O.B.E

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: O.B.E

مشاهدة المواضيع

  1. #1


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,306
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي O.B.E


    بسم الله الرحمن الرحيم


    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    في ليلة التاسع والعشرين من شهر نيسان/أبريل: عام 2016م
    لفظت الوالدة أنفاسها الأخيرة أمام أعيننا في سريرها في العناية الفائقة، بعد أن أمضت تسعة أيام كاملة فيها

    مصطلح ال N.D.E اختصار للكلمات الآتية: Near Death Experiment، ويعني الدنو من الموت.


    أما مصطلح O.B.E فهو اختصار للكلمات الآتية: Out of body experiment، ويعني تجربة الخروج من الجسد.

    ولا يعني هذا طبعًا أنني أؤمن بتجربة الدنو من الموت، إذ يرى الواقع في الغيبوبة نفقًا مضيئًا طويلًا تنساب ذكرياته عبره، وما إلى ذلك

    لكني أتحدث عن تجربة حقيقية مررت فيها إثر خطأ طبي فادح، في عملية جراحية بسيطة في شهر آب/أغسطس من العام نفسه، 2016م

    وقد سجلت ما حصل في خاطرتين، نشرت أولاهما N.D.E في سلسلة القلوب الحائرة،
    وهي خاطرة صغيرة الحجم، وهي هنا على هذا الرابط:

    NDE


    وارتأيت أن أفرد موضوعًا مستقلًا للخاطرة الثانية O.B.E نظرًا إلى أن حجمها يسمح بتسجيلها في موضوع مستقل من جهة، كما أنني أصف فيها لقائي بأمي رحمها الله، فارتأيت أن يكون لها موضوع مستقل، لا خاطرة ضمن موضوع يحتوي عشرات الخواطر...


    O.B.E

    دمائي في جسدي تتصارع في ما بينها، تتدفق غزيرة من فمي، لتغلق نافذة الرؤية من عيني نهائيًا، والموت ينتظرني باسمًا أو عابسًا، يكاد ينتزع روحي من صدري، أيها الموت تقدَّم، أيها الردى تعال، يا منايا أسرعي، فهذا جسدي ساكن مستسلم! لا تُظِلَّنِي بِظِلالِكَ وتبقى متفرجًا، خذ روحي واذهب بها، فهذا أوان نهاية رحلتي في هذه الدنيا، لم أَعُدْ أريد من دنياك شيئًا سوى رحمة ربي، وما عدا ذلك لا يعنيني لا من قريب ولا من بعيد، أنفاسي تخرج واحدة تلو الأخرى، ورأسي أَلَمًا يكاد ينفجر، وصدري من ضغط أنفاس الروح الخارجة يكاد ينسحق، أشعر بأضلعي تتمزق، وأنا أدرك الآن، في مرحلة شفافية البصيرة بعد غياب البصر، في مرحلة إدراك الحقيقة التامة بعد التخلي عن الدنيا بزينتها ومنغصاتها، أنه لم يبق من روحي سوى أنفاس ثلاثة، ومن بعدها النهاية الأخيرة، ليصبح جسمي جسدًا، ساكنًا هامدًا، وإذ برسالة خفية تأتيني، من عالم آخر، من عالم السماء البعيدة، لأعمل بمضمونها وأولى الأنفاس الأخيرة تودع جسدي بعنف شديد، زاد آلامي فوق ما يحتمله ضعفي، وإذ أردد كلمات رسالة العالم الآخر، وثاني آخر الأنفاس يذهب بعدما سحق مقاومتي، كاد رأسي يشتعل، وأحسست بصدري يتمزق، وها أنا ذا ملقى فوق سرير ضيق لا أرى شيئًا ولا أعي شيئًا، لا؛ بل إنني أعي تمامًا أنه لم يَعُدْ في صدري سوى نَفَسٍ واحدٍ، ومن بعدها تنقطع الصلة الأخيرة بهذه الدنيا بما فيها، في رحلة بلا رجوع، إلى الآخرة حيث ليس لنا شيء من أمرنا، فإما الجنان والهنا، وإما نيران الجحيم تشوينا!
    سأذهب إلى الآخرة، إذا ما خرج النَّفَس الأخير، وها هو يخرج متسارعًا، يخوض معركة مع جسدي الذي يحاول أن يتمسك بآخر خيط يربطني بهذه الحياة الفانية، لا؛ بل إنني سأذهب إلى الآخرة الآن، حتى لو كان في جسدي بقية من بقايا الحياة، ها أنذا أنتهي من ترديد الرسالة الفريدة، لأسمع صوتًا مهيبًا ينادي في كياني كله، يهتف باسم أمي، أمي التي ماتت قبل أشهر قلائل، ونحن إلى جسدها الساكن أمامنا ناظرون، بكل اليأس والأسى والدموع مستسلمون، كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة أمامنا، ولعبة الأرقام المخيفة تتوالى حتى النهاية المريرة، حتى شعرنا بنبضات قلوبنا تتوقف، بقبضة باردة كالثلج تعتصر قلوبنا، ونحن نحدق في جثتها، متسائلين أحقًا يا أمي بعد الآن لن نراكِ؟ أحقًا يا أمي بعد الآن لن نسمع حنان صوتِكِ؟ لن نقبِّل وجنتكِ ورأسَكِ؟الصوت المهيب باسمكِ يا أماه يهتف، يهتف باسمكِ ثلاثيًا، يشعرني برهبة لا تحدها الحدود، وها أنا ذا هناك، في العالم الآخر، حقيقة لا خيالًا، وبوابة مغلقة أمامي تُفْتَح على مصراعيها، لأعبرها سريعًا، ووسط الجثث عديمة الملامح، تجلس أمي بوجهٍ ناضرٍ، وجهِ صبية لا تحمل من هموم الدنيا وتعبها شيئًا، أمي! كيف أراكِ هنا؟ كيف أراكِ وقد نظرنا إلى جسدكِ الساكن، إلى جثتكِ الهامدة أمام أعيننا، ونحن لا نملك لكِ شيئًا سوى البكاء والدعاء؟ لا! بل كيف أرى نفسي هنا، وأنا لم أغادر الدنيا بعد؟ أم أنني قد متُّ، من دون أن أدرك هذا؟ يا رب! أهذه حقًا أمي؟ أمي التي عانَتْ آلامًا كبرى في سني حياتها الأخيرة، أعطَتْها عمرًا أكبر مما هي عليه بكثير، تجلس أمامي مبتسمة بهدوء، لا، لا، إنها لن تبقى جالسةً، جناح الحب والحنان تركض نحوي، أمي التي كانت لنا سندًا في صِغَرِنا وكِبَرِنا على حَدٍّ سواء، لم تتركنا في أزماتنا يومًا، هذه هي أمامي الآن، كيف أراكِ، وأنتِ قد متِّ أمام ناظري فوق ذلك السرير البارد؟ كيف أراكِ وقد كنتُ أحدِّق في لعبة الأرقام المرعبة آنذاك؟ كيف أراكِ ولوحة نبض قلبكِ تجمدت عند رقم الصفر، مجمدةً معها أحاسيسنا وقلوبنا ومشاعرنا جمعاء؟ وتتقدم أمي نحوي مسرعةً، سعيدةَ الوجه، فأحضنها، والتأثر يكاد يذيب قلبي، يا له من تأثر لم أشعر به في حياتي كلها، تأثر لقائي بها الآن يفوق ما أحسست به عند فراقها، لكني أحضنها الآن، أريد يا أمي أن تدخلي قلبي ولا تخرجي منه أبدًا، أنا أحضنكِ يا ماما! لكنْ، لماذا لا أبكي؟ لماذا؟ صدقيني لا أعرف! أتراكِ يا أدمعي قد انتهيتِ؟ أتراكِ قد ارتأيتِ أن خروج دمائي هنا أفضل؟ أم أنكِ تريدين الخروج فلا تجدين طريقكِ مع ارتجاف جسمي؟ وتنقسم المشاهد هنا يا أمي، تزدوج الأمور في ذهني يا حبيبتي، ها أنا ذا أحضُنُكِ، ولا أعاني من آلام الدنيا شيئًا، وها أنذا أرى نفسي فوق سرير الردى، رأسي يكاد يحترق ألَمًا، وصدري يتمزَّق فعلًا، وغرفة العمليات تكاد تنهي دورها، إذ إنهم طلبوا لي سيارة نقل الموتى، وما نفعها يا أصحاب الطب، وأنا قد انتقلت إلى الآخرة مباشرة من دون حواجز أو حدود؟ إني أرى نفسي هناك، في الدنيا، أشعر بآلامها، والنيران تلتهب في صدري، وأرى نفسي يا أمي هنا، أحضنكِ ولا أعاني من آلام الدنيا شيئًا، لا أفهم سوى أنني في الجنة معكِ، أراكِ، أضمكِ إلى صدري، أتمنى لو نبقى على هذه الحالة ما دمنا في جنان الله تعالى. ومن عالم الدنيا صوت بغيض يرتفع، صوت طبيب الجسد يصرخ في أذني، ليخبرني بأنني لا أتنفس، وكأنني لا أعلم ذلك! أنت طبيب الجسد، لذا لا تعرف ما معنى بلسم الروح، أيها الأحمق! صوتك أزعج أمي فاختفَتْ، وباختفائها زال عالمها من أمامي، بل زُلْتُ أنا من هناك لأرجع إلى الدنيا السمجة، لقد خرج النَّفَس الأخير فعليًا، وإذ بمحاولة الطبيب الفاشلة بوضع جهاز التنفس لي، وإذ برسالة العالم الآخر تدوي في ذهني، وترتسم أمام عينيَّ العمياوين، فأرى حروفها بوضوح تام، وأرددها سريعًا، في سباق أخير مع النَّفس الأخير، وتيار النار في يدي يسري فأصرخ ألَمًا، لم أحتمل آلام ضغط خروج الأنفاس وآلام النيران، ويشتد الألم لحظات، وأشعر بجسدي ينزلق في هاوية اللاوعي، يا رب دعني أغِبْ عن الحياة بأكملها، أريد أن أرجع إلى أمي، ولا يا طبيبًا، لا أحتاج إليك ولا أريدك، اتركني واذهب، إليكَ عني، لا أريد الرجوع إلى الدنيا، لا أريد الرجوع إلى هذا العالم، أريد أن أبقى هناك مع أمي، أن أحضنها ولا أتركها أبدًا، أنا الذي لم أصدق أنني رأيتها، لم أصدق أنها أمامي لا في قبرها، فلماذا إلى الدنيا أعود؟ إن حالة العمى التام قد زالَتْ، وإن كان ضوء النهار يؤذيني، وإن كان عمى الألوان لا زال حاضرًا، لكن، أين أنتِ يا دماء جسدي؟ أيتها الدماء ثوري! انتفضي مرة أخرى وتعاركي، وسراعًا من فمي اخرجي، تمردي تمردي، ألقيني في غيبوبتي مرة أخرى، أريد أن أرى أمي، وبجوارها أبقى، لا أريد أن أفارقها، وتلبي طلبي الدماء، وتندفع استجابة منها للنداء، لكن جسدي الضعيف يقاومها، والغيبوبة تأتي وتذهب، لكنها لا تلقي بي في هاوية الانزلاق إلى العالم الآخر، وينتصر جسدي أخيرًا، لكن روحي تنكسر حزنًا ويأسًا، إلى الدنيا سترجع لتتابع مشوارًا لا أعرف متى تحين نهايته مرة ثانية، ولا أعرف هل سألتقي بكِ يومًا ما يا أمي، كما التقَيَتُ بكِ اليوم؟ كيف لي أن أحتمل شوقي إليكِ؟ من أشهر غادرنا المستشفى نبكي جمعًا لفراقكِ، واليوم أغادر المستشفى أبكي بمفردي لفراقكِ، سنتابع رحلتنا في الدنيا ونفسي يائسة وقلبي محطم، إن الحياة يا أمي قاسية، إن أيامها بملذاتها يا أمي مريرة، فأنتِ لستِ هنا! أمي، ما حصل من سنوات ثلاث، هذا اللقاء بيننا، أعلم أنه لقاء حقيقي، تم بفضل من ربنا ورحمته، أدرك في أعماقي وأؤمن بأنني التقيتُ بكِ في عالمِكِ الآخر، لعلي اطمأننْتُ إلى أن روحكِ تحيا في رحمة الله وغفرانه، لكني أخشى على نفسي من الدنيا وأفخاخها، فادعي لي يا أمي، ادعي لي لألتقي بكِ لقاء آخر، لقاء أخيرًا، نحيا فيه في جنان الله تعالى، لا نبالي بالدنيا بما فيها، وماذا تستحق، يا أمي، أن تُسَمَّى حياة أحياها من دونك، سوى أنها حياة الظلام؟ لا، بل هي حياة الظلام الحالك، ولو أضاءته كل شمس في سمائه، وأناره كل نجم وقمر!

    عمر رياض قزيحه
    القلمون_طرابس/لبنان
    (29_4_2019: الساعة: الثالثة والنصف بعد الليل)



  2. 4 أعضاء شكروا أ. عمر على هذا الموضوع المفيد:


المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...