لا حدود للصداقة
(عمر قزيحه - 2000م)

الصداقة أثمن شيء في الوجود، هي الماء الذي نشربه، والهواء الذي نَتَنَفَّسُه، وقبل أن نسأل عن الأخ يجب أن نسأل عن الصديق.
هذا مبدأ بطل قصتنا عادل، ولا يمكن أن يحيد عنه إطلاقًا، فهو لا يتردَّد في بذل دمه كلِّه من أجل صديقه، كما أن ذهنه تفتَّق عن جملةٍ أعجبته كثيرًا: (لا حدود للصداقة)، وأخذ يُردِّدها في كل مكان، وهو مقتنع بها تمامًا، نعم، لا حدود للصداقة، وإلا ما افتدى صديقٌ صديقًا له بروحه...
_ عادل، صديقي العزيز.
التفت عادل في لهفة إلى مصدر الصوت، ثم صاح وعيناه تدمعان تأثرًا:
_ محمود! أفضل أصدقائي على الإطلاق.
اندفع الصديقان ليتعانقا في سعادة، ومحمود يقول ضاحكًا:
_ ما كل هذه الدموع يا عادل؟! من شهر واحد تقابلنا، ألا تذكر هذا؟
أجابه عادل باكيًا:
_ شهر لا ترى فيه صديقًا يَمُرُّ كدهرٍ كامل.
ابتسم محمود ابتسامة عريضة، وهو يقول لنفسه:
_ لن يتغيَّر عادل أبدًا، لو رآني بعد غدٍ فستنهمر دموعه كالسيل، مؤكِّدًا أن اليوم الذي لا ترى فيه صديقًا هو أسوأ من وجه البوم!
جَفَّت دموع عادل بغتة، وقال في حزم:
_ هيَّا يا صديقي، سنتغدَّى في المطعم.
اختفت ابتسامة محمود، وتجهَّم وجهه، وهو يقول:
_ لست أحمل مالًا كافيًا.
جذبه عادل من ذراعه هاتفًا:
_ على حسابي.
توقف محمود، وهو يقول بعد أن عادت إلى وجهه الابتسامة:
_ ولكنَّ مطعمَ لهيبِ الجحيم غالي الثمن يا صديقي.
لم يعرف عادل لم تحدث محمود عن هذا المطعم باهظ الثمن بالذات، مع وجود عشرات المطاعم متوسطة الثمن، والتي تشتهر بمأكولاتها الشهيَّة، إلا أن مبدأ (لا حدود للصداقة) الذي اتخذه شعارًا له، جعله يجيب بحماسة:
_ ولو!
وفي المطعم طلب عادل نوعًا يُحبِّه، فيما طلب محمود أغلى الأنواع سعرًا، ولم يعترض عادل رغم إصرار محمود على تناول المقبِّلات والعصير معه، هذا لأنه يؤمن بأن الصداقة لا حدود لها.
كان الأكل ثقيلًا بحق، لم يتمكن عادل من إكمال صحنه، بعكس محمود الذي طلب صحنين إضافيين، وبعدها أتى على أصناف الفواكه، وأخيرًا جاء دور الآيس كريم، ومع آخر لحسة منه تمتم محمود، وهو يُرَبِّت على بطنه:
_ اسمعني جيدًا يا عادل، سبق وأن أخبرتك أنني لا أحمل الكثير من المال، ولذلك لن أشارك في الدفع، هل سمعْتَني؟
أجابه عادل بابتسامة كبيرة:
_ سبق وأن أخبرتك أن الطعام على حسابي.
برقت عينا محمود، وهو يقول بخبث:
_ الطعام لا الغداء.
تمتم عادل بِحَيْرَة:
_ لا أفهم.
قال محمود، وقد اتسعت ابتسامته الخبيثة:
_ لو قلتَ إن الغداء على حسابك لوصل إليَّ حقي، أما استخدامك لفظة الطعام فيعني أن من حقي أن آخذ بعضًا منه إلى منزلي، خاصة أن أحوالي المادية ليست على ما يرام فأنا شبه مفلس، أليس كذلك؟
أجابه عادل بشهامة:
_ بالتأكيد يا محمود، لا حدود للصداقة.
وبالفعل طلب محمود عددًا كبيرًا من الأصناف، وبعدها حانت لحظة الدفع، اللحظة التي كاد قلب عادل يتوقف فيها عن النبض عند سماعه ذلك الرقم المخيف، 800 ألف ليرة لبنانية، هذا لأنه لم يكن يحمل معه سوى 799 ألفًا، ولقد رفض صاحب المطعم أن يتنازل عن حقه في الألف ليرة، وذلك لأن (الحق حق)، فالتفت عادل إلى محمود قائلًا:
_ هل لك أن تدفعها؟
أجابه محمود، وهو يرمقه بنظرة نارية:
_ هل تتخلى عن الصداقة يا عادل؟ ألم تقل بنفسك: (لا حدود للصداقة)؟
اعتدل عادل في وقفته، وهذا المبدأ يسري في عروقه كالدم، وبكل حزمه أكد أنه سيدفع الألف ليرة غدًا، وبعد محاوراتٍ ومناقشاتٍ مع صاحب المطعم، سمح له بالانصراف، بعد أن وقَّع عادل بخطِّ يده على ورقة تفيد بأنه مدين بألف ليرة وسيدفعها في اليوم التالي.
احتضن محمود الأكياس التي تحوي الطعام في لهفة، وهو يغادر مع عادل، وفجأة تعثر محمود وسقطت الأكياس، وقبل أن يُطلق أحد ضحكة واحدة، وقبل حتى أن يتحرَّك عادل من مكانه، اتسعت عيناه – وأعين الجميع – ذهولًا، فمن جَيْبَتَي البنطلون الواسعتين، ومن كل جيوب سترة محمود، تساقطت الأموال... رزم مكدسة فوق بعضها، وهَبَّ محمود واقفًا، وهو يجمع أمواله بسرعة، وقلبه يخفق في جزع، وما كاد يعيدها إلى جيوبه حتى التقت عيناه بِعَيْنَي عادل الغاضبتين، فَلَوَّح بِيَدِه قائلًا في اضطراب:
_ ليس معي الكثير، 15 مليونًا فقط، صدقني أنا على وشك الإفلاس!
وكان ردُّ عادل عمليًا، ضَمَّ قَبْضَتَيْهِ وأهوى على وجه محمود بلطمة عنيفة أَلْقَتْه على ظهره ليصطدم رأسه بإحدى موائد الطعام، وتتساقط الأطباق على وجهه وملابسه، فهتف في دهشة تمتزج بألمه:
_ ماذا أصابك؟ ألم تَعُد تؤمن بمبدأ (لا حدود للصداقة) يا عادل؟ أكنتَ تخدعنا بشعارات زائفة؟
صاح عادل، والنار تأكل أعصابه:
_ اخرس! أنا الذي أخدعكم أيها اللئيم الحقير؟ أبَلَغَتْ بك الوقاحة هذا الحد؟ ما زلْتُ أؤمن بمبدئي، ولكني أضيف إليه شيئًا جوهريًا، وكل ذلك بفضلك أيها الكذاب المخادع، نعم، لا حدود للصداقة...
وأضاف بمقت تام:
_ ولا حدود للخداع.
وتنتهي القصة بركلة قاسية...
في وجه محمود!

ببعض التعديلات الطفيفة عام 2020م.