بسم الله الرحمن الرحيم


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله وبياكم

قد يبدو العنوان غريبًا بعض الشيء، ولكنها الحقيقة فعلًا، أن يكون للحمير مكانة كبرى في العصر العباسي، كوسيلة تسلية وضحك واستمتاع.
مع أن الحمير لم تفعل شيئًا، أي أنهم لم يكونوا يركبونها؛ مثلًا؛ بهدف التسلية، أو يُجرُون بينها المسابقات، ولكن... سنوضح لكم الأمر، وبمثالين اثنين.

المثال الأول، يشبه ما نراه أيامنا هذه، من مسألة تقليد الآخرين وحركاتهم وأصواتهم، بهدف إضحاك الناس، ولكننا لا نعلم؛ إذ نشاهد ونضحك؛ أن هذا (السخف)، أو هذا (الرقي) لم يكن وليد زماننا هذا، بل إنه بدأ في العصر العباسي.
إنه أبو دبوبة، شخص فكاهي ظريف، روى الجاحظ قصته الغريبة، أن هذا الرجل كان يقف بباب الجاحظ كل صباح، وينهق نهيقًا طويلًا، لِتَرُدَّ النهيق خلفه الحمير في الكوفة جميعها، كبيرها وصغيرها، سليمها ومريضها! بل إن حمارًا من هذه الحمير، كان إذا نهق، لم يَرُدَّ النهيق خلفه أحد، إلى أن يأتي أبو دبوبة وينهق، لتتجاوب معه كل الحمير بلا استثناء!

إلا أن الأظرف من ذلك، أغنية الحمار، والتي أدَّت إلى يوم خاص للحمار، والحمد لله أنه كان يومًا فرديًا، ولم يَتِمَّ حفظ تاريخه، لتكراره كمناسبة بهيجة كل سنة!


إنه العصر العباسي، وعصر المتوكل، حين مات حمار أحد ندماء المتوكل، فسأل الأخير نديمه، واسمه أبو العنبس الصيمري كيف مات حماره؟ فَيَرُدُّ الصيمري إن حماره كان أعقل من القضاة! وإنه اعتلَّ على غفلة، فمات من تلك العلة، وإنه رآه في المنام، فأخذ يذكره بأفضاله عليه بسقيه الماء البارد وإطعامه الشعير بعد تنقيته، ويعاتبه على موته المفاجئ، فَيَرُدُّ الحمار بأنه حين كان صاحبه واقفًا على باب الصيدلاني، مرت أتان (حسناء)! فعشقها هذا الحمار، فاشتدَّ وَجْدُهُ (أي حبه الشديد وتعلقه بها، هكذا فجأة أحبها وارتفعت درجة الحب، حمار رومانسي صحيح)! إذًا حصلت هذه المشاعر للحمار فمات من الحزن والكمد، فيطلب الصيمري من الحمار أن يُنْشِدَ شعرًا في قصة الحب هذه، ويستجيب الحمار، ويُنشِد شعرًا عروضيًا (يا له من حمار مثقف!):
هام قلبي بأتانٍ عند باب الصيدلاني
تيَّمَتْني يوم رُحنا بثناياها الحِسانِ
وبِخَدَّينِ أسيليــنِ كَلَونِ الشنقراني
فَبِها مُتُّ ولو عِشْـتُ إذًا طال هواني

كلمات رومانسية مؤثرة، ولكن فيها كلمة غير مفهومة، وليست من لغة العرب، وهي كلمة (الشنقراني)!
فيسأل الصيمري حماره عن معنى هذا (الشنقراني)، ولكن الحمار لا يفسرها له، بل يقول: (هذا غريب الحمير)!
إلى هنا، والقصة طريفة، ولكن الأطرف من ذلك أن يطرب المتوكل لهذه القصة، فيأمر المغنين في أنحاء الدولة العباسية أن يمشوا في أرجائها وهم يغنون بأغنية الحمار!
وهكذا انطلقت مواكب الغناء ترتفع بأغنية (هام قلبي بأتانٍ) وقد فرح المتوكل بهذه القصة وتلك الأغنية فرحًا لا مثيل له، ولم يُرَ مثله من قبل، فأكرم الصيمري إكرامًا لا مزيد عليه...

أتمنى أن يكون غموض العنوان قد زال الآن، ونتابع بموضوع آخر ضمن (نور المعرفة) بإذن الله تعالى، لاحقًا.