إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده
وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه وصحبه
ومن اتبع سنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.


أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم ولمن كان قبلكم:
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]
ويقول جل من قائلٍ عليماً:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
[النساء:1].


عباد الله: اعلموا رحمكم الله أن الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تمضي سريعاً وتنقضي جميعاً، والذي أوجدها وخص مواسمها بالفضائل، واحدٌ أحدٌ فردٌ صمد، هو الله سبحانه وتعالى الذي أوجب في كل يومٍ من الأيام وظيفةً من وظائف طاعاته، ولطيفةً من لطائف رحمته ونفحاته، ويوفق لاغتنامها كل كيسٍ فطن، ويغفل عنها كل محرومٍ شقي.


أيها الأحباب في الله: إن كل شهرٍ يستهله الإنسان يدنيه من أجله، ويقربه إلى آخرته، وخيركم من طال عمره وحسن عمله
وشرار الناس من طال عمره وساء عمله، فما بين العبد والانتقال إلى دار المثوبة على الإحسان أو العقوبة على العصيان
إلا أن يقال فلانٌ مات وانتقل، وولى ورحل، وهل هذه الدنيا إلا طريق العبور بعد الابتلاء والامتحان إلى دار القرار بعد الممات:
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:39-40].


فتأملوا واعتبروا كيف سمى الله هذه الدنيا متاعاً، وهو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع عنه
أو ما يتزود به المسافر حال ضعنه إلى أن يصل دار إقامته واستقراره، فهل ترضون يا عباد الله!
بالقليل من الدنيا نصيباً لكم في الآخرة؟
فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]

وما هو متاع الدنيا؟ إنه صفوٌ بعده الكدر، واجتماع بعده الفراق، ولذةٌ سرعان ما تزول، تقلبٌ بين الفقر والغنى، بين العز والذل، بين الصحة والمرض، وختام ذلك كله دار الضيق التي لا أنيس فيها ولا صديق، إنها القبور، أعاذنا الله وإياكم من وحشتها، وجعلها علينا وعليكم روضةً من رياض الجنان، وباباً إلى رحمة الكريم المنان.


حال أهل الدنيا في الآخرة
عباد الله: انظروا إلى حال من جمعوا في هذه الدنيا بين لذيذ المآكل والمشارب، وأرقى المساكن والمراكب
وغفلوا عن حظهم في الآخرة، أترون ما هم فيه يعدل ذرةً من نعيم الآخرة، إن أردتم حقيقة ذلك، وحقيقة ما هم فيه
فاسمعوا وأنصتوا إلى حالهم ومآلهم: حيث يؤتى يوم القيامة بأطول الناس أعماراً في الدنيا من المترفين التاركين للطاعات المرتكبين للمنكرات
فيصبغ أحدهم في النار صبغة، ثم يقال له: هل رأيت في الدنيا خيراً قط، هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول:
لا يا رب! ما مر بي نعيمٌ ولا رأيت خيراً قط، فينسى نعيم الدنيا عند أول مسٍ من العذاب، يقال له: كم لبثت في الدنيا؟
يقول: لبثت يوماً أو بعض يوم، يقال له: بئس ما اتجرت في يومٍ أو بعض يوم.


هؤلاء الذين صرفوا عقولهم وأعمالهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات البطون والفروج، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر الآخرة، ولم يزل ذلك دأبهم حتى خرجوا من الدنيا مذمومين مدحورين، مفلسين من الحسنات والأعمال الصالحات، قد تكالبت عليهم سكرات الموت وحسرات الفوز، وهول المطلع، وملائكة العذاب، فيندم أحدهم على تفريطه حين لا ينفع الندم:
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:24-26]
خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.


الإقبال على الموت والتزود للآخرة
معاشر المؤمنين! ما قيمة العمر، وما لذة الحياة إن لم تنل النفوس نصيبها وافراً من طاعة الله، والصلة به، والانكسار بين يديه، والبكاء من خشيته، واللجوء إلى جنابه، ومجالسة أوليائه وأحبابه، فإن خلت الحياة من هذا فلا مرحباً بطول العمر، ويا حبذا الموت قبل الغفلة والوقوع في المعاصي.


لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة وكان صائماً قال لجاريته:
انظري هل غربت الشمس؟ فلما أخبرته أنها قد غربت تناول شيئاً يسيراً أفطر عليه،
ثم قال: [
مرحباً بالموت، مرحباً بحبيب جاء على فاقة]
لا أفلح والله من ندم على الدنيا.


يقول معاذ بن جبل :
[
اللهم إنك تعلم أني لم أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار
وإنما أحببت البقاء فيها لقيام الليل وصيام النهار، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر، آهٍ إلى ذلك
]
ثم مضى وفاضت روحه رضي الله عنه.


عباد الله: إن هذا الموت الذي نخافه، ونفزع منه، ليس هو الفناء الأبدي، ولكنه الانتقال من النعيم الشقاء العاجل
الزائل إلى دار الخلود في النعيم أو العذاب المقيم، فما خلقت يا عبد الله! إلا لعبادة ربك
وما سخر لك ما فيها إلا لنفس الغاية التي من أجلها وجدت:
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]
ولا تنسى قول رب العالمين:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]

فالدنيا دار الابتلاء والامتحان، دار الزراعة والبذر، حفت بالنكد والأكدار، والشرور والأضرار، حلالها حساب
وحرامها عقاب، فلا عيش والله إلا عيش الآخرة، يوم يقول المؤمنون في جنة ربهم:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:34-35].


اللهم اجعلنا ممن يقولها في دار النعيم، اللهم اجعلنا ممن يقولها في دار الخلود، برحمتك يا أرحم الراحمين.


فما دارنا هذه بدار إقامةٍ
ولكنها دار ابتلا وتزود


أمَا جاءنا من ربنـا وتـزودوا
فما عذر من وافاه غير مزود


ينادي لسان الحال جدوا لترحلوا

عن المنزل الغث الكثير التنكد


أتاك نذير الشيب بالسقم مخبراً بأنك تتلو القوم في اليوم أو غد
عن جابر رضي الله عنه قال:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعظ رجلاً ويقول: "
اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبلك هرمك، وصحتك قبل سقمك
وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، فما بعد الدنيا من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار
" .




أحبتي في الله .. لا بد أن يكون عندنا الإخلاص ..
وهذا الإخلاص عزيز لأنه عمل القلب على مرضاة الرب من أعظم الأعمال، وحقيقية الدين و مفتاح دعوة الرسل ..
[
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ]

لب العبادة وروح العبادة ما ارتفع شئٌ في السماء أعظم من الإخلاص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"
ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصاً ، إلا فتحت له أبواب السماء، حتى تفضيَ إلى العرش ما اجتُنبت الكبائر "


الكبائر كل ورد عن لعن أو غضب أو حد أو حرمان من الجنة أو وعيد بالنار فاجتنبوه ..
كالخمر والزنا والسرقة ونحو ذلك من الأعمال، الإخلاص تنقية الشئ وتهذيبه ..

نيتنا تحتاج إلى تزكية [ ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ] ..
قصد وجه الله لا تطلب لعملك شيئاً غير الله، لا تدخل معه شيئاً غير الله الأعمال لا تتفاضل بعددها وإنما تتفاضل بالقلوب ..




[ الركون إلى الدنيا ]
للشيخ : " سعد البريك "