الحلقة الثالثة عشرة

بعد موافقة التعاونية وتسجيل رقم المعاملة، انتبهت الطبيبة المسؤولة إلى أنه لا يوجد تقرير سكانر يؤكد حاجتي إلى العملية، وهكذا نزلت اليوم التالي إلى طرابلس على الريق، وانتظرت حتى وصل الطبيب العيادة، وكتب لي صورة السكانر، وعدتُ إلى تعاونية الموظفين للحصول على الموافقة المسبقة، ثم توجهتُ إلى المركز لإجراء السكانر، وانتظرتُ مدَّة لا بأس بها حتى أعطوني الصورة والتقرير، فعدتُ بهما إلى الطبيب، ليراهما مؤكدًا صحة تشخيصه (وكان مسؤول مركز التصوير قد أكدهما لي فعلًا)، تابعت إلى المستشفى وكانت الساعة تقترب من الثالثة بعد الظهر، لإجراء التحاليل المطلوبة ورؤية طبيبة الطوارئ وطبيب البنج (ذلك الطبيب البارع الذي لم يجعلني أشعر بوخزة الإبرة سابقًا)، وطلبوا مني أن أكون عندهم الساعة السادسة والنصف، وأخبرتُهم في حزم أني سأبقى مرتديًا ملابسي تحت ملابس المستشفى، وهي من القطن الخالص (الطبيب نفسه لم يعترض على هذا، ووافقني فيه)، وكذلك وافقوا هناك في المستشفى.

وبعد اكتمال الملف، طلبتْ إليَّ المسؤولة في الاستقبال أن أكون عندهم الساعة السادسة، فرددتُ ساخرًا أني سعيد لأنِّي لن أرى أحدًا آخر كي لا يطلب مني أن أكون في المستشفى الساعة الخامسة! ثم أخبرتُها في حزم، أني لست مستعدًا أن أكون الساعة السادسة أو حتى الثامنة، وأبقى منتظرًا حتى الساعة الثانية عشرة مثلًا لإجراء العملية، وقد كانت متجاوبة متفهمة، ووعدتني أنها ستسعى جهدها لتحقيق ذلك لي، وكلمتِ الطبيب بخصوص ذلك، ووعدتْ خيرًا.

وهكذا في اليوم التالي، لم أكد أدخل غرفتي حتى طلبوني إلى غرفة العمليات، فعلقوا لي المصل، توكلت على الله تعالى، وانتقل بي السرير النقال إلى غرفة العمليات، وهناك اعترض طبيب البنج على وجود القميص الخارجي، لأنه لن يسمح له بتثبيت الأقطاب التي يريدها في صدري، وانتزع إبرة المصل في ثوانٍ معدودات، من دون أن أشعر بوخزة بسيطة حتى (فعلًا إنه طبيب بارع في هذا)، وخلعت القميص الخارجي، الذي تناوله مني الطبيب الذي سيُجري العملية ووضعه جانبًا، ثم طلب مني طبيب البنج أن أتحمل البنج قليلًا، وهذا ما لم أفهمه بادئ الأمر، كيف سأتحمل البنج؟! أعرف أن البنج مهدئ يجعلنا ننام، فما المقصود بأن أتحمله؟!

ثم فهمت الأمر مع تيار من نار يسري في يدي اليسرى، جعلني أكتم صرخة الألم بصعوبة، والطبيب يقول لي ببساطة "ستشعر بيدك تحترق قليلًا فقط"! والحمد لله أني غبت عن الوعي سريعًا لأرتاح من هذا البنج العجيب! استعدتُ وعيي مع ألم كبير في أنفي (ربما بسبب تجليس الغضروف) فطلبت المسكِّن، فأتاني صوت الممرضة ترفض إعطائي أي مسكِّن، احتددت عليها قليلًا، فالألم كان فظيعًا بحق، فأخبرتني أنها ستضع المسكِّن لي في المصل، وهكذا عادت النيران تشتعل في يدي! لم أفهم حتى الآن ما هو هذا المسكِّن اللعين الذي يحرق الأيادي، وكيف يكون مسكِّنًا وهو بهذه الصفة التعيسة؟

كنت أتصبب عرقًا، والغرفة كانت خانقة، لكن المكيف كان معطلًا، اتصلوا بالشركة لأنه ليس عندهم أي فني اختصاصي لإصلاحه، ثم صعد أحدهم على الكنبة وأخذ يتلاعب بالمكيف حتى اشتغل (ولا أعلم كيف اشتغل حقيقة بمجرد اللعب به) لكن الفرحة لم تكتمل، فنحن لا نستطيع التحكم بدرجة الحرارة ولا باتجاه الهواء، فلم يكن هناك ريموت كنترول للمكيف! وحتى الريموت كنترول الذي أتحفونا به فيما بعد لم يُفِدنا بشيء، لأنه لم يكن للمكيف أصلًا!

بدأ النزيف أولًا من أنفي (قبل إصلاح المكيف)، دم أحمر قانٍ، وأعتقد بأن هذا أمر طبيعي، لكن والدي خاف من ذلك، خرج يبحث عن أحد من طاقم التمريض فلم يجد أحدًا، وهكذا يدخل والدي الغرفة ويخرج، حتى (ظهرت) ممرضة أخيرًا، وأخبرها والدي بأنه سيشكو إلى الإدارة هذا الإهمال، خاصَّة أني أنا درجة أولى في الاستشفاء، فكان ردها (نحن ما لنا علاقة)، بمعنى أنها لا تعرف ماذا ستفعل، ومن حسن حظها أن الطبيب كان ما يزال في المستشفى وقد أتى مسرعًا، ورفع الضماد عن الأنف، وأدخل آلاته فيه ليرفع الفتيل إلى الأعلى قدر الإمكان، وكان الألم قاسيًا، لكن الطبيب قال إنه لم يضع الفتيل في البداية عاليًا كثيرًا كي لا يؤلمنا حين يحين وقت نزعه، وهذا سبب الدم، والآن ها هو يرفعه ولن يكون هناك دم من الأنف بعد الآن...
وطلب الطبيب إليَّ فتح فمي، طاوعتُه وأنا لا أعلم ماذا يريد، فما كان منه إلا أن أدخل أداة حادة في فمي، كاد يصل بها إلى حلقي، لأتقيأ أنا بهذه الطريقة دمًا أسود، قال الطبيب إنه الدم الذي تمَّ ابتلاعه خلال العملية، وهو فاسد بالطبع، ولا بد من الخلاص منه، ومع ذلك، لم أستسغ طريقة التقيؤ هذه على الإطلاق.

وصلت أختي هنا وغادر والدي، تمددت أنا قليلًا، في محاولة للنوم، ولكن، عاد الدم ليتدفق، بغتة،
لا من أنفي، بل من فمي، دفق دموي حاد ملأ الفراش بجوار كتفي، ومساحة كبيرة من أرضية الغرفة...
وخرجت أختي تبحث عن الممرضة، وهذه المرة كانت موجودة، وقد أتت مسرعة ثم توقفت مبهوتة تهتف (أووووه! كل هذا دم)؟ سألتها أختي مغتاظة عن التصرف الذي يجب أن يتمَّ لتفادي هذا النزيف الغريب، لكن الرد كان أنها لا تعلم! ستنظف الدم، وأكثر من ذلك لا تعلم ماذا تفعل (ما شاء الله على هذه الخبرة التمريضية)، وحاولت الممرضة الاتصال بالطبيب لكن هاتفه كان خارج الخدمة، ثم نجح الاتصال بعد ذلك، وأمر الطبيب بتجهيز غرفة العمليات لإعادتي إليها، وهنا كان الدفق الدموي الثاني، الذي يتضاءل إلى جواره الدفق الأول، لقد سبح صدري في نصفه الأيمن والسرير ومساحة كبيرة جدًا من الأرض بالدم، وأحسست بجسمي بدأ يرتجف، وخرجت أختي تبحث عن أحد من طاقم التمريض لكنها لم تجد أحدًا منهم بادئ الأمر، وأخذت أختي تصرخ مستغيثة من هول ما تراه، ويبدو بأنني قد مِلْتُ بجسمي كثيرًا في محاولة لتجنيب صدري المزيد من الدم، وأنا أواصل استفراغه من فمي، وسمعت أختي تصرخ: "سيقع أخي، أين أنتم"؟ السرير كان ضيقًا مساحته محدودة، وأنا لم أعد أستطيع الرجوع إلى الوضع السابق، لم يكن ينقصني سوى حركة بسيطة وأقع فعلًا، وعادت أختي تخرج من الغرفة وتبحث، حتى التقَتْ بممرضة أخيرًا، ونفس ردة الفعل (أووووه! كل هذا دم)؟ ثم كانت الإبرة القاسية في يدي لتحليل الدم! كنتُ في حالة من الضعف لم أحسَّ بها من قبل، وشعرتُ بضربة الإبرة كأنها مطرقة كبيرة اخترقتْ عظامي، لأتأوه ألَمًا، ودخل هنا أحد الشباب (وهو مسؤول في مختبر الدم وليس ممرضًا) طالبًا مني أن أنهض لأتمدد على السرير النقال لنذهب إلى غرفة العمليات مرة أخرى (عن اليسار حامل المصل ثم الجدار، ولا يمكن أن يدخل السرير النقال في هذه المسافة، وعن اليمين الأرض والفراش يسبحان في الدماء، وقد قررت الممرضة العبقرية أن تبقى الدماء من دون تنظيف، حتى يراها الطبيب، وما فائدة ذلك طالما أنني سأرجع إلى غرفة العمليات في كل الأحوال)؟!

طلبتُ إلى الشاب أن يتمهل حتى أدخل الحمام (فقد شعرت بدفق دموي فادح على وشك الخروج، ولم أكن مستعدًا للسباحة في الدم مرَّة أخرى)، فطلب إليَّ أن أسرع لأنهم ينتظرونني في العمليات، وهكذا كان، قمْتُ بمفردي إلى الحمام (وهذه حماقة منهم، يُضاف إليها طلب الإسراع هذا)، وشعرت بشيء ينفجر في رأسي، وبأنني أتهاوى، مددتُ يدي لأتمسَّك بحافة المرآة فوق المغسلة، وكان هذا فصل الختام، أما مَنْ خارج الغرفة فقد سمعوا صوت الخبطة المدوية، وأسرع ذلك الشاب ليفتح باب الحمام، وهناك كنتُ واقعًا على أم رأسي، غارقًا في بحيرة من الدم الأحمر القاني.


تابعوا معنا