كان للنَّفي أثره البالغ أيضًا على نفسيَّة الشَّاعر " أحمد شوقي "
أمير الشُّعراء الذي نفاه الإنجليز هو الآخر إلى بلاد الأندلس " أسبانيا "
فقد استطاعت الغربة أن تُبدِّل كثيرًا من مفاهيمه وأفكاره التي نشأ
عليها في قصر الخديوي إسماعيل ، فأصبح أقرب إلى قضايا العروبة
والإسلام وألصق بهموم الناس البسطاء وأشجانهم من ذي قبل
كما حفر البعد عن الوطن في نفسه ندوبًا عميقةً حين استبدَّ به
الشَّوْق والحنين إلى مصر أهلِها ونِيلِها وأهراماتها ومعالمها وأحيائها ورياضها الغنَّاء ..
فترجم كلَّ ذلك شِعرًا عذبًا وبوحًا نَدِيًّا ، وبخاصَّة في قصيدتيْهِ اللَّتيْن عارضَ في
إحداهما سِينيَّة البحتري في إيوان كسرى ، وعارض في الأخرى نُونيَّة ابن زيدون أضحى التَّنائي .

يقول في الأولى :

اِخـتـلافُ الـنـَّهـار والـلَّيـْلِ يُنسي اُذْكــرا لي الـصِّــبـا وأيـامَ أُنْسي ...
وسَلا مِصْرَ هل سَلا القلبُ عنها أوْ أسا جُــرْحَهُ الـزَّمانُ الـمُؤَسِّي .
مُـستــطـارٌ إذا الـبــواخِــرُ رنـَّــتْ أوَّلَ الـلَّـيـْلِ أوْ عَـوَتْ بـعـد جَـرْسِ .
يـابـْـنـَةَ الـيـَـمِّ مـا أبــوكِ بـخـيـلٌ مـالَـهُ مـُـولَـعٌ بـمَــنـْـعٍ وحَــبْــسِ
أحـــرامٌ عـلى بـَـلابــلـِهِ الــدَّوْحُ حَـلالٌ لـلـطَّـيـْرِ مـن كُـلِّ جِـنْـسِ
كـــلُّ دارٍ أحـَـــقُّ بــالأهــــل إلَّا في خبيثٍ من الـمـَذاهبِ رِجْسِ
نَـفَسِي مِـرْجَلٌ وقـلـبـي شِراعٌ بهما في الدُّموع سِيري وأرْسي
وطـني لو شُغِلْتُ بـالـخُلْد عـنـه نازعتْني إليه في الـخُـلْد نَفْسي
شَهِدَ الله لم يَغِـبْ عن جُـفـوني شَخصُهُ ساعةً ولـم يَخْلُ حِسِّي ...


ويقول في الثانية :

يـانـائـحَ الـطَّـلْـحِ أشبـاهٌ عَـوادِيــنـا نَـشْـجى لـِواديـكَ أم نأسَى لِـواديــنـا
رمى بنا الـبَـيـْنُ أيْكًا غيـْرَ سامِـرِنا أخــا الـغـريــب وظِـلًّا غـيـْـرَ نـاديـــنــا
كُلٌّ رَمَـتـْهُ النَّوى ريشَ الفـراقُ لنا سَهْـمًا وسُلَّ عليكَ الـبـَيــْنُ سِكِّـيــنـا
إذا دعا الشَّوْقُ لم نبرَحْ بمُنْـصَدِعٍ مــن الـجَــنـاحـيــْن عَـيٍّ لا يـُلـبـِّـيــنـا...
يـامـَن نَـغـارُ عـليـْهـم من ضمائرنا ومـِن مَـصـونِ هـواهُـم في تَـنـاجِيــنـا
غـاب الـحنيـنُ إليكم في خواطرنا عـن الــدَّلال علـيــكـم فـي أمـانـيــنـا
جـئـنـا إلى الصَّبـر ندعوه كعادتـنا في الـنَّـائـبـات فـلـم يـأخُـذْ بـأيــديــنـا
ومـا غُـلِبـْنـا على دَمْـعٍ ولا جـَلَـدٍ حـتى أتــتـْـنـا نـَواكُـمْ مـن صَيـاصِـيــنـا
إذا رسا الـنَّـجْمُ لم تَرْقَـأ مَحاجِرُنا حــتَّـى يـــزولَ ولـم تـَهـْـدأ تـَراقـِـيــــنـا ...


قلت لصديقي : هناك من ينظر إلى المعارضات على أنها ترويضٌ للقرائح الشِّعرية ليس أكثر ؟
فقال : هذه هي مشكلة المعارضات . ولكنْ رُبَّ تلميذٍ فاقَ أستاذه
ورُبَّ مُعارضَةٍ تفوَّقت على الأنموذج الذي قامت بمحاكاته ، ولكلِّ قصيدةٍ عالَمُها الخاصُّ بها .