الحلقة السادسة عشرة

ما هذا الذي توقف؟ لا يمكن أن يكون قلبي! فأنا أسمع جيدًا، بل وأقدر على الرد"! أم أن الأمر كما كان في غرفة العمليات حين سمعتُ الطبيب ورددتُ عليه، أو ظننتُ أنني رددتُ عليه، وأنا لا أتنفس؟
هل سأنتقل إلى مكان وجود أمي مرة أخرى؟ يا للسعادة؟!
ولأثبتَ لنفسي أنني ما زلتُ حاضرًا في هذه الحياة، تساءلتُ بِحَيرة: "ما هذا الذي توقف"؟ وارتقبتُ هل سأستمع ردًا يؤكد لي بأن من يتكلم قد سمعني؟ وأتاني الرد فعلًا: "كيس المصل توقف"، ولم أرَ في ذلك ما يُقلق بادئ الأمر، لكني مررتُ بالمعاناة الشديدة بعدها، لإخراج إبرة المصل من يدي، وشكها بمكان آخر، ثم مكان ثالث، ثم في اليد الثانية، ثم إلى اليد الأولى، وكل إبرة تنتزع مني صرخة ألم حادة بسبب حالة الضعف الشديدة التي كنتُ فيها، وأحيانًا كان يُغمى عليَّ بسبب انخفاض الضغط هذا، وأستيقظ لأرى موضع المصل قد تغير، فلم أعلم كم مرة قاموا بتغيير موضعه، قبل أن نكتشف، فيما بعد، أن الممرضة الحمقاء هي التي كانت توقف المصل بالخطأ، وقد رآها صدفة شاب آخر من المختبر (نذر نفسه لخدمتي ورفض الرجوع إلى بيته بعد انتهاء دوامه، جزاه الله كل الخير)، هذا الشاب أعاد تشغيل المصل بلمسة يد واحدة، بعد أن استعانوا به، ويبدو أنهم نشروا الخبر أن المصل لا يعمل في جسمي أنا تحديدًا!!
ولا أعلم أية حماقة هذه لدى هكذا ممرضة، جعلتني أمرُّ بهكذا عذاب! لكنها كررت خطأها هذا، والحمد لله أن هذا الشاب كان موجودًا، فأسرع يشغل المصل وينهر الممرضة ويوبخها لأنها تحرك فيه شيئًا ما يجعله يتوقف، لكن حماقتها هذه كلفتني آلامًا كثيرة، عدا عن آلام إبر تحليل الدم المتواصلة، وقد علمتُ بعض النتائج لاحقًا... بعد النزيف الثاني الهيموغلوبين 16، بعد النزيف الثالث الهيموغلوبين 13 (كم كان كان قبل النزيف الأول؟ إلى أي رقم تدنى بعد النزيف الخامس أو السادس)؟! لقد مرَّ جسمي بحالة إرهاق عنيفة لم أشعر بمثلها من قبل، وحتى حينما أتى صديقي محمد لزيارتي، لم أستطع معرفته بادئ الأمر، إذ كنتُ في أسوأ حالات إرهاقي، وما تزال الألوان غير صحيحة في عيني، رغم تخلصي من مشكلة اللون الرصاصي واللون الأسود.
هناك أحداث فقدَتْها ذاكرتي هناك، ومنها أن الطبيب دخل غرفتي هو وإحدى الممرضات، أو للدقَّة إحدى الممرضتين، لتقول لي هذه الممرضة: (عمر، لا بقى تعذبنا هيك)! رغم أن الممرضتين في تقديري في أوائل العشرينات، وأنا في أواخر الثلاثينات، إلا أنه لا بأس بمناداتي من دون ألقاب، كلقب "أستاذ" مثلًا، لأني كدتُ أستبدل به لقب "المرحوم" على لحظة! ولا أذكر كذلك أن الطبيب عاد يُدخِل تلك الأداة في فمي، ويعلن بأن كل شيء على ما يرام، مع أن هذه النقطة أذكرها فعلًا! أذكر بأن الطبيب كان يقف أمامي حاملًا أداته هذه، وأنا أقول له متوترًا: "لا أريد أن أتقيأ الدم مرَّة أخرى".
لا أعلم متى حصل هذا، وإن كان قد حصل في حضور محمد، أم حصل مرة أخرى، فمحمد ذكر لي، حين زارني في بيتي، دخول الممرضة وما قالته، ودخول الطبيب وفحصه داخل فمي، ولم يذكر لي أني طلبتُ من الطبيب أنني لا أريد تقيؤ الدم!
لا علينا من هذا، فسواء أتى الطبيب مرتين أو ثلاثًا، ليست هذه بمشكلة، المشكلة في الإهمال الذي مررتُ به، المشكلة حين تدخل ممرضة حاملة صينية طعام، معلنة أن هذا الطعام لي، وقد كانتِ اثنتانِ من أخواتي موجودتينِ، وكلتاهما لها خبرة طبية محدودة بفضل دراستها المخبرية، فاستوثقَتْ إحداهما من الممرضة بارتياب: "هل الأكل لأخي فعلًا"؟
وردَّتِ الممرضة: "نعم"، وخرجَتْ من الغرفة فلحِقَتْ بها أختي، وإذ بطبيبة الطوارئ أمامها (كذلك هذه الطبيبة ظلتْ تتنقل بين غرفتها وغرفتي للاطمئنان إلى وضعي، فجزاها الله كل الخير)، وسألتْ أختي الطبيبة إن كان الطعام لي، فَرَدَّتِ الطبيبة باستنكار شديد إن الأكل قد يقتلني، وكيف آكل وأنا أتقيأ دمًا؟ بل إن الشرب ممنوع في هذه الحالة لأنه خَطِر، ثم نظرَتْ طبيبة الطوارئ إلى الممرضة متسائلة: "ألم تخبريهم بأن هذا الطعام للأهل، والمريض لا يستطيع أن يأكل لقمة واحدة، فقد يتسمم جسمه"؟ ومن دون تردُّد أجابت الممرضة: "بلى، أخبرتُهم بذلك"!
لا أعلم سبب هذا الإهمال، وهل بَدَت معلومة مثل هذه المعلومة تافهة بالنسبة إلى هذه الممرضة كي تكتمها؟ لم أكن أنوي الأكل أصلًا، فأنا أدرك خطأ حصول ذلك لمن يتقيأ التقيو المعتاد، فكيف الحال بمن يتقيأ دمًا أحمر قانيًا؟ لكني، في الوقت ذاته، كنتُ مستعدًا لشرب عدة ليترات من الماء أو العصير _ وكان هناك عصير جزر مع الأكل _ لما أعانيه من جفاف وتخشب في الحلق كان قاسيًا بعد العملية الأولى، وبات أقسى بكثير بعد العملية الثانية، ولكن مسألة تسمم أو التسبب للمريض بضرر كبير، مسألة بسيطة لا يجب أن نتوقف عندها فيما يبدو، مع هذه ممرضة!
والكذب لم يتوقف هنا، فقد أثار أختي موضوع آخر، وهو أنني لم أستخدم الحمام على الإطلاق، فطلبَ إليها الشاب الذي كان موجودًا حين أغمي عليَّ، بعد العملية الثانية، ألا تقلق، لأنني _ أي أنا_ قد قضيتُ حاجتي قليلًا حين دخلتُ الحمام قبل أن يُغمَى عليَّ، ولم تصدق أختي ذلك، وذلك لسبب بسيط، هو أنني لا أتحرك بالسرعة الضوئية، ما كدتُ أدخل الحمام، حتى سمعوا صوت سقوط جسمي على الأرض، وحين سألَتْني أخبرتُها بأن هذا الشاب كذاب، ولم أخبره بشيء كهذا، ثم من يكون هو أصلًا حتى أتجاذب معه الحديث حول موضوع كهذا؟؟
ويستمرُّ الكذب! هذا الشاب يخبر أختي بأنهم لم يستطيعوا معرفة نسبة الهيموغلوبين بعد النزيف الأخير، لأني رفضتُ رفضًا قاطعًا السماح لهم بتحليل الدم، وذلك لأن يدي أصبحت زرقاء! ويا لهذا الهراء! متى يهمني إن كانت يدي زرقاء أم خضراء اللون؟!
هذه النقطة أذكرها جيدًا، كان متجهًا نحوي بالإبرة، ليغرسها في يدي اليمنى في الموضع الذي اعتاد سحب الدم منه، والذي مزقوه فعليًا حين وضعوا إبرة المصل فيه، وتركوا ما يشبه النفق في يدي، بسبب همجيتهم وقِلَّة خبرتهم، فطلبتُ إليه أن يؤجل ذلك، لأني لم أعد أحتمل المزيد من الآلام. وهذه النقطة نفسها أكدتها الممرضة التي كانت حاضرة، فقد أخذَتْ تتهكم بي أمام أختي، فيما بعد، كيف أنني أخاف من الإبرة، إلى درجة أنني رفضتُها من شدَّة خوفي منها، ولو سمعتُها لأسمعتُها ردًا يعلمها الأدب، فحتى لو كنتُ أخاف الإبرة، وأنا فعليًا أخافها، إلا أن غباءهم الشديد جعلهم يسبِّبون لي الكثير من الآلام، إضافة إلى حالةٍ من الضعف الشديد جعل من الآلام البسيطة أشبه بغرفة تعذيب لا يمزح أصحابها!
لقد شعرتُ بالإرهاق يتزايد لكثرة ما فقدته من الدماء، وبأن المرئيات أمامي ما تزال دون ألوان صحيحة، رغم أن مسلسل الوقوع في الغيبوبة والخروج منها قد توقف...
وفيما أنا على هذه الحال من الآلام وشبه عمى الألوان، إذ بالممرضة تدخل وهي تهتف بحماسة شديدة وابتسامة عريضة: "أبشر... أبشر"...
شعرتُ بدهشة لم أشعر بمثيل لها في حياتي... ما هي البشارة التي تحملها هذه الممرضة؟! الهيموغلوبين في دمي كان بنسبة 13، وحصل نزف الدم من بعد ذلك عدة مرات، فهل ارتفع الهيموغلوبين وحده فجأة أم ماذا؟! مستحيل!!
ورغم أن عقلي يهوى الاستنتاجات والتحليلات، إلا أنني وجدتُ نفسي في هذه المرة عاجزًا عن وضع أي فرضية كانت، فلم أجد أمامي سببًا واحدًا يمكن أن يشكل بشارة لي...
وشعرتُ بالحيرة الشديدة، وأنا أترقب تلك البشارة العجيبة...

تابعونا