نموذج من الوصف الوجداني: (نص: مطالعات ريفيَّة، للكاتب: أمين نخلة، طُرِح في دورة 2007 الإكمالية الاستثنائية للثانوي الثالث إنسانيات):


1_ خريرُ المياهِ قصيدةٌ في المديح، ليس وراءَها مديحٌ مُرقِص! فلَعمرُكَ ما التقتِ الشفاهُ على قصيدةٍ هي أحلى ممَّا يَتَنَعَّمُ به الماءُ في خريرِه، مادحًا نَفسَه، شاديًا بفضلِ وجودِهِ على جذورِ الشجرِ وذرَّاتِ التراب.
2_ والحمدُ لله! فإنَّ النهرَ يغادرُ حدودَ قريتِنا، ولا ينقلبُ إلى وراء... فلقد خَفَفْنَ إليه من الصبح، وهو في بعضِ عطفاتِه... وغَسَلْنَ فيه الثيابَ البيض، وذَهَبَ النهرُ من هنالك بألفِ قصَّة.
3_ وعلى بابِ الطاحونِ لا بدَّ للدربِ من أن تتوقَّفَ عنِ المضي! فهناك موسيقى الرَّحى، هناك الشَّميمُ المنعش، الذي يعبقُ من الباب، فتحومُ الطيرُ على طيبِ الرائحة، وهي لا تعرفُ أَين تدورُ "الدوائرُ" على الحَبِّ المشتهى...
4_ ويا طالما قلْتَ، في نفسِك، بين يَدَيِ الأزاهرِ الريفيَّةِ التي تبرحُ مكانَها، ولا تعرفُ أَنتَ أَسْماءَها: جادَها الله، أَو الغيث! فهي أَشْبَهُ ما تكونُ بالجمالِ المضنونِ به على غيرِ أَهلِه! وعلى الحقيقةِ إِنَّ عصرَ المداواةِ بالزهرِ كان عصرًا شهيًّا. كان بالأَرَجِ يُداوى، وبالمَلاحةِ يُطيَّب، وكان صاحبُ العلَّةِ منَ الناسِ يُقبلُ على الطبيعة، وهي قائمةٌ على ساقِها، لا كما نفعل، نحن اليوم، إِذْ هي طحينٌ في علبة، أَو عجينٌ في حُقٍّ، أَو سائلٌ في قنِّينة! عَصْرٌ "زهريٌّ" سقاهُ الله!... بُدِّلْنا به عصرًا كيماويًّا، تستقبلُك فيه روائحُ العلَّةِ على بابِ الصيدليَّة.
5_ والورد، وهو الذي حرَّمَه المتوكل على الناس وقَصَرَه على نفسه.
جاء في "تأْهيل الغريب": "وكان يقول: أنا ملكُ السلاطين، والوردُ ملكُ الرياحين، فكلٌّ منَّا أَحَقُّ بصاحبِه". وفي "حِليةِ الكُمَيْت": "فكان لا يُرى الوردُ إلا في مجلسِه، وكان أَيَّامَ الوردِ لا يلبسُ إِلا الثيابَ المورَّدة، ويفرشُ الفُرُشَ المورَّدَةَ ويورِّدُ جميعَ الآلات". ومن قولِه مخاطبًا الورد:
عارٌ عَلَيَّ بِأَنْ يَشُمَّكَ ساقِطٌ --- أوْ أنْ تَراكَ نَواظِرُ البُخَلاءِ
6_ والإوز! لله ما أطرب أصواتَها النحاسيَّة على الماء! فَقُلْ في ذلك: أبواقٌ عسكريةٌ ينفخُ فيها من لا يعرف النغم! ففي الريف أبواقٌ للعسكر ولا عسكر، والحمدُ لله.
7_ وما عسى أَن يُقالَ في خيَّاطةِ القرية؟! وهي التي تُلبِسُ العروسَ آيةَ العرسِ بيضاءَ أَو زرقاءَ أَو حمراءَ أَو لازَوَرْديَّة. فكأَنَّ بيتَها العامرَ بيتُ قوسِ قُزَح.
8_ وفي الشجرِ الذي التقى ونورَ الشمس، بجوارِ الرابية، أسعد ملتقى، وقد جلسْتَ أَنت، من ذلك، منظرَ العين، وكرَّرْتَ النظرَ في حدائق الخُضْرَة، تُحِسُّ روح الريف! فَجَمالٌ يملكُهُ الله وحدَهُ، ودوامٌ لا ينقطعُ، وخيرٌ لا يفنى.
9_ ثم تنظر حولك، فكأنما أصابعُ خفيَّةٌ قد أومَأَتْ إليك، تريد منك في حضرة الجمال، أن تتحرك، فلا تصدق! أصابعُ تُومِىءُ إليكَ، ولا أحد يطلب منك أن ترقص من فرط الطرب...


توظيف النمط الوصفي في هذا النموذج (بإعداد شخصي مني):
نرى، في هذا النص، بروز مؤشرات النمط الوصفي على تنوعها، وهذا دليل نجاح الواصف، حينما يستطيع توظيف كافة المؤشرات، مع غنى في الشواهد:
أ_ كثرة الصفات على أنواعها:
النعوت: مديحٌ مرقِص، الأزاهرِ الريفية، بالجمال المضنون، عصرًا شهيًا...
الأحوال: مادحًا، شاديًا، و(هو في بعض عطفاته)، و(هي قائمة)...
الأخبار: خريرُ المياه قصيدةٌ، قصيدةٍ هي أحلى، القمصان الرقاق، الشميم المنعش، الحب المشتهى...
ب_ أدوات الربط المتعلقة بالمكان: وراءَها، وراء، هنالِك، بين يَدَي...
ج_ كثافة التصوير البياني باستخدام التشابيه والاستعارات والكنايات: يتنعم الماء مادحًا نفسه، شاديًا بفضل وجوده، التي لا تواري كنوز الأبدان، الطير لا تعرف، هي أشبه ما تكون بالجمال المضنون، تستقبلك فيه روائح العِلَّة على باب الصيدلية، أصوات الإوز أبواقٌ عسكريةٌ، كأن بيتها العامر بيت قوس قزح...
د_ بروز ذاتية الواصف من خلال استخدام ضمائر المتكلم: قريتَنا، نفعل، نحن، بُدِّلنا...
وضمائر المخاطَب: فلعمركَ، قلتَ، نفسكِ، تعرف، أنتَ، إليكَ، حولكَ...
هـ_ تنوع الأساليب في الوصف بين:
الخبري: خرير الماء قصيدة في المديح، هناك موسيقى الرحى، هناك الشميم المنعش، فتحوم الطير على طيب الرائحة، كان صاحب العلة من الناس يقبل، بُدِّلنا به عصرًا كيماويًا، حرَّمه المتوكل على الناس...
والخبري المؤكد: إن النهر يغادر حدود قريتنا، فلقد خففنَ إليه وغسلْنَ فيه، إِنَّ عصرَ المداواةِ بالزهرِ كان عصرًا شهيًّا، فكان لا يُرى الوردُ إلا في مجلسِه، وكان أَيَّامَ الوردِ لا يلبسُ إِلا الثيابَ المورَّدة...
والإنشائي: لعمرُكَ ما التقتِ الشفاه على قصيدة، جادها الله أو الغيث! ما أطرب أصواتَها النحاسيَّة على الماء! وما عسى أَن يُقالَ في خيَّاطةِ القرية؟!...
و_ الأفعال المضارعة الدالَّة على الحيوية والتجدد والاستمرار: النهر يغادر حدود قريتنا، الشميم المنعش يعبق من الباب، فتحوم الطير على طيب الرائحة، هي لا تعرف أين تدور الدوائر، يفرش الفرش المورَّدة، تُلبِسُ العروسَ آيةَ العرس...
ز_ الجمل الاسمية الدالَّة على الثبات والتعريف والإيجاز: خريرُ المياهِ قصيدةٌ في المديح، هي أشبه ما تكون بالجمال المضنون، أبواق عسكرية ينفخ فيها...