خلف قضبان الزمن (قصة)

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    الصورة الرمزية كونان المتحري

    تاريخ التسجيل
    Apr 2007
    المـشـــاركــات
    445
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي خلف قضبان الزمن (قصة)


    بسم الله الرحمن الرحيم
    و الصلاة و السلام على سيِّد الخلق أجمعين نبينا محمد و على آله الطيبين الطاهرين
    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

    تصلكم هذه القصة أخيراً بعد تردد في طرحها لأنني لم يكن عليَّ وضعها في هذا الموضوع و لكن إرادة الله شاءت ذلك و في جميع الأحوال أشكر من كان السبب في كتابتها بعد اعتقادي بنضوب معين عقلي و صعوبة خروج أفكاري منه

    (( خلف قضبان الزمن ))


    صرخت أمها في وجهها بانفعال بالغ. كانت تحاول الحفاظ على صرامتها كأم أثناء التوبيخ، لكن دموعها خذلتها. كانت البنت تفهم ذلك و تدرك سببه. لم تملك إلا الصمت و الاستماع لسيل التوبيخ المعتاد. هذه ثالث مدرسة تغلق أبوابها خلفها... و بعنف. السبب هو المعتاد كذلك؛ تحطيم الساعات طبعاً. كان الأب جالساً ينظر لهما نظرة تخلو من العواطف. لقد كاد يستسلم للقدر و هو يعلم جيداً أنَّ الصراخ لن يجدي نفعاً. الطفلة المسكينة تعاني مشكلة لم تفلح جهود الأطباء في حلها. جميع المدارس التي قصدتها حاولت تفهم وضعها في البداية، ثم خرج الأمر عن السيطرة كما هو متوقع. كانت الجملة الأخيرة التي يسمعونها قبل استلام ابنتهم عند طردها: "ابنتكم لا تصلح للتواجد وسط باقي الأطفال، إنها خطرة، خطرة للغاية".هذا العبارة القاسية لا تصلح لتقال على مسامع طفلة لم تتجاوز التاسعة، لكن ما تفعله الفتاة كان لا يصدق. لم يستطع الأبوان لوم المدرسة؛ يمكن للإدارة احتواء الموقف لو كان بسيطاً نسبياً كتحطيم ساعة الحائط الخاصة بالصف، لكن أن تنزع ساعة يد من معصم طفل أو طفلة قسراً و تقوم بتحطيمها بهستيرية، فالأمر يصعب شرحه أحياناً.لا يعرف أي منهما السبب الحقيقي وراء تصرفها هذا. صارت أشبه بكتابٍ مغلق بعد وفاة شقيقها الأصغر؛ بل مقتله. حدث ذلك قبل عامٍ واحد، لكن الأحداث التي جرت خلاله جعلته أشبه بسنين من العذاب. من الصعب و المؤلم جداً فقدان طفل صغير في السادسة. و من المؤلم أكثر أن يتضرر الطفل الآخر لهذه الدرجة. الناس باتوا يخافون على صغارهم منها، و هي على كل حال لم تعد تلهو معهم أو مثلهم.كل ما تفعله هو حشر نفسها في زاوية الغرفة و ضم دمية الدب المحشوة الخاصة بأخيها. كانت الدمية ترافقها حيثما تذهب في أرجاء البيت، و أياً كان النشاط الذي تفعله. حتى عندما تتناول الطعام كان يرافقها كقطعة منها. ذات مرة سكبت عليه بعض الحساء، و لما حاولت أمها الاقتراب لتنظيفه أخذت تصرخ و تبكي حتى وقعت عن الكرسي منكمشةً فوقه كأنها تحميه من خطرٍ ما. الحديث معها صار صعباً للغاية بعد أن كان صوتها ينشر البهجة والسرور. كانت بنتاً مرحة و لها خيال خصب للغاية. أخوها كان متعلقاً بها و لا يفارقها.كانا يذهبان للمدرسة سوياً. يستريحان وقت الفرصة معاً. حتى عند الأكل في البيت لم يكُن أحدهما يمسك بالملعقة قبل حضور الآخر. الشجارات الأخوية التي تحدث بينهما كانا يتجاوزانها خلال أقل من ساعة، فتجدهما سرعان ما نسيا سبب الخلاف و عادا يلعبان بحبور. يعلم الجميع مقدار الفجوة التي خلَّفها رحيل الصبي في العائلة. لقد شاهده الجميع يكبر أمام أعينهم. لكن بالنسبة للفتاة الصغيرة كان صديقها الأقرب، و هدية الله لها. لم يكُن الأبوان يقضيان معها وقتاً بقدر الذي يقضيه هو. استودعها جميع أسراره البريئة كروحه الطاهرة،و كانت تعطيه أسرارها.الكثير منها كان صنيعة مخيلتها الواسعة. لم تكُن تقصد الكذب أبداً. كان عقلها الطفولي يحاول إيجاد تفسيرات لبعض سنن الكون و عادات البشر. تفسيرات الكبار لم تقنعها يوماً، أو لنقُل أنَّها لم تستحسنها. كانت تلجأ لاختلاق نظريات تفسرها بطريقتها الخاصة. بالطبع لم تجِد مستمعاً أفضل من صديقها الصدوق لتسكب في أذنيه استنتاجاتها الشخصيَّة على أنَّها حقائق. كم كانت علامات الذهول والاقتناع في عينيه ترضيها. لو قالت لغيره ما تقوله له لكذَّبها و سفَّه رأيها. يُقال أنَّنا لا ندرك قيمة ما نملك إلَّا بعد فقدانه، لكن الوضع معها يختلف. كانت تدرك جيِّداً أنَّها تملك جوهرةً نادرة لا مثيل لها. عندما أنجبته أمها ابتسمت تخبرها:"لقد أنجبنا لكِ أخاً صغيراً ليحبكِ و يلعب معكِ". لقد أنجبوه لها و من أجلها. رغم أنَّها لا تذكر هذه المحادثة فعمرها لم يتجاوز العامين وقتها، إلَّا أنها لم تكُن تسمح لأحدٍ بالاقتراب منه لأنَّه برأيها لها وحدها. لقد كبرت مع هذا المنطق فكان من الصعب تغيير ما بعقلها.كم تتمنى لو كان ذلك اليوم كابوساً مظلماً لتصحو منه و تجده ينام على فراشه المجاور لفراشها. لقد حاول الأبوان إخراج سريره من الغرفة أثناء غيابها لكنها رفضت حتى دخول البيت قبل إرجاعه.لن تسمح لأحد بسلبها ما تبقى منه.دائماً ما تقترب من سريره، تقرِّب أنفها من أغطيته، تغمض عينيها و تشم رائحته. أحياناً كانت تستلقي فوق السرير لتدفئه بجسدها الصغير.كم تكره ملمسه البارد بعد غياب دفء أخيها. علم الجميع بوجود فجوةٍ هائلة سبَّبها غياب أخيها، لكنهم لم يقدِّروا حجمها الحقيقي، و لم يعلموا علاقتها بتحطيم الساعات و العنف في المدرسة. لقد بدأت بتحطيم جميع الساعات في البيت بدايةً بالمعلَّقة في غرفتها مع أخيها. قدَّروا بادئ الأمر أنَّها تحطِّم ما تجده لأنها في حالة نكران لوفاته. عندما وصل الأمر للمدرسة و تكرَّر عدَّة مرات أدركوا أنَّ الأمر أعقد من ظنِّهم. هناك أمرٌ يحدث معها و لا تبوح بحقيقته حتى للأطباء.
    عندما استهلكت الأم كلَّ قدرتها على التوبيخ انهارت على الأريكة تكمل البكاء. حتى البكاء يحتاج إلى طاقة، لكن في سبيل إفراغ المشاعر السلبية يهون إهدار الطاقة المتبقية. تنهَّد زوجها و نهض مقترباً ليربت عليها لتهدئتها. نظر لابنته الصامتة فوجدها لا تزال تحدِّق بالأرض و تضم دمية الدب إلى صدرها بتوتر. لا يزعم أنَّه قادر على إدراك مشاعر الإثنتين لكنه يعلم أنَّهما بحاجةٍ للراحة قبل إطلاعهما بقراره. الحل الذي بيده أشبه برمي قشَّة ليتمسك بها من يوشك على الغرق، لكن من استنفذ سبل النجاة قد يجد الأمل في تلك القشَّة.
    صباح اليوم التالي كانت السيارة تقطع مسافةً طويلة و الطفلة تنام بهدوءٍ ظاهري محتضنةً ذلك الدب في مقعدها الخلفي. كانت الأم تسترق النظرات القلقة نحو زوجها بين الحين و الآخر. الخطَّة التي أطلعها عليها لم تقنعها تماماً، لكن النتائج السيِّئة التي حصدتها محاولاتهما السابقة أقنعتها أن لا بأس بمحاولة أخرى. خرجت الفتاة من بيتها ظناً منها أنَّهم ذاهبون لرؤية جدتها و العودة عند المساء. لم تدرك أنَّهما يخططان للبقاء هناك لفترة طويلة. كان الأب يعتقد أنَّ الابتعاد عن موقع الذكرى المؤلمة قد يساعدها على التحسن و تجاوز ما مرَّت به.هي تنام و تفيق على نفس الأفكار ما دامت تمكث في نفس المكان الذي شهد الجريمة. هو يفعل هذا لمصلحتها و يدعو الله أن يساعده لتحقيق هدفه و إنقاذ ابنته، و بينما تشق السيارة دربها نحو وجهتهم، يقوم عمها بنقل أمتعتهم اللازمة للمكوث في مسكنهم الجديد. حرصا على عدم إخبارها لأنها ستمانع بكل ما أوتيت من قوة. وصلوا لبيت الجدة أخيراً.
    استقبلت المرأة المسنة حفيدتها بغمرة حب و عطف شديدين. لقد أطلعها ابنها عن سبب زيارته المختلف هذه المرَّة، تمكن العم من استئجار بيتٍ قريب في المنطقة، لكنه لا يزال يبعد بضع دقائق سيراً على الأقدام عن بيت العائلة. لم يرغب الأب في المبيت في منزل العائلة الصغير نظراً لعدم توفر المكان رغم إصرار والدته. قلبها كان ينفطر حزناً على الصغيرة المسكينة، كان يذوب عند رؤية ملامحها الطفولية التعيسة. مقارنةً ببقية الأحفاد هذه الطفلة لا تضحك أو حتى تبتسم. منذ سنة لم تحاول اللعب مع باقي صغار العائلة. لقد كانت تملأ البيت ضجيجاً مع أخيها بمجرد وصولهما، لكنها صمتت بمجرد أن صمت و كأنَّهما كيانٌ واحد فلا يمكن الفصل بينهما.أقبل المساء بطلَّته السوداء المقبضة فبدأت القلوب تنقبض معه. تأجَّل موعد المصارحة بالحقيقة لعدم القدرة عليها. نظرت الفتاة لوالديها مستعجلةً الخروج للعودة. لقد جلست طوال اليوم مقابل الباب مع دبِّها الأثير منتظرةً هذه اللحظة. حاول الجميع تحريكها لسببٍ أو لآخر لكنها كانت سرعان ما تعود لمكانها و تواصل النظر للباب. لم يعد هناك مجال للمماطلة،فجلس الأب بجوار صغيرته، احتوى يدها بين كفيه، نطق اسمها بصرامة مفتعلة: "ريم! "، ثم استجمع شجاعته و أخبرها بقراره.
    لم ينجح أحد في إيقاف الصرخات و البكاء الهستيري الذي قابلت به قرار الانتقال، لكنَّهم اتفقوا جميعاً على التظاهر بالصلابة أمامها رغم تفتت قلوبهم. كانت تردد من بين دموعها أنها ترغب في النوم في سرير أخيها. شهقات الألم كانت تصدر منها بين الحين و الآخر و هي تتقلَّب أرضاً رافضةً أن يلمسها أحدهم. تركوها تبكي بقدر ما تحتاج لتهدأ من تلقاء نفسها، لكنها واصلت البكاء حتى خارت قواها و نامت على الأرض الصلبة.
    استيقظت صباحاً في بيتهم الجديد. أخذت تتأمل المكان حولها بدهشة قبل أن تتذكر ما جرى في الليلة السابقة. لقد حملها أبوها إلى الفراش بعد أن أرهقها البكاء دون شك.تذكرت شيئاً فأسرعت تبحث عنه بذعر. وجدته على الأرض واقعاً عن السرير فحملته و احتضنته بقوة .لقد خشيت أن يبعدوا هذا الدب العزيز عنها كما أبعدوها من بيتها. واصلت البكاء ألماً لبعض الوقت، فكيف طاوعتهم قلوبهم على وضعها في غرفةٍ لا ترى فيها سرير شقيقها؟!
    قرَّبت الدب من وجهها مفكِّرةً: من سيدفئ السرير البارد هناك بينما تبقى هنا؟!
    نظرت في عيون الدب، ثمَّ ضمته إليها مجدداً. إنَّه كلما بقي لها من أخيها و يجب عليها حمايته و المحافظة عليه. شعرت بالغيظ من أبويها لإحضارها هنا. اعتقدت أنهما يعاقبانها على ما فعلته في المدرسة الأخيرة و إخفاقها في تحسين سلوكها. لا يعلمان سبب معاناتها عند رؤيتها لساعة تعرض الوقت. عقاربها السامة كانت تهددها بلسعها كلما اقتربت من رقمٍ معين. لا يهم إن كان هذا الوقت ليلاً أو نهاراً لكنَّها ترتجف بمجرد تذكرها لمواقع العقارب.كلما تعانيه كان بسبب حركتها الدائرية.
    ذلك اليوم أمسكت بساعة غرفتها المشتركة من شقيقها. أخذت تعبث بها في محاولة لإعادة الوقت لما قبل وفاته.ربما أعادت الكرَّة يومها ألف مرة و مرة منتظرةً حدوث أمرٍ خارق للطبيعة و ظهور نصف روحها الآخر. لقد سلبتها اليد الآثمة ذلك النصف، لكنها لم تستوعب ما حدث بعد. نظرت للساعة بحنق و شرود، و لم تنتبه .إلا بعد انتثار أجزائها في أرجاء الغرفة. أبواها الآن يعلمان وجوب إبعاد الساعات عن ناظريها، لكنهما لا يعلمان سر العداء المتبادل بينهما. نعم، لقد بدأ الزمن تشغيل اسطوانة الكراهية أولاً. سلب منها أخاها، و فوق ذلك تركها حبيسة يوم مقتله. هي تشعر أنَّها كانت سبباً في موته، و هذا ما زاد معاناتها و عذابها.
    مخيلتها كانت باتساع الكون، أو قد تكون أوسع قليلاً. كان أبواهما يحرصان على ذهابهما للنوم مبكراً، و يصران على كونهما نائمين قبل التاسعة و النصف. كثيراً ما حدَّثاهما عن فوائد النوم الباكر، خاصةً لطفلين في عمريهما. لكنها لم تقبل بهذا التفسير. أدارت الموضوع في عقلها عدة مرات حتى توصلت إلى نتيجة مرضية. كان لا بد أن تشارك أحدهم خلاصة تفكيرها. من سيصدقها دون السخرية منها؟! بالتأكيد!! ، من غير شقيقها الوحيد و صديقها الصدوق؟!..كما توقعت تماماً، لقد أبهجتها نظراته المندهشة و المقتنعة في الآن ذاته. كم تحب ملامحه البريئة المتعجبة عندما تقص عليه هذه الأسرار. لقد استنتجت وجود مخلوق غريب يأتي بعد التاسعة و النصف ليقتنص الأطفال المستيقظين بعد هذا الوقت. لهذا السبب كان كلاهما يغرق في نومٍ عميق قبل التاسعة ليلاً. لقد اخترعت القصة و آمنت بها و عملت بمقتضاها.
    لا يمكنها نسيان ذلك اليوم التعيس، فهو سبب ما هي فيه من شقاء. لقد أيقظها أخوها ليلاً بعد استيقاظه لحاجته للحمام. كان الوقت قد تجاوز التاسعة و النصف فكان خائفاً من ظهور الوحش. أرادها أن ترافقه حتى يصل للحمام و تنتظره خارجاً ريثما يخرج. كان النوم يسيطر على رأسها بشدة فطلبت منه العودة لفراشه للنوم و تركها تنام هي الأخرى. بكى الصغير و حاول عبثاً انتزاعها من فراشها فهو لا بد أن يذهب للحمام. و لما عجز عن ذلك لم يجد بداً من الذهاب وحده و الخوف يتقاذف قلبه الصغير بين كفيه. لكنه سرعان ما عاد أدراجه نحوها. أخذ يهزها برعب مؤكداً بهمسات مذعورة أنَّ الوحش الشرير ينتظره في الخارج. و أضاف مؤكداً و الدموع تتساقط من عينيه: " لقد رأيته يمشي في بيتنا، من الجيد أنَّه لم يلحظني ".حاجتها للنوم كانت أكبر من قدرتها على تصديقه فأخبرته أنَّه يتوهم بسبب خوفه و عادت للنوم.
    في صباح اليوم الذي يليه استيقظت لتكتشف خلو فراشه منه. ظنته استيقظ قبلها و خرج من الغرفة. عاد عقلها يسترجع ما حدث و هي بين النوم و اليقظة فخالجها الشعور بالذنب لخذلانه. كادت تنهض من فراشها لتجده و تعتذر إليه، لكنَّ صرخة أمها المذعورة شقَّت قلبها لنصفين فتجمدت في مكانها لمدة لم تدركها.سمعت أصوات بكاء و صراخ يحمل كلمات لم تستوعبها. لقد سمعت اسم أخيها يتكرر على لسان أبويها. استطاعت أخيراً تحرير جسدها من السرير. أخذت تسير مترنحةً نحو الباب و بعد فتحه رأت أمها تضم جسد شقيقها الهامد باكيةً بحرقة جعلت قلبها يتفتت تماماً، و أبوها يتحدث بكلمات متقطعة في هاتفه الخلوي مع الشرطة محاولاً شرح ما يحدث لهم.لم تقوَ قدماها الضعيفتان على حملها أكثر من ذلك فوقعت أرضاً تكمل الطريق زحفاً نحو الجمع البائس صارخةً باسم شقيقها. انتبه الأب لحالة طفلته بعد سماع صرختها الملتاعة. رمى الهاتف من يده و كان بالفعل قد أعطى الشرطة العنوان كاملاً.أسرع يحملها ليعيدها لغرفتها خشية أن ترى شقيقها الميت، لكنها ثارت بجنون و أفلتت من بين ذراعيه و أسرعت نحو الجسد الصغير الخالي من الحياة. لم يقوَ قلبها الغض على تحمل المنظر ففقدت الوعي مباشرةً بعد التقاء عيونهما دون أن تحمل عيناه أيَّ نظرة. ليلة البارحة كان هناك وحشٌ في البيت، لكنه وحشٌ بشري. دخل البيت ليسرقه فشاهده الطفل المسكين فخنقه حتى سلبه روحه البريئة. هكذا قدَّرت ما حدث فقد كانت نائمة عند مقتل أخيها.
    لم يفارقها الندم و لو للحظة. كانت تشعر أنها المسؤولة عن موته، فكرت لو أنها نهضت من نومها لتتحقق من كلامه بدل نفيه لكان اليوم إلى جانبها يلهو معها و يبتسم إليها و يصدق كلما تقوله. لم يكذِّب يوماً أي كلمة تقولها فكيف طاوعها قلبها على عدم تصديقه تلك الليلة؟! كانت تكرر تلك الكلمات على نفسها كل ليلة و هي تنظر لمكانه الفارغ في الغرفة و تبكي. ليتها تستطيع الرجوع لتلك الليلة!!.ستضرب بالنوم و أعوانه عرض الحائط و تنهض لتكون إلى جانبه لتمنع عنه الخوف و الأذى. كانت ستتصرف كما كان يجب أن تفعل حسب رأيها. لن يتمكن ذلك الوحش من أخذه منها، لا هو و لا أي وحشٍ آخر. ستحميه بروحها لو تطلب الأمر و لن تغادر روحه هذا العالم و روحها لا تزال تسكنه. لقد علقت روحها في تلك اللحظة التي طلب فيها منها النهوض معه. لم يستطع ذلك اليوم مغادرة مخيلتها. صار يتكرر كل ليلة، بل كل لحظة. كانت كل الساعات تدور و تعيد نفس المشهد لعقلها. مضت سنة كاملة دون أن تتخطى يوماً واحداً من أيامها. كانت سجينة تلك الليلة الظلماء. لم تسمح لها عقارب الساعة بالرجوع للوراء لاستعادة أخيها، بل و منعتها حتى من المضي للأمام و تجاوز الأمر. هكذا نشأت العداوة بينها و بين الزمن. الساعة ليست إلا الجزء المادي منه و الذي يمكنها النيل منه. لم تجد ساعةً في مرمى بصرها إلا و حولتها لقطع متناثرة لا يمكن إعادة تركيبها. و مايزعجها أكثر هو عدم قدرة الشرطة على تحديد هوية قاتل أخيها. لم يسرق الكثير من مقتنيات البيت، بل سرق ما هو أثمن من البيت و ما يحتويه. دائماً ما تظن أنها لو أفاقت ليلتها لنجحت في إحداث فارق. أحياناً تشعر أنها تستحق غضب أبويها لما حلَّ بشقيقها و ليس لما تفعله بساعات الزمن المتوحش. كم أرادت إخبارهما بما جرى تلك الليلة. أرادت بشدة أن يلوماها و يعاقبانها على التسبب بهذه المأساة -كما تؤمن- لكنَّ لسانها لم يطاوعها على نطق الحقيقة. لقد خسرت الشخص الوحيد الذي ينطق لسانها أمامه بكل أريحية فلم يعد يملك حرية الحديث كالسابق.انفتح باب الغرفة و قطع تسلسل ذكرياتها السوداء. أطل وجه أمها من خلفه. كانت تتفقدها أثناء نومها بين الحين و الآخر. لم يستطع القلب الرقيق الذي ضمَّ جسد طفلها الميت احتمال فكرة حدوث مكروه لطفلتها أيضاً. لو تعلم كم تحبها و تخشى تعرضها للأذى. رأت الدموع تبلل وجنتيها بغزارة. نسيت بعاطفتها الوعود التي قطعتها على نفسها بالتظاهر بالصلابة لمساعدة ابنتها. انطلقت نحوها تحتويها بين ذراعيها. لم تعلم أنَّ الفتاة كانت تحتاج ذلك أكثر من أي شيء آخر، فدوامة أفكارها بدأت تسحبها نحو قاع اليأس. كانت بحاجة إلى يدٍ تمتد لتسحبها من تلك الدوامة. لحنان الأم سحره دوماً؛ لعله الاداة الوحيدة التي بإمكانها سحبكَ من قعر الأسى لبر الأمان. تلك المرة رمت الصغيرة نفسها في أحضان أمها و أفرغت باقي دموعها بين ذراعيها. لم تنطق بكلمة واحدة لكن البكاء كان يكفيها في تلك اللحظة. قرَّرت محاولة تقبل قرار الانتقال لأن الألم الذي تشعر به كان يجعلها تظن أنها تحاول التكفير عن ذنبها المزعوم. قرر الأبوان التريث قبل إلحاقها بمدرسة جديدة حتى لا ينتهي الأمر بطردها مجدداً. سيدرسان وضعها بعد الانتقال قبل الإقدام على هذه الخطوة. سرير شقيقها ليس موجوداً في البيت الجديد، لذلك كانت تكتفي بضم دبَّه بين ذراعيها لتشم رائحته. لم تجد ما تفعله هناك سوى الجلوس في الصالون تراقب أمها تذرعه جيئةً و ذهاباً و هي تقوم بأعمالها المنزلية. لم تفكر الأم في توكيلها بأي أعمال بل فضلت تركها لتفعل ما تشاء لشعورها بالذنب تجاه انتقالهم دون مصارحتها. كانت راضيةً بما يكفي لأن طفلتها لم تعُد تحبس نفسها في الغرفة كما كانت تفعل في بيتهم القديم. لم تعلم أنَّ تفضيلها البقاء في الغرفة سببه وجود سرير أخيها فيه و بالتالي المزيد من ذكرياته. و بما أنَّها لا تملك منها اليوم سوى تلك الدمية المحشوة فلا يوجد ما يمكنها ملازمته سواها.كان جلوسها مقابل إحدى النوافذ دافعاً لها لتتحرك نحوها. فتحتها و وقفت بجوارها تستنشق بعض الهواء النظيف بعد أن ضاق صدرها بأفكارها.كانت تطل على دكانٍ صغير من دكاكين القرية. شاهدت مجموعة من الأطفال تسرع إليه عند عودتهم من مدارسهم. شاهدت نفسها تعدو مع أخيها نحوه و تخيلت خروجهما منه مع بعض الحلويات متجهين نحو البيت.لم يقبل طيفه تركها و لو للحظة واحدة. كانت تراه على مدار يومها. لقد تركه والداها أسفل التراب ذات يوم و لم تفهم كيف أمكنهما مغادرة المقبرة و تركه هناك. كان تتردد على قبره يومياً لتحكي له ما يجري لها و هي تشعر أنَّ طيفه كان بالفعل يرافقها طوال اليوم.كانت كلماتها تخرج من بين الدموع و الشهقات محملة بعبارات الاعتذار. هي تدرك أنَّه سيسامحها من جانبه لأنها تعلم أنَّ قلبه أنقى من الماء العذب. تمنت لو أمكنها الحديث معه وجهاً لوجه ليخبرها ذلك بنفسه. لكن ذلك لن يعيده للحياة حتى لو أمكنها فعله. أكثر ما يؤلمها كان عدم قدرتها على الذهاب للمقبرة سراً دون علم والديها لتخبره عن أيامها التعيسة بدونه.لكنها في جميع الأحوال تشعر أنَّه يلازمها و تتخيل نظراته كلما التقت عيناها بيعيني دميته المفضلة. في بيتهم الجديد صار الوقوف بجوار النافذة عادتها الجديدة. حتى عند زيارة جدتها و أقاربها لهم كانت تنظر للخارج بأحاسيس متخدرة دون الشعور بوجودهم. واصلت التحديق في الدكان يومياً تراقب الداخلين و الخارجين إليه و منه. كانت وجوههم البعيدة المشوشة تمنحها الفرصة لرؤية وجهها و وجه أخيها بين الأطفال.شيئاً فشيئاً حملتها قدماها للخارج لتنظر إليهم عن قرب.كان الأمر باعثاً على السرور و القلق معاً في قلبي والديها. على الأقل لقد بدأت تخرج من قوقعتها و تتنفس الهواء الطلق.واصلت التحديق في الأطفال عن بعد فقط عندما يلعبون دون المشاركة و الاقتراب منهم. لاحظت أثناء مراقبتها اليومية لهم أنَّ هناك طفلة تتردد بين الحين و الآخر على ذلك الدكان. ما يميز تلك الطفلة أنها تمر بقربها في طريقها نحو الدكان و في طريق عودتها منه أي أنَّ منزلهم الجديد يقع بين بيت الطفلة و الدكان. ذلك لم يكُن الأمر الوحيد اللافت للانتباه بشأن تلك الصغيرة. ثيابها دائماً ما تكون رثَّة بشكلٍ ملحوظ. و هناك أيضاً المشتريات التي تلمحها داخل الكيس الشفاف. لم تكٌن تشتري الحلوى أبداً رغم عدم تجاوزها سن السابعة كما قدَّرت، بل كان كلما تشتريه عبارة عن بضعة لوازم منزلية لا يمكن أن تعنيها في شيء. لكن أكثر ما يلفت الانتباه إليها كان وجهها البريء الذي يذكرها دوماً بوجه أخيها. لو كان حياً لكان في عمرها كذلك. لكن حتى مع عمرها الصغير لم يبدُ لها أنها تحظى بأي طفولة. القاسم المشترك بينهما أنَّ كلتاهما لا تشاركان بقية الأطفال لعبهم في الخارج. تعلقت بتلك الطفلة دون أن تشعر أو تشعرها. و في ذات يوم شاهدتها تعود من الدكان محملَّة بالكثير من الأغراض الثقيلة. لم تكُن بنيتها الضعيفة لتقدر على حمل كل تلك الأشياء. أوقعت أحد الأكياس و سُمع صوت تحطم ما بداخلها. كانت بضعة علب مربى زجاجية تكسرت بفعل ارتطامها بالأرض. توقفت الفتاة مكانها تحدق بالعلب المحطمة داخل الكيس. أنزلت كلما تحمل من كلتا يديها و سمحت لنفسها و لدموعها بالوقوع أرضاً بجوار الكيس المنكوب.بكت بصمت و لم تشعر إلا و فتاة صغيرة تربت على كتفها بصمت. رفعت وجهها الباكي لتلتقي نظراتهما. كانت نظراتها متسائلة حول هوية الفتاة التي ظهرت من حيث لا تدري و اقتربت منها. في حين أنَّ الأخرى كانت تنظر لها بتعاطف يظهر مشاعرها تجاه أحدهم للمرة الأولى منذ سنة كاملة.و حيث أنَّ الصغيرة لم تفق من صدمة تحطم الأشياء وجدت الفتاة نفسها تقول: "اسمي ريم و أنتِ؟". لم تعلم هي نفسها كيف و لماذا فعلت ذلك. من غير الوارد اقترابها من بقية الأطفال. كان اقترابها من تلك الطفلة للاطمئنان عليها أشبه بمعجزة لها شخصياً، لكنها تجاوزت دهشتها و هي تنظر للطفلة البائسة. نكست الصغيرة رأسها و أخذت تجمع بعض قطع الزجاج التي تناثرت من الكيس و أجابت بخفوت: "سارة، لكن لا أحد هنا يناديني باسمي".تعجبت ريم من ردِّ الصغيرة؛ لماذا لا يناديها الناس باسمها فوجهت لها سؤالاً آخر:" و بماذا يناديكِ الجميع في البيت و المدرسة إذن؟!". لم ترفع الصغيرة نظراتها عن الأرض و هي تجيب بانكسار: " لا أحد يناديني أصلاً، الجميع يأمرني و عليَّ تنفيذ أوامرهم فقط".ثم عادت تبكي و تردد أنهم سيقتلونها لأنها كسرت زجاجات المربى. كان سماعها لكلمة القتل أشبه بسكين طعنت قلبها الصغير. أسرعت تسحب الصغيرة نحو بيتها. أحضرت لها بعض العصير لتشربه و أمها تراقبها في دهشة تمتزج ببعض السعادة و الشفقة تجاه الضيفة الصغيرة. اقتربت الأم من الطفلة الصغيرة تمسح شعرها الناعم المتناثر بغير نظام و سألتها عن سبب بكائها . كانت تتوقع الإجابة من بين شفتيها لكنها ذهلت عندما وجدت ابنتها تخبرها بما حدث. هذه المرة الأولى التي تحدثها فيها بأريحية منذ عامٍ كامل، بل و تنظر مباشرةً لعينيها برجاء لتفعل شيئاً من أجل الطفلة. كانت لتفعل أي شيء لتحظى بنظرةٍ مباشرة من عيني صغيرتها لذلك شعرت بالامتنان لتلك الطفلة رغم شفقتها عليها. أخذت تمسح دموعها و تطمئنها أنها ستشتري زجاجات مربى أخرى بدلاً من تلك المحطمة.أضاء وجهها بابتسامة رائعة و اندفعت لا شعورياً تعانق الأم بامتنان.تلك الليلة لم يغمض للفتاة جفن. كانت ملامح الخوف المرسومة في وجه صديقتها الصغيرة تظهر كلما أغلقت عينيها. تكرارها لعبارة ( سيقتلونني ) عندما كسرت تلك الزجاجات كان يقلقها بشدة. رغم أنَّها لم تتركها تحمل الأغراض لوحدها و رافقتها حتى مسكنها. لم يرق لها الوجه الذي أطلَّ من الباب و سحب الصغيرة بمشترياتها للداخل.كانت تخشى عليها من التعرض للأذى. لم يظهر الفقر على عائلتها من مظهر البيت و لا من ملابس الرجل الذي فتح الباب. لماذا لا يعطون ابنتهم سوى الملابس البالية و الرثة؟!. تلك هي المرة الأولى التي تهتم فيها لأمر أحدهم بهذه الطريقة. تلك الطفلة تذكرها بأخيها القتيل. ترى ملامحه في وجهها الطفولي الباسم رغم التعاسة البادية على مظهرها الخارجي. كانت المرة الأولى التي تقترب منها فيها و تحدثها. لكنها أحبتها من كل قلبها قبل أن تفعل. لن تحتمل فقدان شخصٍ تحبه للمرة الثانية. هي لا تطيق الليل فهو يذكرها بموتِ أخيها و هي نائمة. هرب النوم من عينيها و هي تفكِّر في مصير الفتاة المسكينة.قررت معرفة ما يجري معها لتتمكن من حمايتها.في الصباح و كان يوم عطلة انتشر الأطفال يلعبون حول البيوت كما اعتادوا أيام العطل. لم تجد سارة الصغيرة بينهم كما توقعت. لقد عرفت موقع بيتها فقصدته و اقتربت بحذر من النوافذ علَّها تستطيع رؤيتها في الداخل. أثناء بحثها عنها سمعت صراخاً يكاد يهز المكان. اقتربت من النافذة الأقرب من مصدر الصوت و وقفت على أصابع قدميها لترى ما يجري بقلق. شاهدت سيدة تسحب صديقتها من شعرها غير مبالية بصرخاتها المتوسلة نحو مكتب موضوع في زاوية الغرفة. صرخت في الصغيرة تسألها:" ألم أطلب منكِ تنظيف هذا المكتب جيداً؟!". أجابت الطفلة و هي تمسك بشعرها محاولةً تخليصه من بين أصابع المرأة القاسية: "لقد فعلتُ ذلك عمتي!!، نظفتُ المكتب للتو!". أشارت العمة بقسوة نحو ساعة موضوعة فوق المكتب ترد على دفاعها: " و هذه الساعة ، لماذا لم تنظفيها جيداً؟! ، ألا ترين ذرات الغبار تغطيها". نظرت سارة نحو الساعة التي لم تكُن فوق المكتب عندما بدأت بتنظيفه. علمت أنَّ امرأة عمها وضعتها فوقه عمداً لابتكار سبب تؤذيها من أجله،لكنها تعلم أنَّ تلك المرأة لن ترحمها إن واصلت الدفاع عن نفسها. كثيراً ما كانت تطلب من عمها التخلص منها فذلك ليس أمراً صعباً على شخصٍ مثله. هي ليست إلا طفلة يتيمة مات أبواها في حادث قبل ثلاث سنوات و تركاها وحيدة مع عمها و هذه المرأة المتوحشة ليقوما بإذلالها لا رعايتها و تربيتها. و رغم أنهما لم يرزقا بأطفال. لم يفكرا بمعاملتها كابنة أراد الله أن يسلي قلبيهما بوجودها بينهما. قبلا رعايتها فقط لتكون أموال والدها و أملاكه تحت تصرفهما. كان أبوها يملك الكثير لكنها لم تحصل حتى على القليل. لم تفهم يوماً قيمة المال لتطالب به، لكنها لاحظت أنَّها لم تعُد ترتدي الفساتين و الأحذية الجميلة كما كانت تفعل. كلما كان يسمح لها بارتدائه هو بضعة أسمال بالية لا ترى فيها أي جمال. كانت تشتكي البرد أحيانا و هو يهاجم جسدها النحيل من خلال الثقوب المنتشرة في ثيابها لكن كلما حصلت عليه من شكواها كان عدداً من الشتائم و الضربات الموجعة. كان عليها إضافةً لذلك العمل كخادمة في منزلهما الكبير بينما ينالان الراحة و الطعام الجيد الذي لا يتركان لها سوى بقاياه و عليها شكر عطفها كذلك. كان وقت المدرسة هو فترة الرفاهية الوحيدة التي تنالها. حتى واجباتها المدرسية كانت تؤديها في المدرسة. في المنزل لا تفعل سوى التنظيف و الكنس و المسح ، و هي واثقة أنهم ينتظرونها أن تكبر قليلاً لتتمكن من الطبخ أيضاً.وقت المساء كانت تراجع ذاكرتها لتحظى ببعض الوقت مع أبويها و لو خلال أحلام اليقظة. لم تنسَهما رغم صغر سنها يوم وفاتهما. تتذكر القصص التي كانا يتناوبان سردها لها قبل النوم. كثيراً ما تقارن حالها بالفتاة المسكينة سندريلا. لكنها لا تملك أباً تلجأ إليه عندما يكون بالجوار من بطش هذين الشريرين.لم تكُن تدرك و أفكارها تنافس دموعها أثناء تلميع تلك الساعة أنَّ الفتاة خلف النافذة تغلي غضباً و ألماً لأجلها. لم تلاحظها مع انهماكها في العمل و لم تدرك مقدار رغبتها في تحطيم تلك الساعة الملتمعة بين يديها.انتظرت بصبرٍ خانق خروج سارة من البيت لتلقاها. كطفلة لم تضع أي عوائق في سبيل تنفيذ القرار الذي اتخذته. خرجت سارة بعد قليل من البيت لإحضار بعض الأشياء من الدكان القريب. فوجئت بيدٍ تسحبها و لمَّا تعرفت على الفتاة التي ساعدتها بالأمس استسلمت للسير معها. لم تسمح لها بإكمال طريقها نحو الدكان بل قادتها لمنزلهم و أدخلتها غرفتها قائلة بصرامة و ثقة لا تناسب عمرها الصغير: " ستعيشين هنا منذ اليوم، ستكونين أختي الصغرى و لن يؤذيكِ أحد".رددت تلك الكلمات قبل وزنها بعقلها و عندما فعلت أجهشت في البكاء فقد تذكرت مقتل أخيها الذي لم تتمكن من حمايته. لم تفهم الصغيرة سارة ما يحدث لها في تلك اللحظة لكنها أسرعت بضم الفتاة الباكية التي وعدتها للتو بالحماية. نظرت ريم لملامحها الطفولية الناعمة و تراءى لها وجه أخيها. لم تتمالك نفسها و شعرت أنَّ أخاها قد عاد للحياة فقط ليحتويها بين ذراعيه القصيرتين فاسترسلت في البكاء أكثر. حكت سارة لصديقتها الجديدة قصتها مع عمها و امرأته القاسيين. كانت تحاول الاختصار قدر الإمكان فهي لا تزال تدرك حتمية عودتها بالمشتريات لتتقي شر عقابهما. ريم كانت تمسك بيدها بعزم حتى لا ترحل، لكن ما لفت انتباهها هو تهديد امرأة العم لسارة بترك عمها يتخلص منها و أنَّ ذلك ليس صعباً عليه. سألتها عن مقصدهم بالتخلص منها فشردت الفتاة بفكرها تتذكر تلك الليلة. كان الوقت متأخراً لكنَّ النوم هجرها بسبب الجوع. سمعت صوت عمها عند عودته من الخارج، ثم أعقبه صوت صراخٍ متبادل بينه و بين امرأته. فتحت الصغيرة باب غرفتها بهدوء و حذر حتى لا تصدر صوتاً يكشفها. فهمت من بين كلامهما أنَّ عمها قتل طفلاً صغيراً لأنه قاومه و حاول الدفاع عن بيته و عائلته. لم تفهم شيئاً مما يقولانه لكنَّ حديثهما عن القتل أرعبها. عادت نحو فراشها ترتجف بشدة و قد نسيت جوعها و تعبها. عندما تهددها تلك المرأة بقدرة عمها على التخلص منها كانت تتذكر دائماً ما سمعته و احتفظت بمعرفتها له سراً عنهما.كانت تعلم أنَّ عمها مجرد لص منازل رغم أنَّ أحداً لم يخبرها. لكن تلك المرة لم تكُن الأولى التي تسترق فيها السمع لما يقوله الوحشان اللذان تعيش معهما.صمتها و شرودها أقلقا ريم كثيراً فعادت تكرِّر عليها نفس السؤال الذي طرحته. ترددت في البداية فقد اعتادت كتم ما يحدث معها لتتجنب التعرض للقتل. لكن إلحاح الشخص الوحيد الذي يستمع لها الآن جعلها تفصح عن الحقيقة. هبط رد سارة على قلب ريم كالصاعقة. لقد انقبض قلبها عندما رأت عم الطفلة منذ اللحظة الأولى، لكن أن يكون قاتلاً أمرٌ لم تتمكن من تخمينه. زادت من الضغط على يد صديقتها الصغيرة و عاهدت نفسها أنها لن تتركها تعود للعيش مع الوحشين البشريين. الأبشع من ذلك أنَّ عمها قتل الطفل منذ سنة أيضاً. هل يحتمل أن يكون ذلك مصادفةً ؟! أم أنَّه هو نفسه الوحش الذي قتل أخيها. دمعت عيناها عندما فكرت بذلك. لو أنَّه هو نفس الشخص فستجد دليلاً حتماً. لقد سرق معه بضعة أشياء لم تكُن كثيرة لكنها ثمينة و من بينها مجوهرات أمها. يستحيل عليه بيعها بعد جريمة القتل التي ارتكبها لأن الشرطة ستجده لو حاول ذلك.هل وضع الله هذه الطفلة في طريقها لتجد قاتل أخيها بعد أن عجز الكبار عن ذلك؟!. كذلك لقد قالت أنَّ الطفل كان يحاول الدفاع عن بيته و عائلته. ألم يكٌن شقيقها ينوي الذهاب للحمام فحسب؟!. ربما لا يكون هو الطفل المقتول على يد هذا الشرير لكنه قتل طفلاً في جميع الأحوال. هو و قاتل أخيها متماثلان. لقد أتعس عائلةً بسلبها طفلها سواء كانت عائلتهم أم غيرها. يجب أن ينال الجزاء العادل الذي يستحق. سارة لم تعرف ما يتوجب عليها فعله لصغر سنها لكنها تكبرها بسنتين و عليها التصرف. عليها التحرك بسرعة و حذر حتى تحمي الطفلة المسكينة و تريح روح الطفل المقتول و عائلته. أقنعت سارة بصعوبة بإخبار والدتها بما سمعته لتقنع أمها الشرطة بتفتيش البيت. لم ترغب بالدخول إليه فيكشفانها و يضيع مجهودها و حياتها دون فائدة، و كذلك استبعدت فكرة إرسال سارة لتقوم بهذه المهمة الخطرة. في نفس اليوم و استناداً لشهادة الطفلة فتش الشرطة البيت و وجدوا بعض المسروقات التي كان عمها يسلبها من عدة بيوت و من مناطق مختلفة. كان من بين المسروقات مجوهرات أم ريم التي سرقت ليلة مقتل الصغير. المفاجأة الأكبر أنَّ موت الطفل لم يكُن بسبب ذهابه للحمام. لقد اكتشف الصبي أنَّ من دخل البيت كان سارقاً. شاهده يضع بعض ممتلكاتهم في كيس مسروقاته. ظلَّ يراقبه بحذر من بعيد، لكنه عندما اقترب من غرفته مع أخته قرَّر الظهور من مكمنه ليمنعه من دخولها. لقد أظهر نفسه ليحمي أخته النائمة بسلام. رأى وجه الوحش الشرير فقرر الوحش قتله دون رحمة و انصرف هارباً بما سرق. لم يتمكن من الإفلات طويلاً بجريمته. الطفلة التي ظلَّ يسيء معاملتها كانت سبباً في اقتياده نحو الجزاء العادل. و ما أيَّد الحكم أيضاً هو تحقيق الشرطة في شأن الحادث الذي أودى بحياة أبويها. لقد كان مدبراً. المرأة و زوجها خططا للأمر و عبثا بمكابح السيارة لتودي بحياة الاثنين و تنجو الطفلة بمعجزة لتحقق العدالة لوالديها هي الأخرى.بكت ريم طويلاً بعد معرفة ما جرى. لقد مات و هو يحميها. إذن لم يمُت خائب الأمل منها. لقد ظلَّ يحبها حتى آخر نفسٍ استنشقه. من أجلها تحوَّل من طفلٍ مذعور إلى بطلٍ شجاع. بضعة أشهر مرَّت على هذه الأحداث. و ذات صباح امتدت يدٌ صغيرة تسكت ساعة المنبه الموضوعة بجوار السرير. استيقظت الفتاة و أخذت توقظ الأخرى التي لم يبرحها النعاس. قالت و الابتسامة تعلو شفتيها: "سارة!!، هيا استيقظي، حان وقت ذهابنا للمدرسة". في طريقهما نحو المدرسة لاح لريم طيف شقيقها و هو يلوِّح لها بابتسامته الجميلة. ابتسمت ملوِّحة له و قلبها يحييه وسط دهشة سارة :"صباح الخير يا بطل!!"

  2. 4 أعضاء شكروا كونان المتحري على هذا الموضوع المفيد:


  3. #2

    الصورة الرمزية سميد

    تاريخ التسجيل
    Apr 2008
    المـشـــاركــات
    33,763
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: خلف قضبان الزمن (قصة)

    وعليكم سلام
    و من اسمك نصيب
    في بداية القصه حسبت ان الامور و الاحداث تتكلم عن الالم الفراق ومن هذي مشاعر رقيقه xd
    لكن تغير الحال يوم شفت ان الموضوع فيه ان و اخواتها
    ابدعت في ربط و سرد و كل شي و شخصية ساره
    هي ماي هيرو و ريم طبعا xd
    تحياتي

  4. #3

    الصورة الرمزية كونان المتحري

    تاريخ التسجيل
    Apr 2007
    المـشـــاركــات
    445
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: خلف قضبان الزمن (قصة)

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Brock Lesnar مشاهدة المشاركة
    وعليكم سلام
    و من اسمك نصيب
    في بداية القصه حسبت ان الامور و الاحداث تتكلم عن الالم الفراق ومن هذي مشاعر رقيقه xd
    لكن تغير الحال يوم شفت ان الموضوع فيه ان و اخواتها
    ابدعت في ربط و سرد و كل شي و شخصية ساره
    هي ماي هيرو و ريم طبعا xd
    تحياتي
    مرحباً بك

    كان يجب أن تحمل القصة شيئاً من روح عنوانها و هذا هو سبب بدايتها الحزينة

    يظهر أنَّ تأثير مشاهدتي لكونان قد ظهر لاحقاً في الأحداث التالية

    أنار الموضوع بوجودك و سعيدٌ لأن القصة قد أعجبتك

    أسعدك الله و تحياتي لك

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...