أبو بكرٍ الصِدِّيقْ رضي الله عنه و أرضاه -"/ مسابقة في رحاب الأصحاب /"-

[ منتدى نور على نور ]


النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    الصورة الرمزية حُوريَّة

    تاريخ التسجيل
    Feb 2009
    المـشـــاركــات
    1,249
    الــــدولــــــــة
    مصر
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي أبو بكرٍ الصِدِّيقْ رضي الله عنه و أرضاه -"/ مسابقة في رحاب الأصحاب /"-













    - روى أبو داود في سننه: عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما إنك يا أبا بكر ! أول من يدخل الجنة من أمتي )

    - روى الحاكم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: دخل أبو بكر حائطاً وإذا بطائر في ظل شجرة، فتنفس أبو بكر الصعداء ثم قال: طوبى لك يا طير! تأكل من الشجر وتستظل بالشجر وتصير إلى غير حساب، يا ليتَ أبا بكر مثلكْ .
    ...

    مَرحباً بكُم روَادَ المُنتدى الكِرامْ =")
    هُنا سنتحَدَّثْ عن صِفاتْ ذلكَ الصحابي الذي هوَ أوَّلْ من يَدخُل الجنَّة من أُمَةْ سيدنا مُحمدْ صلى الله عليه وسلمْ
    هوَ أبو بكرٍ الصدِّيق رضي اللهُ عنه
    من هوَ أبو بكر الصدِّيق ليستحقْ كُلْ هذا الفضلْ و الجزاء العظيمْ ، ماهي صفاتُه التي مَكَّنَتْهُ من هذه المَنزِلَة العالية !
    سنذكُرْ هُنا فقطْ بعض مواقِفْ الصدِّيقْ وليسَ جميعُها ، ونذكُر بَعْضَ صِفاته و ليسَتْ كُلُّها فهي لا تُعدْ ولا تُحصى ،
    تِلكَ الخصالْ الجميلَة التي مَكَّنتهُ من هذه المنزلة الرفيعة ليسَ من السهل جمعُها والحديث عنها لِذا نكتفي بأبرزها فقطْ هُنا ^^





    لِمَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه ؟

    دراسة حياة الصديق تريح النفس ، فعندما تحس بشيء من الظلم، أو شيء من التعب، أو شيء من اليأس أو شيء من الإحباط اقرأ سيرة الصديق رضي الله عنه وأرضاه،فهو رجل من البشر وليس بنبي، ومع هذا يفعل كل هذا الخير،
    إذاً : هناك أمل كثير، فعندما نسمع عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول: قال الرسول وعمل كذا، لا نقدر أن نصل لفعله، ولكن هذا رجل ليس برسول، ويعمل بعمل الأنبياء رضي الله عنه وأرضاه.

    فيبدو أن طاقة البشر أوسع مما نتخيل، ويبدو أن وسع النفس أرحب بكثير من اعتقادنا، ويبدو أيضاً أن الآية الكريمة:
    لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]
    ليست آية تخفيفية كما يظن بعضنا، ولكنها آية تكليفية، فالله سبحانه وتعالى لا يكلف إلا الوسع فقط، ولكن هذا يعني أيضاً من زاوية أخرى أن الله عز وجل يكلف الوسع، والوسع كبير جداً، لكننا أحياناً لا نقدره؛ تخاذلاً منا وإنقاصاً لقدرات البشر.

    والدليل على ذلك :
    أبو بكر الصديق رضي الله عنه

    رأينا مع الصديق رضي الله عنه وأرضاه، إيمان بالله وبرسوله، وحب لله ولرسوله، وعمل بما قال الله ورسوله، إيمان وحب وعمل، إذاً هذه هي سر هذه الطاقة العجيبة لدى الصديق .

    الصديق لم يؤمر بعبادة خاصة، أو بتكاليف خاصة، أو بتشريعات خاصة، بل نفس المنهج، ونفس القانون، ونفس التشريع، ونفس الفجر الذي كان يصليه، ونفس الجماعة ونفس الزكاة والصدقة، ونفس الأخلاق الحسنة ونفس صلة الرحم وطاعة الوالدين، ونفس الابتسامة ونفس التواضع، ونفس الحمية للدين، ونفس التشريع بكامله التشريع أمر به الصديق ، وأمرنا به نحن، والصديق قد وفى،
    فأين نحن منه ومن أمثاله؟

    فيا ترى هل وفينا وأدينا المنهج؟ ويا ترى كم عملنا من الذي علينا؟ كم في المائة من التكاليف الذي علينا عملناها؟ وكم في المائة من الوقت يصرف في أمور لم نؤمر بها، وكم في المائة من الوقت يصرف في أشياء نهينا عنها؟
    وفي النهاية نحن بشر والصديق بشر، والاقتداء به ممكن، والسير على طريقه مستطاع.




    ترْجَمَة أبو بكر الصديق


    - اسمه عبد الله - ويقال عتيق بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي رضي الله عنه .

    - ولد أبو بكر الصديق في مكة سنة 573م بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر .

    - صفاتُه الخِلقيَّة قيل : كان أبيض ، نحيفا ، خفيف العارضين ، معروق الوجه ، غائر العينين ، ناتئ الجبهة ، يخضب شيبه بالحناء والكتم .

    -
    توفي أبو بكر يوم الاثنين 22 جمادى الآخرة سنة 13هـ، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة .

    - وعن القاسم ، قال :
    أوصى أبو بكر أن يدفن إلى جنب رسول الله فحفر له ، وجعل رأسه عند كتفي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
    وعن عامر بن عبدالله بن الزبير
    ، قال : رأس أبي بكر عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأس عمر عند حقوي أبو بكر .



    شخصية أبو بكر


    أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه شخصيةُ عجيبة جمعت بين طياتها الرِّقة والشدَّة، والَّرحمة والقوة، والأناة والسرعة، والتواضع والعظمة، والبساطة والفطنة، شخصية عجيبة جمعت كل ذلك وأضعافه من فضائل الأخلاق والطباع، وهبه الله عز وجل حلاوة المنطق، وطلاقة اللسان، وقوة الحجة، وسداد الرأي، ونفاذ البصيرة، وسعة الأفق، وبعد النظرة، وصلابة العزيمة،
    كل هذا وغيره وليس بنبي، إن هذا لشيء عجاب!




    و قد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن هذه الشخصيَّة ( شخصيَّة أبي بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه ) حينَ دار حوار بينه وبين ابنه محمد بن علي بن أبي طالب لمشهور بــمحمد بن الحنفية ، أخرج هذا الحديث البخاري رحمه الله.

    قال محمد بن علي بن أبي طالب يسأل أباه علي بن أبي طالب: قلت لأبي: أيُّ الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر ، قلت: ثم من؟ قال: عمر .
    وهذا تواضع كبير من سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورضي عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
    تُرى كيف تكون شخصية هذا الرجل الذي هو خير الناس في المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزء من حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ( إن من أَمَنِّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر ) يعني: من أكثرهم منة وفضلاً علي في صحبته وماله أبو بكر ، قال: ( ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ) إنها مقامات عالية جداً، فـأبو بكر من أمنِّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ الله خليلاً، ولولا ذلك لاتخذ أبا بكر ، فكيف يكون هذا الرجل الذي ظفر بتلك المنزلة الراقية؟ وكيف وصل إليها؟




    " الاشتراك في صفة الصدق والأمانة "

    - جاء في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها في حديث طويل حينما أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم الصديق رضي الله عنه بالهجرة إلى الحبشة فلقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة - والقارة قبيلة من القبائل في ذلك الوقت - فقال: أين تريد يا أبا بكر ؟! فقال أبو بكر : أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي ، قال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار .

    سبحان الله! هذه نفس الكلمات التي ذكرتها السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه.
    قال
    ابن حجر العسقلاني : يكفي بها مفخرة لـأبي بكر الصديق ومنقبة له أن يوصف بوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير اتفاق بين ابن الدغنة وبين السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها.


    " الاشتراك في صفة البعد عن أماكن اللهو والفساد "


    كانَ أبو بكر يبتعد عن أماكن اللهو والفساد وكان يبتعد عن شرب الخمر في الجاهلية
    - روى ذلك ابن عساكر بسند صحيح عن
    عائشة : أنه كان يعرض عنها لأنها تذهب بالعقل، وكان يقول: أصون عرضي وأحفظ مروءتي، وكان يحتقر من يشربها؛ لأنه يهين نفسه بشربها.

    و الصديق لم يزن في جاهلية ولا في إسلام مع انتشار صاحبات الرايات الحمر في مكة، والصديق لم يأت طفرة، ولم يتعود على فحش القوم، ولم يؤذ جاراً، ولم يهضم حقاً، ولم يخلف موعداً، الصديق كان يقدس الأخلاق حتى قبل إسلامه، وحاربه أهل مكة ولم يستطع أحدهم أن يطعنه في خلقه؛ لأنه لم يكن به مطعن رضي الله عنه وأرضاه.

    ولم يسجد الصديق لصنم من أصنام الجاهلية فـالصديق كان دائم الازدراء لهذه الأحجار، وكما يحكي هو فيقول:
    لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام فقال لي: هذه آلهتك الشم العوالي، وخلاني وذهب.

    يقول الصديق : فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني، فلم يجبني،فقلت له: إني جائع فأطعمني، فلم يجبني، فقلت: إن عار فاكسني، فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخر لوجهه .

    فمنذ أن بلغ الحلم كان هذا الاعتقاد في داخله أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر.






    حب أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم


    الصديق أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً خالط لحمه ودمه وعظامه وروحه، حتى أصبح جزءاً لا يتجزأ من تكوينه، والصحابة جميعاً أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً عظيماً فريداً، ولكن ليس كحب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه أحبه الحب الذي فاق حب المال والولد والأهل والبلد، بل فاق حب الدنيا جميعاً.



    ولِنقلب بعض الصفحات في حادث واحد من أحداث السيرة النبوية، إنه " حادث الهجرة إلى المدينة المنورة "



    - لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر الصديق في ساعة لم يكن يأت إليهم فيها كان أول ما قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: ( فداء له أبي وأمي، والله! ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ) يعني: هناك أمر خطير جاء برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة، فإنه لم يكن صلى الله عليه وسلم يأتي الصديق في هذا الوقت في الظهيرة.

    ولما أخبره صلى الله عليه وسلم بأمر الهجرة قال أبو بكر الصديق بلهفة: ( الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ) فقال صلى الله عليه وسلم: (
    نعم، الصحبة ).


    فماذا كان رد فعل أبي بكر الصديق لما علم أنه سيصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    روت السيدة
    عائشة هذا الحدث، جاء في صحيح البخاري عنها رضي الله عنها أنها قالت: ( فوالله! ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ )

    سبحان الله ! يبكي من الفرح لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الهجرة، مع أن هذه الصحبة الخطيرة قد يكون فيها ضياع النفس، فمكة كلها تطارده صلى الله عليه وسلم، وسيكون فيها ضياع المال، وسيكون فيها ضياع الأهل، وسيكون فيها ترك البلد، لكن ما دام في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا أمر جعله يبكي من الفرح لأجله.


    وهنا نقطة أخرى من نقاط الهجرة ،وهي عند الوصول إلى غار ثور،
    - (ولما انتهيا إلى الغار قال
    أبو بكر : والله! لا تدخله حتى أدخله قبلك؛ فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه -يعني: كنس الغار ونضفه- ثم وجد في جانبه ثقوباً فشق إزاره وسدها، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه)، يعني: بقي ثقبان لم يسدا، فـالصديق رضي الله عنه وأرضاه وضع رجليه كل رجل تسد ثقباً من هذه الثقوب،
    ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (
    ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجره -يعني: في حجر الصديق - ثم نام صلى الله عليه وسلم، فلُدغ أبو بكر في رجله) يعني: عقرب أو حية لدغت الصديق في رجله،
    قال: (ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: أصابه ألم شديد ولم يتحرك حتى بكى من شدة الألم،
    قال: (فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:
    ما لك يا أبا بكر ؟! قال: لدغت فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده)، يعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام وضع على الإصابة من ريقه صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده من الألم ومن الإصابة، وهذا يدل على حب عجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.


    نقطة أخيرة من نقاط الهجرة وليست الأخيرة من نقاط الصديق رضي الله عنه وأرضاه :


    - أخرج الحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار ومعه أبو بكر ، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه) يعني: أن الصديق كان يغير مكانه، فمرة يمشي أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، ومرة يمشي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم) إنه شيء عجيب! لا يزال يبدل مكانه، فمرة قدام ومرة وراء، قال: (فسأله عن ذلك فقال له: يا رسول الله! أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك) يعني: أتذكر الناس الذين يتبعونك فأمشي وراءك؛ من أجل لو رمي سهم يأتي في ظهري، ولا يأتي فيك يا رسول الله! ثم أتذكر الرصد والناس الذين في انتظارك فأمشي أمامك حتى إذا جاء سهم جاء في صدري ولم يأت في صدرك يا رسول الله! (فقال: يا أبا بكر ! لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق!)
    إنه حب عجيب جداً! حب صادق من أبي بكر الصديق ، وهذا هو الذي بلغ به أعلى المنازل.


    هذا الحب الفريد الذي كان عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاده إلى شيئين عظيمين يفسران كثيراً من أعمال الصديق رضي الله عنه وأرضاه في التاريخ، وهذه علامات الحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذان الشيئان هما :

    الشيء الأول : اليقين الكامل بصدق ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقين دون جدال ولا نقاش ولا تنطع.

    الشيء الثاني : الاتباع الكامل له صلى الله عليه وسلم في كل ما قاله أو نهى عنه صلى الله عليه وسلم، فما نهاك عنه فانته، وما أمرك به فائت منه ما استطعت،
    قال عز وجل:
    ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) آل عمران:31






    يقين الصديق

    أولاً: اليقين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل:
    وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33].

    قال
    علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في هذه الآية ( فيمن نزلت ) كما جاء في القرطبي : الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.


    ومن المؤكد أنه ليس عفوياً أو اعتباطياً أن الصديق سمي بـالصديق ، إذ نجد هذا التصديق في حياة الصديق من أول يوم عرض عليه فيه الإسلام،
    فكيف قبل الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن يدخل في دين جديد ما سمع به من قبل، وأن يترك دين الآباء والأجداد هكذا بمنتهى السهولة؟ وكيف قبل أن يخالف الناس أجمعين ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم؟ إنه أمر عجيب!

    - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
    ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر ، ما عتم عنه حين ذكرته) يعني: ما تردد، قال: (ما عتم عنه حين ذكرته وما تردد فيه)
    إنه يقين كامل أن هذا الرجل صلى الله عليه وسلم لا يكذب.


    نماذج يقين الصديق

    من أبرز أمثلة يقين الصديق رضي الله عنه و هي كثيرة لا تُعد
    " يقين الصديق في حادثة الإسراء والمعراج "

    - أخرج الحاكم في مستدركه عن
    عائشة رضي الله عنها قالت: ( جاء المشركون إلى أبي بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس!)
    وهذا أمر عجيب جداً! فالمسافة بين مكة والقدس أكثر من ( 1000) كيلو متر ذهاباً فقط، فكيف يذهب ويعود في جزء من الليل وفي هذا الزمن؟

    فكان رد فعل الصديق أن قال: (
    أوقال ذلك؟ -أي: هل قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟- قالوا: نعم، قال: لقد صدق)
    صدقه هكذا حتى دون أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستوثق منه، ثم يعطي التبرير لمن يستمع له،
    يقول: (
    إني لأصدقه بأبعد من ذلك؟ بخبر السماء غدوة وروحة )
    يعني: أصدقه أنه ينزل عليه ملك من السماء ثم يعود في طرفة عين،
    فانظر إلى المنطق الرائع وانظر إلى توابع تصديق هذا المنطق في حياة المسلمين لو كل المسلمين فعلاً يصدقون بكل ما قاله صلى الله عليه وسلم دون جدال ولا نقاش ولا تنطع.



    اتباع الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم

    أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، حتى إنك لتشعر أنه لا يفرق بين فرض ونافلة؛ لما كان عنده من التصاق شديد بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتصاق شديد بطريقته ومنهجه في الحياة.

    التطبيق العملي لمعنى الاتباع في حياة الصديق

    "موقف الصديق يوم صلح الحديبية"

    والموقف في صلح الحديبية كان شديد الصعوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان قد رأى أنه يدخل المسجد الحرام ويعتمر، ثم لم يحدث هذا في ذلك العام، ثم بعد ذلك عقدت معاهدة كانت بنودها في الظاهر مجحفة وظالمة للمسلمين، ثم طبقت المعاهدة على
    أبي جندل رضي الله عنه ابن سهيل بن عمرو الذي عقد المباحثات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطبقت المعاهدة عليه مباشرة بعد إتمام المعاهدة فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين لما جاءه مسلماً، وكان المشهد مشهداً مؤثراً جداً في منتهى المأساة، كل هذه الأمور وغيرها أثرت كثيراً في نفسية الصحابة فأصابتهم بهم عظيم وغم لا يوصف، وكان من أشدهم هماً وغماً عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

    فقد ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والغيظ يملأ قلبه، يقول:
    عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ( يا رسول الله! ألستَ نبي الله حقاً ؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: علام نعطي الدنية في ديننا )
    قال صلى الله عليه وسلم: (
    إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه) يُفهم أن هذا الأمر وحي من الله عز وجل، أمره الله عز وجل بذلك فأطاعه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    ومع ذلك زاد عمر وقال: (قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
    بلى، فأخبرتك أنك تأتيه العام؟) يعني: هل قلت لكم: إنك ستطوفون السنة هذه؟
    قال: (قلت: لا، قال:
    فإنك آتيه ومطوف به) هكذا في يقين !
    يقول
    عمر بن الخطاب : (فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر ! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً، قال : (أيها الرجل! إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره ) ، (قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، فأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال الصديق : فإنك آتيه ومطوف به).
    سبحان الله! إنه يقين ليس فيه قدر أنملة من الشك، فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ؛ مخافة كلامي الذي تكلمت به.



    الصديق ونعمة السبق

    صفة الحسم والسبق وعدم التسهيل، الحسم في القرارات، والسبق إلى كل خير، وعدم التسهيل في أي قضية مهما صغرت في عين الإنسان، وهذه الصفة سمة واضحة جداً في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضا
    ه.
    أبو بكر الصديق رضي الله عنه الرجل العاقل الحكيم كان يفهم لعبة الشيطان جيداً، وكان يفهم لعبة التسويف، فما سمح للشيطان أبداً أن يلعبها معه.

    فكان رضي الله عنه وأرضاه أستاذاً في الحسم، ونبراساً في الفقه، وتشعر أنه يتحرك في حياته بكاملها وقد وضع الآية الكريمة:
    فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]
    أمام عينيه، فهو في سباق دائم مع الزمن، وكأن اللحظة القادمة هي لحظة الموت، فلابد أن يكون جاهزاً، أو هي لحظة الفتنة، فلابد أن يكون ثابتاً.


    " سبق الصديق إلى الإسلام "

    أول ما يلفت الأنظار إلى الصديق رضي الله عنه سبقه إلى الإسلام

    من المعروف أنه أول رجل أسلم، ما تردد وما نظر، وما قال: آخذ يوماً أو يومين أفكر، بل أسرع إليه إسراعاً، وهذا الأمر لافت للنظر جداً، وهو ما سيغير الشغل أو يغير بيته أو حتى يغير بلده، بل سيغير عقيدته التي عاش عليها 38 سنة، فـالصديق لما أسلم كان عمره 38 سنة.
    فـالصديق رضي الله عنه وأرضاه كان في عطش الجاهلية، فرأى نبع الإسلام
    فلماذا لا يشرب؟
    كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يرى الحق بهذه الصورة تماماً
    فلماذا التردد والانتظار؟ والتردد ليس من الحكمة في هذه الأمور،
    وهو الرجل الحكيم العاقل عرض عليه الإسلام غضاً طرياً واضحاً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنار الله قلبه بنور الهداية،
    فلماذا لا يسلم؟ ولماذا لا يتبع الحق من أول وهلة؟


    روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
    هل أنتم تاركو لي صاحبي؟)
    قالها مرتين صلى الله عليه وسلم وذلك لما حدث خلاف ذات مرة بين الصديق رضي الله عنه وبين أحد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين،
    فلماذا هذه المكانة العالية للصديق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
    انظروا إلى المسوغات: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
    إني قلت: أيها الناس! إني رسول الله إليكم جميعاً، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر : صدقت).

    إذاً : هي فضيلة ولاشك أن أسرع للإسلام هذا الإسراع ! ومرت الأيام، وصدَّق أولئك الذين كذبوا من قبل، لكن كان أبو بكر الصديق هو الفائز في الأجر والسبق .
    قال عز وجل:
    وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة:10-12].

    وقد يكون أجر السبق أعظم من أجر العمل ذاته؛ لأنه يكون بمثابة السنة الحسنة التي تسنها لغيرك فيقلدك فيها.
    وسبحان الله ! تشعر وأنت تقرأ سيرة الصديق رضي الله عنه أنه اتخذ في حياته شعاراً واضحاً :
    وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]
    فكان رضي الله عنه وأرضاه دائم العجلة إلى الله عز وجل



    بعض المواقف الأخرى التي تجعلنا نفهم معنى السبق في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان من المستحيل حصر كل هذه الأمثلة في حياته، فهي حياته كله : -

    "سبق الصديق إلى الدعوة إلى الله عز وجل"

    لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (
    بلغوا عني ولو آية) فسبق الصديق إلى الدعوة لهذا الدين الجديد،
    - فإذا به يأتي في اليوم الأول من دعوته بمجموعة من الرجال قلَّ أن يجتمعوا في زمان واحد، الرجل منهم بألف رجل ! أو يزيد، أتى في اليوم الأول بخمسة، أتى بـ
    عثمان بن عفان ،و الزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، وعبد الرحمن بن عوف ، هؤلاء الخمسة صناديد الإسلام وعباقرة الإسلام أتوا جميعاً على يد الصديق.

    - وفي اليوم الثاني أتى بـ
    أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه أمين هذه الأمة، وأيضاً في نفس اليوم جاء بـعثمان بن مظعون .

    - ثم في اليوم الثالث أتى باثنين في منتهى الغرابة، وهما:
    الأرقم بن أبي الأرقم ، وأبو سلمة بن عبد الأسد
    وهذه الغرابة أنهما من بني مخزوم، وبنو مخزوم قبيلة كانت تتنازع لواء الشرف مع بني هاشم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    فكيف أثر عليهما الصديق رضي الله عنه وأرضاه حتى أتى بهما يدخلان في الإسلام تحت قيادة رجل من بني هاشم؟؟


    ## ومن غرائب عائلة الصديق أنها هي العائلة الوحيدة التي تميزت بأنها تجمع في طياتها أربعة أجيال متعاقبة صحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

    الجيل الأول هو: جيل أبي قحافة وزوجته والدة الصديق رضي الله عنهم وأرضاهم.

    الجيل الثاني هو: جيل الصديق وزوجاته.

    الجيل الثالث: جيل أولاد الصديق :
    أسماء ، وعائشة ، وعبد الله ، وعبد الرحمن ، وكان الصديق له بنت خامسة اسمها: أم كلثوم لكن ولدت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليست بصحابية.

    الجيل الرابع: جيل أحفاد الصديق الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل
    عبد الله بن الزبير بن العوام ابن السيدة أسماء ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.

    وطبعاً أدخل الصديق في الإسلام كل غلمانه وأعتقهم، وأشهرهم
    عامر بن فهيرة ، وبلال بن رباح رضي الله عنهما.


    "سبق الصديق رضي الله عنه إلى كل أعمال الخير"

    - روى الإمام مسلم عن أبي هريرة والبيهقي عن أنس بن مالك والبزار عن عبد الرحمن بن أبي بكر حديثاً يوضح لنا مثالاً لمسارعة الصديق رضي الله عنه إلى الخير.

    ونذكر رواية
    البزار ؛ لأن فيها توضيحاً أكثر للموقف :
    يقول
    عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم أقبل على أصحابه بوجهه فقال: من أصبح منكم اليوم صائماً؟ فقال عمر : يا رسول الله! لم أحدث نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت مفطراً، فقال أبو بكر : ولكني حدثت نفسي بالصوم البارحة فأصبحت صائماً )
    ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (
    هل أحد منكم اليوم عاد مريضاً؟ فقال عمر : يا رسول الله، لم نبرح فكيف نعود المريض؟ فقال أبو بكر : بلغني أن أخي عبد الرحمن بن عوف شاكٍ فجعلت طريقي عليه لأنظر كيف أصبح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟ فقال عمر : صلينا يا رسول الله! ثم لم نبرح، فقال أبو بكر : دخلت المسجد فإذا بسائل فوجدت كسرة من خبز الشعير في يد عبد الرحمن فأخذتها ودفعتها إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت فأبشر بالجنة ) ثم قال كلمة أرضى بها عمر رضي الله عنه.

    بل إن في رواية
    أبي هريرة في صحيح مسلم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذا فيقول: ( فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ فقال أبو بكر : أنا ) وفي نهاية الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم : ( ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ).

    ##
    إنه من العسير أن تحصي مواقف السبق في حياة الصديق رضي الله عنه ، فالسبق في حياته يشمل كل حياته ، يلخص هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه .

    - الحديث رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .

    يقول
    عمر : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، قلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً ) وواضح من هذا أن الصديق كان يسبق عمر بن الخطاب في كل الأفعال،
    قال: ( فجئت بنصف مالي )، وهذا عطاء ضخم جداً،
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستكثر هذه الصدقة: (
    ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده) ، فقال: (يا أبا بكر ! ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر بن الخطاب : لا أسبقه في شيء أبداً)
    هكذا يقول ، لسان مقاله: إنه لا يسبق الصديق رضي الله عنه، وعن عمر وعن الصحابة أجمعين


    إيجابية الصديق وتركه السلبية

    وإذا نظرنا إلى الصديق رضي الله عنه وأرضاه فليس في الإسلام رجل بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عن السلبية من
    أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ظهرت إيجابيته في كل مواقف حياته رضي الله عنه، ظهرت في إسلامه، وظهرت في إعتاقه للعبيد، وفي دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءً في مكة أو في المدينة، وظهرت في إعداده للهجرة، وظهرت في ثباته في كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهرت كذلك إيجابيته عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت في حروب الردة، وظهرت في فتوح فارس والروم، وظهرت في جمعه للقرآن، وظهرت إيجابيته في كل نقطة من نقاط حياته، وفي مساعدته للفقراء والمحتاجين وكبار السن، وفي معاملاته مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
    فقد كان رضي الله عنه وأرضاه نبراساً لكل مصلح، ودليلاً لكل محسن، ما رأى معروفاً إلا وأمر به، وما رأى منكراً إلا وحاول تغييره بكل طاقته بيده ولسانه وقلبه،
    لذلك شق عليه كثيراً أن يرى بعض المؤمنين يتركون النهي عن المنكر؛ لأنهم فهموا آية من آيات الله عز وجل على غير معناها الصحيح.

    - سمع بعض المؤمنين الآية الكريمة:
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105]،
    فظن بعض المؤمنين أن هذه دعوة إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
    وظنوا أن الله يقول لهم:
    عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ
    أي: اهتموا بأنفسكم فقط، ولا يضركم ضلال غيركم، فلا تهتموا بهم، والأمر على خلاف ذلك تماماً،
    فوقف
    أبو بكر رضي الله عنه ليصحح لهم الفهم، وليصلح لهم الطريق، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
    (
    أيها الناس ! إنكم تقرءون هذه الآية:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه) روى ذلك أصحاب السنن والإمام أحمد رحمهم الله جميعاً،




    الصديق ورقة القلب


    إن
    أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أرق الناس قلباً وأكثرهم خشية وخشوعاً، فكان لا يملك نفسه من البكاء في الصلاة وعند قراءة القرآن.

    "موقف الصديق رضي الله عنه مع ربيعة الأسلمي رضي الله عنه"

    هذه النفس الرقيقة والقلب الخاشع والروح الطاهرة النقية والطبيعة الهينة اللينة تفسر لنا كثيراً من مواقف
    أبي بكر العجيبة رضي الله عنه وأرضاه،
    - أخرج الإمام
    أحمد رحمه الله بسند حسن عن ربيعة الأسلمي رضي الله عنه قال: ( جرى بيني وبين أبي بكر كلام. يعني: كلام فيه شيء من الحدة، فقال لي كلمة كرهتها وندم. )
    وهذا الكلام يدور في المدينة، وأبو بكر هو المستشار الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: بلغة العصر: نائب الرئيس مباشرة، وربيعة الأسلمي هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر كلمة كرهها
    ربيعة ، ويبدو أن الخطأ كان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأدرك ذلك، ويحدث أن يخطئ البشر مهما علا قدرهم وسمت أخلاقهم، لكنه ثاب إلى رشده بسرعة عجيبة وشعر بالندم ، كما قال ربيعة وهو يصف الموقف: فقال لي كلمة كرهتها وندم، لكن هل وقف الندم عند حد الشعور به والتألم الداخلي فقط؟ أبداً. رقة نفسه خرجت بهذا الندم إلى حيز العمل، وأسرع وهو نائب الرئيس ( يقول لـربيعة الخادم: يا ربيعة ! رد علي مثلها؛ حتى يكون قصاصاً ) يعني: اشتمني يا ربيعة ! كما شتمتك، يا ربيعة ! رد علي مثلها؛ حتى يكون قصاصاً.
    قال: ( قلت: لا أفعل) . وطبعاً
    ربيعة عنده أدب عظيم؛ لأنه تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ( قال: لا أفعل، فقال
    أبو بكر : لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم. )
    يعني: لو ما شتمتني سأشتكيك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    يقول
    ربيعة : ( فقلت: ما أنا بفاعل. فانطلق أبو بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت أتلوه )
    يعني: فعلاً ذهب يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    يقول
    ربيعة : ( وجاء أناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر ، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لك ما قال؟ )
    وطبعاً من الناس من لا يفهم هذه الأبعاد النبيلة في نفس الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
    ( فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق ، هذا ثاني اثنين، هذا ذو شيبة في الإسلام )
    ربيعة الأسلمي رجل واع وفاهم، والإسلام جعل الناس سواسية، لكنه لابد أيضاً أن ينزل الناس منازلهم، وأن يعطي كل ذي قدر قدره.
    ثم يقول ربيعة : ( إياكم! لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة ،
    قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا)
    يعني: اتركوني أنا مع
    أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    ( وانطلق
    أبو بكر رضي الله عنه وتبعته حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه صلى الله عليه وسلم فقال: (يا ربيعة ! ما لك والصديق ؟)
    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب إذا أحد أغضب الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    قال: (
    يا ربيعة ! ما لك والصديق ؟ فقلت: يا رسول الله! كان كذا وكذا بيني وبينه فقال لي كلمة كرهتها، فقال لي: قل كما قلت؛ حتى يكون قصاصاً، فأبيت، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل يا ربيعة ! لا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر ! ، فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر ! قال: فولى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وهو يبكي )

    هكذا كان الصديق لم يخطئ في حياته في حق الناس ولا في حق الله عز وجل ولا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أخطاء بسيطة فيريد أن ينظف صفحته يوماً بيوم رضي الله عنه وأرضاه.


    "إشفاق أبي بكر على المستضعفين بمكة"

    - يقول عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: ( كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة ) .
    بمعنى: أنه إذا أسلم الرجل أو المرأة اشتراه من صاحبه وأعتقه، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن،
    ( فقال أبوه
    أبو قحافة -وكان ساعتها كافراً- : أي بني! أراك تعتق أناساً ضعافاً، فلو أنك تعتق رجالاً جلداً يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك) ،
    وكان
    أبو بكر في حاجة لأن قبيلته بني تميم قبيلة ضعيفة.
    ( فقال: أي أبت! أنا أريد ما عند الله ) ،
    # فنزلت فيه آية تتلى إلى يوم القيامة، قال الله عز وجل:
    فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7].

    ونزلت فيه:
    وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21].


    "لين الصديق رضي الله عنه مع من قاتلوا المسلمين من كفار قريش"


    وهذا حادث آخر يوضح لين جانب الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع من قاتله أكثر من عشرين سنة:
    - روى مسلم عن
    أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه: ( أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها ) .
    وهذا الكلام يدور بعد صلح الحديبية، يعني: قبل فتح مكة، وكان في ذلك الوقت
    أبو سفيان كافراً، فـسلمان وصهيب وبلال يريدون أن يغيظوا أبا سفيان بهذه الكلمة،
    ( فقال
    أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ )
    انظر مع كل هذا القتال الذي دار بينهم سنوات وسنوات وهذا الطرد والتشريد والتعذيب الذي حدث في مكة حتى هاجروا إلى المدينة ومع ذلك هو في لين جانبه وفي رقة قلبه يحاول أن يقرب قلب
    أبي سفيان إلى الإسلام،
    ( فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: (
    يا أبا بكر ! لعلك أغضبتهم؟) يعني: أنه صلى الله عليه وسلم خشي أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه قد يكون قال كلمة أغضبت سلمان وصهيب وبلالاً.
    قال: (
    يا أبا بكر ! لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبتك ربك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟)
    مع أن ظاهر الأمر أن الحق مع أبي بكر الصديق لكنه يستسمح هؤلاء الإخوة، ويريد أن تكون صفحته بيضاء،
    قال: (
    يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي!).

    - ولما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الأسارى في موقعة بدر ماذا كان يرى في أولئك الذين عذبوهم وأخذوا أموالهم وطردوهم من ديارهم وحرصوا على حربهم وكادوا يقتلونهم في بدر لولا أن من الله على المؤمنين بالنصر؟ ماذا كان رأيه؟ انظر إليه وكأنه لا يتحدث عن الأسارى، بل وكأنه يتحدث عن أصحابه وأحبابه، لقد قال الصديق : (
    يا رسول الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً ) .

    - و قد لخَّص الرسول صلى الله عليه وسلم موقف
    أبو بكر الصديق بعد قضية أسرى بدر بتعليق جامع ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] )

    ## هذه المواقف وكثير غيرها توضح مدى الطبيعة الرقيقة التي جبل عليها الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهذه النفس الحامية والرقة البالغة التي صبغت حياة الصديق بكاملها



    إنكار الصديق رضي الله عنه لذاته

    الصديق رضي الله عنه وأرضاه من أروع الأمثلة الإسلامية في صفة إنكار الذات، الصديق أنكر ذاته في حق الله عز وجل، فلا يأمر الله بشيء ولا ينهى عن شيء إلا وامتثل واستجاب ولبى مهما كانت التضحيات.

    الصديق أنكر ذاته في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، ومواقفه في إنكار الذات مع الرسول صلى الله عليه وسلم لا تحصى ولا تعد، فلم يكن يرى نفسه مطلقاً بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم.

    الصديق أنكر ذاته في حق المؤمنين حتى من أخطأ منهم في حقه، وحتى من تجاوز خطؤه الحدود المألوفة والمعروفة بين الناس .
    أين حظ النفس عند الصديق ؟ أين إشباع الرغبات الطبيعية عند البشر: من حب للمال، وحب للجاه، وحب للسلطان، وحب للسيادة، وحب للظهور، وحب للذكر، بل وحب للحياة، أين ذلك في حياة الصديق ؟


    "نماذج من إنكار الصديق رضي الله عنه لذاته في المال"

    كان
    أبو بكر في الجاهلية مسئولاً عن ضمان الديات والمغارم في مكة، يعني: واحد عليه دية، واحد يريد قرضاً، واحد يريد أن يشتري جملاً، يذهب إلى الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليضمنه عند قريش، وإذا سأل الصديق قريشاً ضماناً قبلوه، وإذا سألهم غيره خذلوه.
    وهذا عمل في منتهى الخطورة، وهو أن يتحمل الصديق الديات، فإذا الرجل لم يوف الدية يتحمل الصديق ، وإذا لم يوف الرجل دينه يتحمل الصديق أقساطاً على الرجل إذا لم يوف أقساطه، أي: أنه عمل فيه خسارة، ويحتاج إلى كثير مال، وإلى نفس راغبة في قضاء حوائج الناس وتحمل مغارمهم.

    وفي الإسلام كانت نفسه المُعطائة و إنفاقه الواسع أشد بروزاً برزت في تجهيز الجيوش و في الصدقات وإعتاق العبيد فكان رضي الله عنه و أرضاه ما سمع عن عبد دخل في الإسلام أو أمة إلا و اشتراهم و أعتقهم لوجه الله ، كذلك برزَ إنفاقه في إطعام الفقراء و كفالتهم وغير ذلك مما لا يُعد ولا يحصى .

    كُل هذا هذا هو الذي دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول -كما رواه الإمام
    أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه - : (ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر ، فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟! )
    والنفع هذا لم يكن لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن كان للدعوة إلى الإسلام .

    وفي رواية أخرى
    للترمذي : عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه إلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر ) ، فأي قدر وأي عظمة وأي إنفاق من أبي بكر الصديق .


    موقف آخر للصديق رضي الله عنه
    - روى
    البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: ( إن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مرة: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، وإن أبا بكر جاء بثلاثة ) ،
    يعني: أن كل واحد عنده طعام مجموعة يأخذ رجلاً من أهل الصفة، فـالصديق رضي الله عنه وأرضاه جاء بثلاثة،
    ( فيحكي
    عبد الرحمن بن أبي بكر ويقول: إن الصديق رضي الله عنه وأرضاه ترك هؤلاء الثلاثة في البيت وانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا عبد الرحمن ! أقر أضيافك ، )
    يعني: لم يقعد معهم لأنه لا يريد أن يكون موجوداً منعاً لإحراجهم؛ لأن الأكل لن يكفي، وبالفعل سيدنا
    أبو بكر الصديق انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    ( يقول
    عبد الرحمن : فلما أمسيت جئت بقراهم،)يعني: الأكل الذي سيأكلوه،
    ( قال: فأبوا وقالوا: حتى يجيء أبو منزلنا فيطعم معنا، ) يعني: يريدون أن ينتظروا أبا بكر حتى يرجع،
    ( قال: فقلت لهم: إنه رجل حديد،) يعني: أنه رجل عصبي، وإنكم إن لم تفعلوا خفت أن يصيبني منه أذى،
    ( قال: فأبوا وقالوا: لن نأكل، فلما جاء الصديق رضي الله عنه وأرضاه لما يبدأ بشيء أول منهم، )
    يعني: أول شيء عمله سأل عليهم،
    ( فقال:
    أفرغتم من أضيافكم؟ قالوا: لا والله! ما فرغنا، قال الصديق : ألم آمر عبد الرحمن ؟ قال عبد الرحمن : وتنحيت عنه،)
    يعني: أن
    عبد الرحمن تخفى، وعبد الرحمن هذا كان عمره أكثر من ثلاثين سنة، فاختفى منه،
    ( فقال:
    يا عبد الرحمن ! قال: فتنحيت أكثر، قال: فقال: يا غنثر! أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي إلا جئت، قال: فجئت. فقلت: والله! ما لي ذنب، هؤلاء أضيافك فسلهم، قد أتيتهم بقراهم فأبوا أن يطعموا حتى تجيء، فقال الصديق : ما لكم لم تقبلوا عنا قراكم؟ ثم قال أبو بكر : فوالله! لا أطعمه الليلة، )
    يعني: أنا لن آكل من الأكل هذا، ستأكلوه أنتم فقط،
    ( فقالوا: فوالله! لا نطعمه حتى تطعمه، فـالصديق قال:
    فما رأيت كالشر الليلة قط، ويلكم! ما لكم لم تقبلوا عنا قراكم؟ ثم قال: أما الأولى فمن الشيطان، هلموا قراكم، قال عبد الرحمن : فجيء بالطعام فسمى أبو بكر الصديق فأكل وأكلوا، يقول عبد الرحمن : وأيم الله! ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، )
    => وهذه كرامة واضحة للصديق ،
    ( يقول
    عبد الرحمن : حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل، فـالصديق نفسه تعجب، وقال لامرأته: يا أخت بني فراس ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني لهي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر الصديق وقال: إنما كان ذلك من الشيطان،) يعني: اليمين الذي أقسمه في البداية،
    ( ثم أكل منها لقمة زيادة للبركة، ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول
    عبد الرحمن بن أبي بكر : وكان بيننا وبين قوم عهداً -هدنة- فمضى الأجل ففرقنا اثني عشر رجلاً مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل،)
    يعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان بينه وبين قوم عهد أو هدنة، ولما انتهت الهدنة يريد أن يقاتلهم فجهز جيشاً الجيش هذا كان عليه اثنا عشر عريفاً أو اثنا عشر قائداً، ومع كل قائد رجال كثير لا يعلمهم إلا الله عز وجل، جاء كل هؤلاء الرجال فأكلوا من القصعة جميعاً،
    ( كما يقول
    عبد الرحمن : فأكلوا منها أجمعون، ثم قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله: يا رسول الله! بروا وحنثت؟ ) يعني: أن اليمين التي حلفها شديدة في نفسه،
    ( قال
    عبد الرحمن فأخبره، أي: حكى له القصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل أنت أبرهم وأخيرهم) .


    "حرص الصديق رضي الله عنه على ألا يرى مكانه"

    - ذُكر له ذات مرة امرأة نذرت أن تحج وهي صامتة لا تتكلم، فلم يرسل إليها أحداً، ولم يرسل في طلبها، بل ذهب إليها بنفسه وهو الخليفة، فقال لها: تكلمي؛ فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، وهي لا تعرفه، فتريد أن تعرف من هو فقالت: من أنت؟ قال: أنا امرؤ من المهاجرين،
    سبحان الله! هكذا بهذا التجهيل الكامل لشخصيته وهو الخليفة،
    قالت: أي المهاجرين؟ قال:
    من قريش، قالت: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسئول، أنا أبو بكر ،
    فعرفت أنه الخليفة، لكنها لم تفزع، وكيف تفزع وهي ترى هذا التواضع من الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ لكن شجعها تواضعه أن تسأله سؤالاً كان يشغلها،
    فقالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال:
    بقاؤكم عليه ما استقام به أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس،
    يعني: الصديق جعل بقاء الأمر الصالح بصلاح الأئمة والقواد .

    الشاهد من القصة:
    عدم سعي الصديق لإظهار نفسه حتى مع كونه خليفة.


    "
    إنكار الصديق حظ نفسه في تحسين صورته أمام الناس "

    أين حظ النفس عند الصديق في صورته أمام الناس؟ قد تشوه صورته أمام الناس فلا يعتبر إلا بمصالح الآخرين وإن كان على حساب صورته .

    - روى
    البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ( كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر -أي: خاصم- فسلم أبو بكر الصديق وقال: يا رسول الله! إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فغضبت ثم ندمت وسألته أن يغفر لي فأبى علي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر ! قالها ثلاث مرات، ثم إن عمر ندم أنه لم يسامح أبا بكر الصديق ، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر ؟ -يعني: أبو بكر هنا؟- قالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فجعل وجه الرسول صلى الله عليه وسلم يتمعر -أي يغضب غضباً شديداً- حتى أشفق أبو بكر على عمر أن يناله ما يكره من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجثا الصديق على ركبتيه فقال: يا رسول الله! والله! أنا كنت أظلم -ليس مهم صورته أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، المهم ألا يؤذى عمر - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر : صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟)، قالها مرتين صلى الله عليه وسلم، يقول أبو الدرداء : فما أوذي بعدها رضي الله عنه وأرضاه .


    "
    إنكار الصديق حظ النفس في الحياة "

    ظل الصديق منذ أسلم وحتى مات زاهداً في حياته، معرضاً نفسه للخطر تلو الخطر لم ينظر لحياته مطلقاً، وانظر إلى موقف رائع تحكيه السيدة عائشة رضي الله عنها:

    - تروي السيدة
    عائشة رضي الله عنها أنه لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة الأربعين رجلاً -يعني: في أوائل فترة مكة- ألح الصديق رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور فقال: (يا أبا بكر ! إنا قليل) ، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته، ولما ذهبوا إلى المسجد الحرام لم يكتف الصديق بمجرد الظهور، بل وقف خطيباً يدعو إلى الله تعالى، ويدعو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، ثار المشركون ثورة عنيفة وقاموا يضربون الصديق ضرباً عنيفاً، وتنكروا لأعرافهم في الجاهلية، ونسوا مكانة الصديق المرموقة في المجتمع المكي القديم، وأكل الحقد قلوبهم، وما زال بهم الحقد حتى أعمى أبصارهم،
    تقول السيدة
    عائشة : ودنى الفاسق عتبة بن ربيعة من الصديق رضي الله عنه وأرضاه وجعل يضربه بنعلين مخصوفين في وجهه حتى ما يعرف وجهه من أنفه، فتورم وجهه حتى أصبحت ملامح الوجه غير معروفة، والأنف اختف في خلال الوجه، وجاء بنو تيم يتعادون، - وبنو تيم هي قبيلة أبي بكر الصديق - ، فأجلوا المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكُّون في موته، ثم رجعت بنو تيم إلى المسجد وقالوا: والله! لئن مات أبو بكر لنقتل عتبة بن ربيعة ، ثم رجعوا إلى أبا بكر فجعلوا يكلمون أبا بكر وهو في إغماة طويلة حتى أفاق آخر النهار، فرد عليهم، أول كلمة قالها: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    - سبحان الله! حتى وهو في هذه الحالة بين الحياة والموت! وبنو تيم لم يفهموا هذه العاطفة الجياشة، بل كل ما فهموه هو الوضع الخطير الذي وضعهم فيه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهاهم على وشك أن يفقدوا علماً من أعلامهم وهو الصديق رضي الله عنه.

    ثم هاهم على أبواب معركة لا يحمد عقابها مع قبيلة عبد شمس قبيلة عتبة بن ربيعة ، وليست بالقبيلة الهينة في قريش، وهاهم قد توعدوا بقتل زعيم من زعماء قريش عتبة بن ربيعة ، ولا شك أنهم إن قتلوه ستنقسم قريش إلى أحزاب وشيع، وإن لم يقتلوه إذا مات الصديق فإنهم سيخلفون وعدهم، وهذا في عرف العرب إهانة لا تستقيم لهم بعده حياة، -
    كل هذه الأمور المتفاعلة جعلتهم يعنفون الصديق ويلومونه ويكيلون له الكلام بما فيهم أبوه أبو قحافة ، ومع ذلك فـالصديق لا يقول إلا شيئاً واحداً:
    ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    والتفتوا إلى أمه أم الخير -وكانت آنذاك مشركة- وقالوا: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه شيئاً، فلما انصرفوا حاولت أمه أن تطعمه وتسقيه، لكنه جعل يقول:
    ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
    - لا يستطيع أن يأكل أو يشرب إلا بعد أن يطمئن على حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم -

    وأشبهه بالأم التي أصيبت هي وولدها في حادث فأغمي عليها ثم أفاقت،
    - أيكون لها من هم إلا الاطمئنان على ولدها؟ هكذا أحب الصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يزيد -
    قال الصديق لأمه:
    اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه،
    و
    أم جميل هي أخت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت آنذاك مسلمة، وأخوها عمر كان مشركاً، فخرجت أم الصديق إلى أم جميل فقالت: إن أبا أبا بكر سائلك عن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم،

    - وهنا نرى موقفاً لطيفاً من
    أم جميل رضي الله عنها، المرأة المسلمة الواعية الحذرة، خشيت من أم الصديق ؛ لأن أم الصديق لا زالت مشركة أفتكشف نفسها وتعرف بإسلامها أمامها ببساطة أو بسهولة؟ لا، وإن فعلت وكشفت إسلامها أتثبت لها أنها تعرف المكان الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسول عليه الصلاة والسلام يجلس مع الصحابة في دار الأرقم، ودار الأرقم مجهولة لأهل مكة، أفتدل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هنا فكرت أم جميل بسرعة -

    وقالت: ما أعرف
    أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، قالت أم جميل المرأة الحكيمة بلباقة: إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت؟ قالت أم الصديق : نعم، فذهبت معها حتى دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فوجدته صريعاً ملازماً للفراش في حالة خطيرة بين الحياة والموت، فقالت: والله! إن قوماً نالوا منك لأهل فسق وكفر، إني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، فأعرض الصديق عن كل هذا وكان له هم واحد قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    - وأم جميل احتارت، أم الصديق واقفة بجانبه وأم الصديق مشركة، هل ستقول له: أنا أعرف أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم؟ -
    فهمست إلى الصديق هذه أمك تسمع، قال الصديق مطمئناً:
    لا شيء عليك منها،
    - ويبدو أن الصديق كان يرى قرباً من أمه للإسلام، فلم ير بأساً من ذلك؛ لأن أمه -كما سيأتي- ما لبثت أن أسلمت، -
    قالت أم جميل رضي الله عنها: سالم صالح، قال الصديق :
    أين هو؟ قالت: في دار الأرقم، قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه في إصرار وعزيمة: فإن لله علي ألا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتظروا حتى جاء المساء، كل هذا وهو لم يأكل حتى جاء المساء، وهدأت الرجل بمكة، وسكن الناس، وخرجت المرأتان بـالصديق رضي الله عنه لا يقوى على السير ولكنه يتكئ عليهما، فسارتا به حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تأمل كثيراً لما فيه وأسرع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكب عليه يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكب عليه المسلمون،
    تقول السيدة عائشة : ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فأسرع الصديق يطمئن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
    بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي.

    - ثم إن الصديق رضي الله عنه وأرضاه وفي هذا الموقف لم ينس دعوته ولم ينس أمه، إنها ما زالت مشركة، وها هي ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنوار النبوة على وجهه، فتاقت نفسه إلى إسلامها، -
    قال:
    يا رسول الله! هذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت .



    التواضع

    إذا تسائلنا ماهي مواقف التواضع للصديق رضي الله عنه ، نجد الإجابة في منتهى الصعوبة ، لأن معناه أن نحكي حياة الصديق بكاملها .

    - روى البخاري عن
    عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)
    هذه الكلمات وقعت في قلب أبي بكر وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها، فأسرع الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (
    يا رسول الله! إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده). عنه فقال: (إنك لست ممن يفعله خيلاء)

    موقف آخر من أبرز مواقف التواضع لدى الصديق رضي الله عنه موقف ينطق بتواضعه الفطري رضي الله عنه وأرضاه، هذا الموقف كان بعد أن تولى الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أشق وأصعب.
    والإنسان قد يتواضع عندما يفتقر إلى تمكين أو سيادة أو سلطان، لكن أن يتواضع وهو في أعلى مناصب الدولة فهذا هو التواضع الحقيقي الواضح.

    - خرج الصديق رضي الله عنه يودع جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما المتجه إلى حرب الروم في الشمال.
    و الصديق حاكم الدولة، ويبلغ من العمر ستين عاماً، وأسامة بن زيد جندي من جنوده، ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره.ومع ذلك الصديق الحاكم المسن يخرج يودع الجيش ماشياً على قدميه، وأسامة بن زيد الذي هو شاب يركب على جواده،
    إنه موقف في منتهى الغرابة، ولافت - جداً - للنظر، وطبعاً هذا الموقف لفت نظر أسامة بن زيد رضي الله عنهما فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله! لتركبن أو لأنزلن،
    فقال الصديق المتواضع رضي الله عنه:
    والله! لا تنزل، ووالله! لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة.


    نعمة الثبات

    الثبات على دين الله عز وجل نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، وقد كان
    أبو بكر الصديق رضي الله عنه أشد الناس ثباتاً بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت على الإسلام من أول يوم، وقدمه على نفسه وأهله وماله، وثبت عند موت حبيبه صلى الله عليه وسلم، وعند حروب الردة وفي غير ذلك من المواقف الكثيرة في حياته رضي الله عنه.

    " وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم "


    لكي نفهم هذا الموقف جيداً لابُد من شرح أحوال المدينة والصحابة رضوان الله عليهم و حتى نفهم موقف أبو بكر الصديق لابُد من ذكر مواقف الصحابة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وأظلمت المدينة، وأصاب الحزن والهم كل شيء فيها، ليس الصحابة فقط بل نخيل المدينة وديار المدينة وطرق المدينة ودواب المدينة.

    - يقول
    أنس بن مالك رضي الله عنه: ( ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوماً قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
    فهذه المصيبة أذهلت عقول الأشداء من الرجال، وأذهلت ألباب الحكماء منهم، فاحتاروا جميعاً،

    - حتى وقف
    عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات.

    - يقول
    أنس بن مالك رضي الله عنه: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلمت المدينة حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.

    و بينما هم كذلك إذ جاء
    أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وجازاه خيراً كثيراً عما قدمه لأمة المسلمين، جاء الصديق من السنح -منطقة خارج المدينة- بعد أن وصله النبأ هناك، وإن تخيل أحدنا أن صحابياً سوف يموت حزناً وهماً وكمداً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا شك أننا جميعاً سنقول: إنه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أشد الخلق حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب الرجال إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شك أنه قد يخطر ببال الناظر للأحداث أن الصديق سيفعل من علامات الغضب والثورة والانهيار والتصدع ما لم يفعل أحد غيره.

    أقبل
    أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح ونزل عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلم الناس، ودخل المسجد، ومنه دخل إلى بيت عائشة رضي الله عنها حيث مات رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدرها، فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، ، ثم قال الصديق وقلبه يتفطر: ( بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها )، ثم خرج في ثبات عجيب
    فوجد
    عمر في ثورته يتكلم مع الناس والناس مكتفون حوله يتمنون أن لو كان كلامه حقاً، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعود ثانية كما يقول.

    قال الصديق في ثبات ورباطة جأش عجيبة:
    اجلس يا عمر !
    لكن
    عمر قد أذهلته المصيبة فلم يسمع الصديق رضي الله عنه وأرضاه فلم يجلس، وظل على حاله، لكن الناس كانوا قد وجدوا وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول أبا بكر ، فتركوا عمر والتفوا حول الصديق ينتظرون ما يقول.

    قال الصديق في فهم عميق وحكمة بالغة:
    أما بعد:

    من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، وهذه حقيقة لابد من الاعتراف بها، قال: ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وفي براعة ولباقة وتوفيق قرأ الآية الكريم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]


    - يقول
    ابن عباس رضي الله عنهما: والله! لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها.

    أفاق الناس وبدءوا في البكاء الشديد، وكانت الآية سلوى للمؤمنين وتعزية للصابرين، وجزاءً للشاكرين.

    ووصلت الآية إلى أسماع
    عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول عمر بن الخطاب : والله! ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعثرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.

    وثبت الله الأمة جميعاً بثبات الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهذه واحدة من أعظم حسناته رضي الله عنه وأرضاه، وما أكثر حسناته رضي الله عنه وأرضاه .



    إلى هُنا نكونْ قد وصلنا لنهاية موضوعنا مُتمنية أن تكونوا قد قرأتموه جيداً واستوعبتوه و مرَّرتموه على عقولكُم لِتتعلموا من حياة الصديق رضي الله عنه ،
    فليس ما كُتبَ هُنا لمُجرَّد القراءة والاستمتاع فقط إنما هو لنتعلم عن الصدِّيق رضي الله عنه و إن لم نستطِع أن نكون مثله إذا قريباً منه فهو ليس إلا بشر مثلنا كما ذكرت سابقاً ،
    - قال أبو بكر بن عياش:
    "ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه"
    إذاً فلابُد أن نبدَأ بالإيمان أولاً ، انظر في إيمانك وجِد مافقدته وارجع إلى الله تعالى و لتكُن تلك نقطة التغيير في حياتكْ .


    ما كُتبَ في الأعلى ماهو إلا تفريغ لسلسلة دروس عن سيرة الصديق رضي الله عنه كُنت سمعتها من قبل كثيراً وأُعجبتُ بها بشدَّة و الحمدُلله قد غيرتني كما آمُل أن تُغيَّرَكُم بإذن الله،
    وضعتْ لكُم فقطْ أبرز المواقف و اختصرتْ الكثير حقاً لِضيق الوقتْ و الإنشغالاتْ لِذا سأضع بين يديكُم السلسة كامِلة آملة أن تسمعوها جيِّداً وتستفيدوا منها .




    في النهاية لابُد من شُكرْ خاصْ لغاليتي
    Miaka Yuki
    شُككْراً لكِ حبيبتي على تَحَمُلِكِ طلباتي الكثيرة المُزعجة ، أسعدتني حقاً هذه التصاميم ^^
    جُزيتي الجنَّة ، أنارَتْ تصاميمُكِ موضوعي حقاً <333
    ...
    أيضاً
    أبو جميل
    شُكراً جزيلاً لَكَ على التشجيع ،
    رُغمَ بساطَتِه إلا أنَّه دفعني لإنهاء الموضوع ولم ينَلْ الكسل مني هذه المرَّة ^^
    الشُكرُ لَكْ على إنهاء هذا الموضوع بسلامْ .








  2. 14 أعضاء شكروا حُوريَّة على هذا الموضوع المفيد:


  3. #2

    الصورة الرمزية بوح القلم

    تاريخ التسجيل
    Apr 2014
    المـشـــاركــات
    3,354
    الــــدولــــــــة
    كندا
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: أبو بكرٍ الصِدِّيقْ رضي الله عنه و أرضاه -"/ مسابقة في رحاب الأصحاب /"-

    السلام عليكم ،،

    أبو بكر وما أدراك ما أبو بكر رجل لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمانه هو ثاني اثنين وأحب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

    ألا باركك الله لجميل ما جادت به يمناك حورية وروعة ما حوت السطور من سيرة عطرة للصّدّيق أبو بكر رضي الله عنه

    لقد استمتعت جدًا بقراءة الموضوع وكأني أقرأ سيرته للمرة الأولى جعله الله في ميزان حسناتك وجعله نورًا لك يوم القيامة

    بالتوفيق



  4. #3

    الصورة الرمزية wreef

    تاريخ التسجيل
    Jun 2013
    المـشـــاركــات
    898
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: أبو بكرٍ الصِدِّيقْ رضي الله عنه و أرضاه -"/ مسابقة في رحاب الأصحاب /"-

    السلام عليكم شكرا على القصة -

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...