الجريمة الغامضة (قصة ساخرة - بقلمي: أ. عمر)

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 9 من 9
  1. #1


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,290
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي الجريمة الغامضة (قصة ساخرة - بقلمي: أ. عمر)

    الجريمة الغامضة
    الكاتب: عمر قزيحه - تاريخ الكتابة: 1997م


    الحلقة الأولى

    _ "كان العمل مرهقًا بحق".
    قالها المهندس أشرف لنفسه، وتثاءب بعدها بِقوَّة، وهو يبذل قصارى جهده للتركيز في القيادة، لئلَّا ينتهي به الأمر في حادث سير مؤسف في منتصف الليل.
    وبكلِّ اللهفة التي تملأ قلبه لِيَضَعَ رأسَهُ على الوسادة، ضغط دوَّاسةَ الوقودِ على آخرها، حينما وصل إلى طريق "الأوتوستراد"، وهو يتثاءب كلَّ ثانيتين، والنَّوم يداعب جفونه.
    وأخيرًا، وصل إلى بيته، الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وبسعادة ولهفة صعد المهندس الدرج، وطرق الباب!

    رغم الطرق لم يستيقظ أحد، فأخرج المهندس أشرف سلسلة مفاتيحه الكبيرة، وبِعَينَينِ نصف مغلقتَينِ، أخذ يبحث عن مفتاح المنزل، حتَّى وجدَهُ، فَدَسَّهُ في الباب، وهو يتنهَّد في ارتياح.
    لكنَّ ارتياحه زال بغتةً، وحَلَّ محلَّه شعور بالسخط، مع اكتشافه أن الباب مغلق بالقفل الداخلي... وعاد المهندس يطرق الباب بِقوَّة وعصبيَّة، بدون فائدة، فصاح في حنق:
    _ "هل ينامون مثل أهل الكهف؟! لن أنام في الحديقة أو الشارع"!

    وفجأةً خطرت في باله فكرة لدخول البيت...
    فكرة مجنونة...
    للغاية!


    تابعوا معنا!




  2. #2


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,290
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: الجريمة الغامضة (قصة ساخرة - بقلمي: أ. عمر)

    الحلقة الثانية


    استيقظ سعيد مفتش الشرطة الشهير على صوتٍ مكتومٍ يأتي من شرفة حجرته، ففتح عينيه ببطء، وهو يسحب مسدَّسه من تحت الوسادة بحذر، ويُثَبِّتُ كاتم الصوت عليه، قبل أن يستدير إلى الشرفة ويُطلق النار، ثم هبَّ من فراشه، وهو يتمتم:
    _ هل كنتُ أحلم؟

    وأسرع إلى الشرفة، ثم ارتسمت على شفَتَيْهِ ابتسامة انتصار، وهو يرى بقعة دماء على أرضيَّتها، وأدرك أنه قد أصاب لصًّا بالفعل، وبسرعة ألقى سعيد نظرة على الحديقة التي بَدَتْ له خاليةً تمامًا، فغمغم لنفسه بحنق:
    _ لقد فَرَّ.

    قال ذلك، ونسي الأمر بعد لحظة واحدة...
    فلقد عاد إلى فراشه الدافئ...
    ونام بكل هدوء!


    تابعوا معنا

  3. #3


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,290
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: الجريمة الغامضة (قصة ساخرة - بقلمي: أ. عمر)

    نعتذر... الحلقات قصيرة جدًا، لكن وضعنا الحالي لا يسمح لنا باستخدام الشاشة مدة طويلة.

  4. #4


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,290
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: الجريمة الغامضة (قصة ساخرة - بقلمي: أ. عمر)


    الحلقة الثالثة

    _ لم يَعُدْ أشرف بالأمس.
    حمل صوت امرأة أشرف كلَّ الأسى، وهي تنطق بهذه الكلمات عبر أسلاك الهاتف، فقال سعيد في قلق:
    _ ولمَ لمْ تخبريني بذلك، قبل أن أذهب إلى عملي؟
    أجابته، وهي تكاد تبكي:
    _ لأنَّك ذهبْتَ باكرًا، قبل أن أكتشف غياب والدك.
    حاول أن يطمئنها، وإن كان قلبه مقبوضًا في خوف لم يفهم له سببًا:
    _ اطمئنِّي، نحن رجال شرطة، وسَنَجِدُهُ اليومَ حتمًا.

    وما كاد يضع سمَّاعةَ الهاتف، حتَّى ارتفع الرنين مرَّةً ثانيةً، فرفع السمَّاعة مجدَّدًا، وهو يقول في توتُّر:
    _ آلو، نعم؟
    جاءه صوت عمِّه، يقول في أسًى، بصوتٍ باكٍ:
    _ سعيد، أنا عمُّكَ صبحي، لقد عثرْتُ وسط الأعشاب الكثيفة على والدك فاقدًا وعيه، والدِّماء متجمِّدة حول صدره، وكان...
    قاطعه سعيد صارخًا في جنون:
    _ اتَّصل بالإسعاف، أسرع يا عمِّي.
    ردَّ العمُّ بسرعة:
    _ لقد فعلت ذلك، وقالوا إنَّها جريمة قتل لا شكَّ في هذا!
    صاح سعيد، وهو يكاد يفقد وعيه لِهولِ الصدمة:
    _ قتل؟؟ هل مات والدي؟؟
    أجاب العمُّ بكلماتٍ ترتجف بكاءً أليمًا:
    _ لقد... لقد أفاق والدك قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وذكر اسمَكَ، نعم، قال ابني، سعيد، الشرفة، لص، يبدو أنَّه رأى لصًّا يَفِرُّ من بيتكم من الشرفة، ويبدو أنَّ هذا اللصَّ أطلق رصاصته في صدر والدك لإسكاته، ويبدو أنَّ...
    أنهى سعيد الاتِّصال هنا، والغضب يكاد يحرق أعماق كيانه!
    من هذا الذي يعرف بأنَّه حين ينام يترك باب شرفة غرفته مفتوحًا؟
    لا أحد يعرف بهذا، ما لم يكن أحد أبويْهِ قد ذكر لمن يعرف هذه العادة التي يصرُّ ابنه عليها صيفًا وشتاءً!
    وعاد ذهن سعيد إلى منظر ذلك الشبح الذي كان يحاول دخول غرفته ليلًا، وكان نصيبه رصاصة صائبة منه...
    لا بدَّ أنَّه اللصُّ الحقير! ولا بدَّ كذلك أنَّه نجح في الفرار، ولكن...
    بقعة الدَّم التي تركها خلفه ربَّما تقود إلى معرفة من يكون...
    وهبَّ سعيد من مكانه لينطلق بأقصى سرعة ممكنة له إلى بيته، وكم كانت المفاجأة صاعقة على والدته حينما بوغتَتْ به يقتحم البيت مثل الوحوش المفترسة، ويسرع إلى غرفته...
    حاولَتْ أن تفهم منه سبب غضبه، حاولَتْ أن تستفهم هل وجد والده أو لا، ولكنَّه لم يردَّ عليها قطُّ...
    فما رآه أمامه، جعل نفسه تشتعل غضبًا...
    وتفور قلقًا...
    وشَكًّا!

    تابعوا معنا

  5. #5


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,290
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: الجريمة الغامضة (قصة ساخرة - بقلمي: أ. عمر)

    الحلقة الرابعة

    _ لم يَعُدْ أشرف بالأمس.
    لم يَعُدْ؟ لم يَعُدْ؟ لا! بل عاد!
    عاد في ظرف غامض جدًا، ليكون من نَصِيبِهِ لصٌّ يحاول اغتيالَ ولدِهِ، رائدِ الشرطة الشهير!
    لكنْ، مَنِ الذي أخبر هذا اللصَّ أنَّ الرائد يترك باب شرفة غرفة نومه مفتوحًا؟
    دَعْنَا نَتَخَطَّ هذِهِ المسألةَ ولْنَقُلْ إنَّهَا صدفة، لكن هل منَ الصدفة كذلك أنه كان يعلم مكان نوم ضحيَّته بالتحديد؟!
    كانت هذه الأفكار تمزِّق عقل سعيد بقسوة، لكنْ، ما مزَّق عقلَهُ وقلبَهُ، ووجدانَهُ وكيانَهُ، شكٌّ لم يستطعِ الخلاص منه قط...
    شكٌّ يتعلَّق بأمِّه ومواقفِها!
    أنَّى لامرأةٍ تفتقد زوجَهَا الذي غابَ عن بيتِهِ أوَّل مرَّةٍ في حياته، أن تمسحَ كلَّ أثرٍ لِبُقْعَةِ الدَّمِ التي تسبَّب بها سعيد للصِّ القاتل الحقير؟
    ومتى فعلَتْ ذلك؟ قبل اتِّصالها لإخبارِهِ بغيابِ والدِهِ المباغتِ أو بعدَ ذلك؟
    وهل هذا أمر مهم؟
    لا!
    في الحالتين لا يبدو تصرُّفها هذا منطقيًّا أو مقبولًا!
    وبعد تفكيرٍ عميقٍ، وتردُّدٍ طويلٍ، اتَّخَذَ الرائد سعيد قرارَه الصَّارم...
    ربَّما أقسى قرارٍ يتَّخِذُهُ رجل شرطةٍ في حياتِهِ كلِّها!
    **************************
    غابت ثواني الزَّمان من وعي أمِّ سعيد، ولم تفهم ما حصل لها ولا كيف حصل، إلَّا وذراعاها تكادان تتمزَّقان لِشِدَّة ارتفاعهما، والقيود الحديديَّة تطبق عليهما بقوَّة، في زنزانة باردة ضيِّقة...
    حتَّى هذه اللحظة لم تستوعب الموقف جيِّدًا بعد، وإن حاولَتِ انتزاع لحظاتٍ صعبةً من ذاكرتها...
    نعم...
    إنَّها تتذكَّر الآن...
    الباب يكاد ينخلع، وقلبها مع هذا الدق العنيف يكاد ينخلع...
    بلسم حلَّ في قلبها، حينما هتفَتْ: مَنْ؟ وأتتْها الإجابة: رجال الشرطة...
    لكنْ، ما الذي حصل بعدها بالتحديد؟
    _ أنتِ على استعداد؟
    أفاقت المرأة من شرود ذهنها، لِتَجِدَ أمامَهَا فتاةً ربَّمَا من سنِّ ابنتها الصغرى، تنظر إليها في سخرية، فسألَتْهَا في توتُّر يمتزج به عدم الفهم:
    _ مستعدة؟ لماذا؟
    ردَّتِ الفتاةُ متهكِّمةً:
    _ لِتَنَاولِ الغداء طبعًا!
    اختلطتِ الأمور في ذهن أمِّ سعيد بالفعل...
    لكن ما حصل في اللحظة التالية أعادها إلى واقعها الأليم...
    بعنف ما بعده عنف!

    تابعوا معنا

  6. #6


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,290
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: الجريمة الغامضة (قصة ساخرة - بقلمي: أ. عمر)

    الحلقة الخامسة

    لم تتردَّد فتاة الشرطة في رفع يدها لتهوي بها على خدِّ المرأة المقيَّدة أمامها بعنف، وهي تصرخ في وجهها:
    _ اخرسي!
    كانت تدرك أن صفعتها مهينة لامرأة ربَّما تكون أكبر سنًّا من أمِّها، ولكنْ، هذه المرأة متَّهمة بأنها السبب في جريمة قتل، ولا بدَّ أن تحصل على اعترافها، لذا تجاهلَتْ دموعها الأليمة، وهي تقول بقسوة:
    _ قيودكِ متَّصلة بمولد كهرباء صغير، لذا كوني صادقةً في إجاباتكِ، وسريعة، أيَّ سؤالٍ أطرحه عليكِ، أمهلكِ ثلاث ثوانٍ للإجابة، فإذا لم تجيبي خلالها، أو أجبتِ إجابةً تفوح منها رائحة الكذب، لن أتردَّد في صعقِكِ بالكهرباء.
    سكتت الشرطية قليلًا، ربما لتمنح المرأة بعض الوقت لاستيعاب الصفعة المدوية التي أسالت بعض الدم من بين أسنانها، ثم قالت لها بهدوء:
    _ معلوماتي تقول إن هناك علاقة سرِّيَّة، بينكِ وبين مهندس اسمه أشرف، هل لكِ أن تشرحي لي كيف تعرَّفْتِ بهذا الرجل، ولماذا حاولتِ ابتزازه، وحينما رفض ذلك قمتِ بـ...
    صرخت أمُّ سعيد في وجهها بغضب هادر:
    _ أيتها الغبيَّة المجنونة!
    انتفضت الفتاة (هديل)، وأعماقها تلتهب غضبًا...
    لم يكن مضمون الكلام ما أهانها، بل ردة الفعل نفسها التي تؤكد أنَّ (الضحِّيَّة) المقيَّدة أمامها لا تخاف عذابها، وبحزم ضغطت هديل زرًا قرب يدها في الحائط، ليسري تيار من الكهرباء، بالغ العنف، في المسكينة أم سعيد، ولقد صرخت الأخيرة في ألم هائل، وهي تشعر بنفسها تُشوى بدون رحمة، وإذ تهالكت بعد توقف لمسة الألم العنيفة، اقتربت هديل منها، لتميل نحوها قائلة بتوحش:
    _ ما زلت أنتظر إجابتكِ عن سؤالي، واتركي مشاعركِ الحمقاء تجاهي لنفسكِ، الصعقة القادمة ستكون أشدَّ من هذه بكثير.
    تمتمت أمُّ سعيد، وهي تتكلم بصعوبة لما تعانيه من الآلام:
    _ أنتِ غبيَّة، وستدفعينَ الثمن غاليًا حينما أشكوكِ لابني، كوني واثقة من ذلك.
    سألتها هديل بسخرية:
    _ لماذا؟ هل ابنكِ بطل العالم في المصارعة الحرَّة، وأنا لا أعلم بذلك؟
    أجابت أمُّ سعيد، ودموعها تغرق وجهها لشعورها بالضياع:
    _ بل مفتش في الشرطة الجنائيَّة، رائد، رتبته أعلى من رتبتكِ حتمًا، أنتِ ما تزالين صغيرة جدًا على...
    لم تفهم هديل ما قالته أمُّ سعيد بعد ذلك، فقد كانت المفاجأة شديدة عليها!
    هذه سابقة خطيرة في جهاز الأمن، أن يتمَّ استجواب أمِّ رائد في الجهاز بتهمة قتل!
    وبفضولٍ تساءلت هديل:
    _ ومن ابنك هذا؟
    لم تجب أمُّ سعيد، وبدا كأنَّها تعيش في عالم آخر في تلك اللحظات، لم تكن غائبة عن الوعي كما ظنَّت هديل بها، بل كان كيانها كله يهتف باسم ابنها، وقد بدا لها أن الأمان المفقود في حياتها لن تجِدَه إلا في حماية ابنها لها، بعد أن منحته حمايتها وحبها وحنانها طفلًا ضعيفًا...
    لم تفهم هديل هذه المشاعر، وهي تهزُّ المرأة ببعض العنف، صارخةً في وجهها:
    _ أخبريني من أين تعرفين المهندس أشرف، الذي وجدنا جثَّته صباح اليوم؟
    رفعت أمُّ سعيد عينيها نحو هديل بضعف تام، وأجابت بِلَوعَة:
    _ إنَّه زوجي!
    هتفت هديل في ذهول:
    _ مستحيل!
    صاحت أمُّ سعيد غاضبةً:
    _ بل هذه هي الحقيقة، تزوجني أشرف من قبل أن تولد (مفعوصة) مثلكِ، وأنتِ الآن تتكلمين عن معلوماتكِ الغبيَّة أنكِ اكتشفتِ وجود علاقة بيني وبين زوجي! انتظري حينما أحكي لابني سعيد ما قد فعلتِ بي، إلا إن قتلتِني لتتمكني من النجاةِ بفعلتكِ، وعندها...
    لم تتابع أمُّ سعيد كلامها هنا...
    فلقد أقدمت هديل على عملٍ لم تتوقعه منها...
    على الإطلاق.


    تابعوا معنا.

  7. #7


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,290
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: الجريمة الغامضة (قصة ساخرة - بقلمي: أ. عمر)

    الحلقة السادسة

    شعرت أمُّ سعيد بالتوتُّر، حينما شعرت بهديل تمسك برأسها بعنف، فأسرعت تهتف مرعوبة:
    _ هل... هل ستقتلينني؟ لا تفعلي ذلك، لن أقول لابني أيَّ شيء، أعدك بذلك.
    بدأت المرأة المسكينة كلامها المرتبك، المتقطِّع خوفًا، وما لبثت أحرفه أن استكانت، حينما احتضنتها هديل بحنان بدا للمرأة المتألمة من الصفعة والكهرباء عجيبًا، ولكنَّ هديلَ قبَّلتْ رأسها، وفكَّتْ قيودها، وأخذت بيدها تقودها برفق خارج الزنزانة إلى غرفة متَّسعة لتجلسها، على كنبة مريحة، قبل أن تتَّجه إلى مكتبها، لتكتب عدَّة أسطر بسرعة كبيرة، متجاهلةً بادئ الأمر سؤال أمِّ سعيد المتوتِّر:
    _ هل هذه خدعة؟ تتظاهرين بالطِّيبة كي لا يعرف ابني بما فعلتِ بي؟
    وإذ أعادتِ المرأة سؤالها، ردَّت هديل بكلمة واحدة، لم تشفِ غليل السائلة:
    _ لا.
    واتَّجهت نحوها تعطيها الورقة وقلمًا، قائلةً بحزم:
    _ وقِّعي لو سمحتِ.
    امتثلَتْ أمُّ سعيد للأمر تلقائيًّا، ثمَّ استوعبَتْ ما فعلَتْ، فصرخَتْ غاضبةً:
    _ ما هذا؟ هل وقَّعْتُ على اعتراف مني بأنني قتلْتُ زوجي، كي تهربي من مسؤوليتكِ بإرسال رجال شرطة ليعتقلوني ويسلِّموني لكِ حتَّى...
    لم تمهلها هديل لتتابع كلماتها واتِّهاماتها، بل قالت، وهي تكاد تبكي:
    _ لستُ أنا مَنْ أرسلهم، ولم أكن أعرف حتَّى من أنتِ.
    نظرَتْ إليها أمُّ سعيد متشكِّكةً في ما تقوله، وتابعتَ هديل كلامها:
    _ إن أردتِ إيذائي تستطيعين ذلك بسهولة، فقط قولي إنَّني أوقفْتُ استجوابكِ وأخرجتُكِ من الزنزانة قبل أن تعترفي، وكوني واثقةً من أنَّ عذابًا رهيبًا سينالني بسبب ذلك!
    تمتمت أمُّ سعيد بدون تصديق ما تسمع:
    _ حقًّا؟ كنتُ أظنُّ العكس! حين يعلم ابني بما حدث ماذا سيفعل بكِ، وفق تقديركِ؟
    بدا وكأنَّ صراعًا قاسيًا يدور في نفس هديل في تلك اللحظات، ثمَّ حسمَت هديل أمرها، فأخرجت ورقةً من مكتبها، لتعطيها لأمِّ سعيد قائلةً بصوت خافت:
    _ اقرئي هذه!
    أمسكت أمُّ سعيد بالورقة، وقد ظنَّتْها ورقة اعترافاتها التي لا تعلم عنها شيئًا، وجالَتْ بعينيها في الأسطر القليلة، وهبَّتْ واقفةً من دون أن تشعر بنفسها، وهي تصرخ في وجه هديل، والأسى يلتهم قلبها بدون رحمة:
    _ هذه كذبة؟ بلى! إنها كذبة! قولي لي إنها كذلك، لا يمكن أن يفعل ابني بي هذا، قولي إنها مزحة سخيفة منكِ، لا، لا تقولي، هي حتمًا كذلك، وذلك...
    ردَّت هديل هنا بصوت منخفض:
    _ لا، إنها ليسَتْ كذلك!
    سالت دموع المرأة المسكينة بغزارة، ورأتها هديل تحاول أن تتوازن، فأسرعت لتساعدها، ولكنْ...
    كان ذلك بعد فوات الأوان...
    فلقد فقدت المسكينة وعيها، وهوَت أرضًا ليصدم رأسها بحافة الكنبة، ومن بعد ذلك بالأرض...
    وبدا صوت الضربتين مدويًّا كاد ينخلع له قلب هديل...
    هديل التي شهقتْ رعبًا، لمرأى البركة الدمويَّة التي سالَتْ من رأس أمِّ سعيد، حتَّى تكاد تلوِّن بلاط الغرفة كلِّه!

    تابعوا معنا

  8. #8


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,290
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: الجريمة الغامضة (قصة ساخرة - بقلمي: أ. عمر)

    الحلقة السابعة

    كان الرائد سعيد يكاد يتميز غضبًا، وهو لا يرى أمامه أي قبس من الحقيقة في جريمة مصرع والده، ولا يكاد يجد طريقًا واحدًا يسلكه في سبيل الوصول إلى الفاعل، وإن كان ذهنه لا يستطيع أن يمحو أثر الشك الذي يكاد يحرق أعصابه، هل أرادت أمه أن تمحو دليلًا ما حينما مسحت بقعة الدم؟ ولكنْ، لماذا يسأل ويتساءل؟ سيذهب ويسألها، ويحاول استدراجها واستنطاقها، ارتاح سعيد لهذه الفكرة، ورأى فيها مخرجًا أوليًّا لما يعانيه، وكاد يغادر مكتبه فعلًا، لولا أن دخل الرائد حازم في تلك اللحظة، وهو ينظر إليه نظرة رأى فيها سعيد حقدًا عجيبًا، وبدا له وكأن حازمًا يود لو يأكله إن استطاع ذلك! وبدهشة سأل سعيد زميله:
    _ ماذا هناك؟
    أجابه حازم بغضب:
    _ هل جننتَ يا أحمق؟
    انتفض سعيد الذي لم يسمع إهانة واحدة في حياته، ليصيح في وجه حازم:
    _ هل جننتَ أنتَ؟ كيف تخاطبني هكذا؟ ألا تعرف أنه...
    قاطعه حازم صارخًا:
    _ نحن رجال شرطة، عملنا إحقاق الحق مهما كان صعبًا أو قاسيًا، لكن أن تلقى أمك العذاب في زنزانة استجواب عندنا، فهذا الأمر...
    قاطعه سعيد بدوره، يصيح في جنون:
    _ ماذا؟ من الحمقاء التي فعلت ذلك؟ آه! لا يوجد سواها، هديل التي...
    سأله حازم مستهزئًا:
    _ التي ماذا؟ هل عمل هديل أن تعرف نسبك وأصلك؟ لقد أصدرتَ أمرًا بإيقاف أمك لأنها مشتبه بها من الفئة الأولى في جريمة قتل والدك، هذه الورقة التي استلمتها هديل، ووجدت أمامها المرأة المتهمة، فهل ستعلم الغيب بنظرك أو ماذا تريد أنت بالضبط؟ تجعل من أمك متهمة بالدرجة الأولى، وتريد من الرقيب أول هديل أن تعرف ذلك لتذهب بوالدتك إلى مضافة في فندق خمس نجوم، أليس كذلك؟
    سأله سعيد، وعيناه تلتهبان غضبًا:
    _ وما الذي فعلته هديل بأمي بالضبط حتى أجعلها تدفع الثمن غاليًا؟
    تجاهل حازم هذا السؤال، ليقول له:
    _ أنت تعلم أنه لا يمكن لها ولا لسواها في مكانها أن يترك المتهم بدون استجواب قاس، حتى يحصل على الاعتراف المطلوب منه، وهذا ما حصل فعلًا، لقد اعترفت أمك بـ...
    صاح سعيد، وعيناه تتألقان، كأنه اكتشف كنزًا:
    _ أمي اعترفت؟ إذًا قد أرادت فعلًا أن تمحو آثار الجريمة! لم أكن أتوقع ذلك!
    قال حازم متهكمًا:
    _ صحيح، صحيح، مسحت بقعة دم من الشرفة، وهكذا تختفي الجريمة وآثارها، أما الجثة التي تجمدت الدماء عليها في الحديقة، فلا تدل على أية جريمة! أحسنتَ الاستنتاج أيها الداهية!
    من المؤكد أن سعيدًا لم يكن ينوي الصمت إزاء هذه الإهانات، ولكن زميله تابع بجدية:
    _ اعترفت أمك بأمرين، لو أن هذا يهمك، الأول أنها مسحت آثار الدماء لأنها ليست أكثر من رعاف من الأنف، كما ظنَّتْ ذلك، وهذا الأمر يعانيه والدك من يومين، وربما أنت لا تعلم ذلك، ولم يخطر لها أي شيء في وقتها، لأن والدك أخبرها بأنه ينوي الاستيقاظ في وقت أبكر، ليمتِّع عينيه بجمال الحديقة قبل أن يستغرق بكيانه في عمله الصعب القاسي، والأمر الثاني، بكل بساطة، أنه ربما تكون قد ذكرت عادتك في النوم وباب شرفة غرفتك مفتوح أمام بعض النساء، خلال أحاديث النساء المعتادة عن أزواجهن وأولادهن، لكنها لا تستطيع تأكيد ذلك تمامًا، وعمومًا عندي لك خبر لا بأس به، لقد انطلقت هديل إلى التحريات الميدانية المباشرة، بعد أن رافقت أمك إلى المستشفى بعد...
    سكت حازم هنا، لقد زلَّ لسانه في ما لم يكن ينوي أن يتكلم به، وكاد صراخ سعيد يرج الطابق بأكمله:
    _ أإلى هذا الحد عذبتها هديل؟؟ تلك اللعينة، سأفقأ عينيها بكل تأكيد!
    أجابه حازم، وعيناه تفيضان دمعًا لتأثره:
    _ بل إن أمك أصيبت بسكتة قلبية مباغتة حينما علمت أنك أنت من أمر باعتقالها واستجوابها، ووقعت بعنف كاد يشق رأسها فعليًا، وهي الآن في العناية الفائقة!
    ومادت الأرض تحت قدمي سعيد، بمنتهى العنف.
    *******************
    الضياع...
    لا توجد مشاعر أخرى أو أحاسيس...
    الضياع فحسب هو كيان أم سعيد، إذ لم تكن تستوعب أمرًا آخر، ولا حتى أين هي...
    وببطء أخذت ذاكرة المسكينة تعود إليها، مع شيء من أحاسيسها...
    وشعرت المسكينة بأن يدًا تمسك بيدها في حنان افتقدته زمانًا طويلًا في حياتها...
    وبصعوبة أدارت عينيها لترى هديلًا تجلس على الأرض بجوار سريرها، تمسك بيدها، وسمعتها تتمتم بصوت خافت، والدموع تغرق وجهها:
    _ ماما، ماما، يا رب الماما يا رب!
    سالت دموع أم سعيد إذ تتذكر ابنها هنا...
    لم تكن تعلم أن هديلًا أخذت تصرخ بلوعة حينما سقطت أمامها وسالت الدماء من رأسها...
    كما أنها لم تكن تعلم أن هديلًا رافقتها إلى المستشفى، وظلت بجوارها إلى أن أدخلوها غرفة العمليات، فذهبت تجري تحرياتها الميدانية حول الجريمة ودوافعها، بل ووصلت إلى الحقيقة المريرة، وبعد ذلك عادت إلى هنا لتمسك بيدها وتبقى بجوارها تبكي...
    هديل نفسها لم تكن تعرف سبب بكائها، وهي التي لم تتمتع بالحنان ومشاعر الشفقة، منذ أن اختارت لنفسها دربًا عنيفًا في هذا العالم، يعتمد ألا تتردد في الوصول بالمتهمة أمامها إلى حافة الموت حتى تحصل على اعترافها التي تريده...
    ولكنْ، ربما كان ذلك لأنها رأت أمامها طعنة غادرة تلقاها قلب أم بدون ذنب جناه...
    وربما لأنها اكتشفت الحقيقة وفهمت أن هذه المرأة ستعاني لو علمت أكثر مما مرَّت به ربَّما...
    استغرقت هديل في أفكارها هذه وتحليلاتها، ولم تكن تعرف أن الرؤوساء الذين قرأوا تقريرها حول الجريمة قد اتخذوا قرارين حاسمين جدًا، أحدهما يعنيها مباشرة...
    ولم تكن تعرف أن أم سعيد لم تكن قد تمكنت من مسامحتها لتلك الصفعة التي دمرت كرامتها وكل إحساس عندها بالعزة والكبرياء...
    ومع شعورها بالموت يحتوي روحها، حاولت أم سعيد أن تدعو على ابنها لغدره بها، لكن قلبها لم يطاوعها...
    وبمرارة تختلط بطعم الدموع، تمتمت بصوت لم يصل حتى إلى مسامع هديل لما تعانيه أم سعيد من الضعف:
    _ الله يسامحك يا ابني، الله يسامحك.
    لم تسمع هديل هذا، لكنها سمعت الشهقة العنيفة وشعرت بانتفاضة يد أم سعيد في يدها قبل أن تعاود السكون تمامًا...
    وفهمت هديل ما حصل، لكنها حاولت أن تقنع نفسها بأنها لم تفهم!
    وفي المستشفى سمع الجميع صراخ هديل الملتاع، فاندفع فريق الأطباء بسرعة لينقذ ما يمكن إنقاذه، ولكنهم توقفوا مكانهم، ولوحات الأرقام تخبرهم بالحقيقة الأليمة...
    وصرخت هديل في ألم يعصف بكيانها كله:
    _ مامااااااااااا ماماااااااااااااااااااا ماماااااااااااااااااا
    ولم يجبها أحد...
    لقد قضي على أم سعيد بما سيقضى به على كل الأحياء...
    من دون أي استثناء!


    تمت القصة بفضل الله تعالى... بتعديلاتها عام 2020م.
    الكاتب: عمر قزيحه
    لبنان

  9. #9

    الصورة الرمزية كونان المتحري

    تاريخ التسجيل
    Apr 2007
    المـشـــاركــات
    445
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: الجريمة الغامضة (قصة ساخرة - بقلمي: أ. عمر)

    بسم الله الرحمن الرحيم
    و الصلاة و السلام على سيد الخلق أجمعين نبينا محمد و على آله الطيبين الطاهرين
    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

    حبكة رائعة اعتدناها في كتاباتك أخي د.عمر
    الأسلوب الساخر الممتزج بالألم دائماً ما تتميز في توظيفه بطريقتك الخاصة
    و إن غلب طابع التراجيديا على أحداث هذه القصة مما أخفى بعض معالم السخرية في هذا النص

    قصة تبدأ بمأساة و تنتنهي بغيرها كل هذا نتيجة التسرع و لن يأتي التسرع غالباً بخير
    ذلك المحقق الذي أودى بحياة أبويه ليس المذنب الوحيد في القصة
    حتى تلك الشرطية لم يكن يفترض بها معاملة السيدة بتلك الطريقة منذ البداية
    أساس التعامل مع الجميع يفترض به أن يكون اللين و الرحمة ما لم يستوجب ردَّة فعل بها بعض الشدَّة
    و لا تكون الشدَّة سوى في نبرة الصوت لا غير
    لكن ما يفترض به أن يحدث لا يشبه ما يجري على أرض الواقع مع الأسف

    شكراً لما جاد به قلمكم و لما يجود به دوماً حفظكم الله من كل سوء

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...