبْدَعَ : أَتَى بِشَيء لَم يُتَقَدَّم لَه مَقَال .
وِمِنْهُ اسْمُه تَعَالَى : البَدِيْعُ بِمَعْنَى المُبْدِع , يَعْنِى الموحد للأَبْنَاءِ بِلا مِثَالٍ تُقُدِّم .
وَفِى المُعْجَمِ الوَجِيز :
(بَدَعَهُ) - بَدْعًا : أَنشأَه على غير مثال سابق , فهو بديع . (بَدُعَ) - بُدَاعةً , وبُدوعًا : صار غاية فى صفته , فهو بَديع . (أَبْدَعَ) أَتَى بالبديع . و- : أَتى بالبِدْعة . و- الشىءَ : أَنشأَه على غير مِثال .
(الإِبْدَاع) - (عند الفلاسفة) إيجادُ الشىءِ من عَدَم .
(البَدِيعُ) المبْدِعُ , وفى القرآن الكريم : (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) .

البَدِيعُ اصْطِلاحًا :
هُو عِلْمُ يُعْرَفُ بِهِ وُجُوه تَحْسِين الكَلامِ بَعْد رِعَايةِ المَطَابَقَة لِمُقْتَضَى الحَال -كَمَا سَنَعْرِف فِى عِلْم المَعَانى- . وبَعْدَ رِعَايةِ وَضُوحِ الدَلالَةِ عَلَى المُرامِ -كَمَا سَنَعْرِف فِى عِلْم البَيَان- .
- وَلا بُدّ أَن تَكُون دَلالَةُ البّدِيعِ عَلَى المَقْصُودِ مِنْه وَاضِحَةً وَإِلا كَانَت كَتَعْلِيقِ الدُرِّ فِى أَعْنَاقِ الخَنَازِير .
- وَالمُسْتَفَادُ مِنْ عِلْمِ الَبدِيع الحِسّ الغَرَضِىّ .

المُحَسّنَات البَدِيعِية تَنْقَسِم إِلَى قِسْمَين : مَعْنَويَّة , وَلَفظِيَّة , فَمَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى تَحْسِينِ المَعْنَى أَصَالة وَإِن لَمْ يَخلُ أَحْيَاناً مِنْ تَحْسِين اللفْظِ سُمّى مَعْنَويّاً . وَمَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى تَحْسِين اللفْظِ سُمّى لَفْظيّاً .

الطِبَاقُ اللُغَوى الذِى أَخَذ مِنْه الصِنَاعِىُّ هُو قَوْلُ العَرَب : طَابَقَ البَعِيرُ مَشْيَه إَذَا وَضَعَ خُفّ رِجْلِه مَوْضِع خفّ يَدِه .
وَلَمَا كَانَ القَومُ قَدْ رَأَوا أَنْ البَعِيرَ قَدْ جَمَع الرِجْلَ واليَد فِى مَوطىء وَاحَد , والرِجل وَاليَد ضِدَّان أَو فِى مَعْنَى الضِدَّين أَطْلَقُوا عَلَى الكَلامِ الضى جَمَع بَيْن الضِدَّين مُطَابَقَة , لأن المُتَكلِمَ بِهِ قَدْ طَابَقَ بين الضِدَّين .
أ) المُطَابَقَة قِسْمَان :
قِسمٌ يُسَمَّى : التَكَافؤ :
وَهُو مَا كَانَت أَلْفَاظُه مَجَازِيَّة , وَمِثَالُه قَول أَبِى الشغب العبسىّ :
حُلو الشَمَائلِ وَهُو مُرٌّ بَاسل **** يَحمِى الزمارَ صَبِيحَة الإِرْهَاقِ .
وَمِثاله أَيضًا قول ابن رشيق :
وَقَد أَطْفَأُوا شَمسَ النَهَارِ وَأَوقَدُوا **** نُجُومَ العَوالِى فِى سَماءٍ عَجاج
وِلَمَّا كَانَ قَولُه : "حلو" و "مُرّ" خَارِجاً مَخْرَج الاسْتِعَارَة إِذْ لَيْس الإنسَانُ ولا شَمَائِلُه عَمَّا يُذَاق بِحَاسّة الذوق كَانَ هَذَا تَكَافُؤاً .
ب) قِسمُ يُسَمَّى طِبَاقًا :
وَهُو مَا كَانَتْ أَلْفَاظُه حَقِيقِيّة , وَهُو ثَلاثَةُ أَقسَامٍ :

وَأمثِلَته :
- قَولُه تَعَالَى : "وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا"سُورة النجْم 44,43
-قَولُ الرَسُولِ عَلَيه السَلام : "إِنَّكُم لَتَكْثُرون عِنْدَ الفَزَعِ , وَتَقِلُّون عِنْدَ الطَّمَعِ".
- قَولُ على كَرَّم اللهُ وَجْهَه : "مَنْ رَضِى عَنْ نَفْسِه كَثُرَ مَنْ يَسْخَطُ عَلَيه" .
- قَولُ دعبل الخزاعى :
لا تَعْجَبِى يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ **** ضَحِكَ المشِيبُ بِرَأسِه فَبَكَى .
وَهَذَا البَيْت مَعَ سُهُولةِ سَبكِه , وخِفَّةِ أَلْفَاظِه , وَكَثرة المَاء فِى خَجَلِه قَد جَمَعَ بَيْن لَفظَى التَكَافؤ والطِبَاقِ مَعَاً , لَأَنَّ ضَحِكَ المشِيب مُجَاز , وَبُكَاءَ الشَاعِرِ حَقِيقَة .
- وَمِن الطِبَاق الإِيجَابىِّ قَول الفرزدق :
لَعَـن الإِلَـــهُ بَنى كُلَيبٍ إنَّـــهم **** لا يَغْدِرُون , ولا يَفُون لِجَار
يَسْتَيْقِظُون إِلَى نَهِيقِ حِمَارِهم **** وَتَنَــام أَعْينُهُم عَــنِ الأَوْتَــارِ
قَالَ ابنُ أبِى الأَصبع :
"غَير أَنَّ هَذَين البَيْتَين مِن أَفْضَلِ شِعْرٍ سَمِعته فِى هَذَا البَابِ لَأَنَّهُما جَمَعَا بين طِبَاقَى السَلب والإِيجَاب".
* * *

وَهُو أَن يَأتى المُتَكَلِمُ بِجُملَتَين أَو كَلِمَتَين إِحْداهُما مُوجبة والأُخُرى مَنْفِيَّة .
- قَدْ تَكُون الكَلِمَتَان مَنْفِيَّتَان : وَهَذَا وَاضِحٌ فِى بَيْتَى الفرزدق السَابِقَين .
- قَدْ تَكُون إِحْدَى الكَلِمَتَين منفِيَّة والأُخْرَى موجبة مِثْل قول بشر بن هارون وَقَدْ ظَهَر مِنْه فَرَحٌ عِنْد المَوت , وَقِيل لَه : أَتَفْرَح بِالمَوت ؟ , فَقَال : "لَيْس قُدُومى عَلَى خَالِقٍ أَرجُوه كَمقَامِى مَعَ مَخْلُوقٍ لَا أَرْجُوه" .
وَقَدْ نَظَّمَ مَنْصُورُ الفَقِيه هَذَا المَعْنَى فَقَال :
قَدْ قُلْتُ إِذْ مَدَحُوا الحَيَاةَ فَأَطْنَبُوا **** فِي المَوتِ أَلْفَ فَضِيلةٍ لا تُوصَف
مِنْــــها أَمَـــــانُ لِقَـــــائِه بِلِقَــائِه **** وَفِــــراق كُـــلِّ مُعَـاشِرٍ لا يتصف
- وَمِن طِبَاق السلب قَول البخترى :
يُقيّضُ لِى مِنْ حَيْثُ لَا أَعْلَم الهَوَى **** وَيَسْرِى إِلَى الشَوق من حَيثُ لا أعلمُ
* * *

هُوَ رّدّ آخر الكَلامِ المُطَابَق عَلَى أَولِه , وِمِثَاله قَول الأعشى :
لا يَرقَع النَاسُ ما أَوْهوا وإن جهدوا **** طُول الحَيَاةِ وَلا يوهُون ما رَقَعُوا .