نموذج ثانٍ عن النمط السردي:

(نص: العراقي والمَرْوَزي، للجاحظ من كتابه: البخلاء):
1_ ومن أعاجيب أهل مَرْوَ، ما سمعناه من مشيختنا على وجه الدهر، وذلك أن رجلًا من أهل مَرْوَ كان لا يزال يحج ويتَّجر، وينزل على رجل من أهل العراق، فيكرمه ويكفيه مؤونته. ثم كان كثيرًا ما يقول لذلك العراقي: ليت أني قد رأيتك بِمَرْوَ، حتى أكافئك لقديم إحسانك، وما تجدد لي من البِّرِّ في كل مرة، فأما ههنا فقد أغناك الله عني.
قال: فعرَضَتْ لذلك العراقي بعد دهر طويل، حاجة في تلك الناحية، فكان مما هَوَّن عليه مكابدة السفر ووحشة الاغتراب، مكان المروزي هناك. فلما قدم مضى نحوه في ثياب سفره، وفي عمامته وقلنسوته وكسائه، لِيَحُطَّ رَحْلَهُ عِندَه، وأَكَبَّ عليه وعانقه، فلم يره أثبته ولا سأل عنه سؤال من رآه قط. قال العراقي في نفسه: لعل إنكاره إياي لمكان القناع، فَرَمَى بقناعه، فكان له أنكر. فقال: لعله أن يكون إنما أوتي من قبل العمامة، فنزعها ثم انتسب، فَوجَدَه أشدَّ ما يكون له إنكارًا. فقال: فَلَعَلَّه أوتِي من قبل القلنسوة. وعلم المروزي أنه لم يبق شيء يتعلق به المتغافل والمتجاهل، فقال له: "اكرازبوست بارون بيائي نشناستم"، ومعنى هذا القول: "لو خرجْتَ من جلدك لم أعرفك".

توظيف النمط السردي في هذا النموذج:
ونستقرئ بُنْيَة النمط السردي أولًا، لوضوحها في هذا النص، وتيسير استخراجها، لنرى أنها على النحو الآتي:
أ_ الوضع الأولي: عراقي يكرم مروزيًا ينزل عنده في تجارته.
ب_ الحدث المبدِّل: سفر العراقي لحالة تعرض له إلى مَروَ.
ج_ العقدة: نزول العراقي عند المروزي الذي أنكره.
د_ الحل: تخفف العراقي من ملابسه لعل المروزي يعرفه.
هـ_ الوضع النهائي: رفض المروزي تعرُّفَ العراقي ورَدُّه بالفارسية.

وأما مؤشرات النمط السردي في هذا النموذج، فهي الآتية:

أ_ الزمان: وجه الدهر. المكان: العراق، مرو.
ب_ أدوات الربط المتعلقة بالزمان: كثيرًا ما يقول، ههنا، بعد، فلما...
ج_ الشخصيات: المروزي، العراقي.
د_ تسلسل الأحداث: مروزي يسافر للحج والتجارة، وكل مرة ينزل عند عراقي يكرمه، ثم يسافر العراقي مرة إلى مرو وينزل عند المروزي الذي ينكره، فيظن العراقي بأن ذلك بسبب ملابس السفر التي يرتديها فيتخفف منها، ولكن المروزي ينكره وينكر نفسه كذلك حينما ردَّ بالفارسية.
هـ_ الجمل الخبرية: أن رجلًا كان ما يزال يحج، فعرضَتْ لذلك العراقي بعد دهر طويل حاجة، فلم يَرَه أَثبَتَه...
و_ الأفعال الماضية: أغناكَ، عرضَتْ، قدم، مضى، أكبَّ، عانقَه، سأل، فرمى... والأفعال المضارعة الدالَّة على الماضي: كان لا يزال يحج ويتجر وينزل، كان كثيرًا ما يقول، قد رأيتك حتى أكافئك، مضى ليَحُطَّ، لم يَرَه...
ز_ ضمير الغائب: كان، ينزل، يكرمه، قدم، مضى، عرضَتْ، نحوه، عمامته...