حكاية زينا
زينا فتاة عربيَّة! فتاة غاضبة، تكره الواقع المفروض عليها وعلى البنات، لماذا يجب عليها أن تستيقظ باكرًا لِتُعِدَّ الطَّعام والشَّاي والقهوة، ثمَّ تنظِّف الطَّاولة، وتجلي الصُّحون والأكواب، وأخوها لا يفعل شيئًا؟ هو يعمل؟ وهي تتعلَّم!
زينا تفهم أنَّ عليها خدمة والدها، لكنَّها أبغضَت أخاها بغضًا شديدًا، مات الأب، وزادت الكراهية في نفس زينا، الأمُّ كانت سلبيَّة جدًّا، كلُّ كلامها عن (وجوب) طاعة زينا لأخيها، وأن تُقبِّل يده وتطلب رضاه، عن (إلزاميَّة) أن تتولَّى خدمته لتكون ملابسه نظيفة لامعة، بالأخصِّ حين يزور مخطوبته!
الذي أصاب زينا بما يشبه الجنون فعليًّا، أنَّ أمَّها تكلِّمها على رفاق أخيها، صحيح أنَّها لا تعرف أحدًا فيهم، رامز لا يحضر أيًّا منهم إلى البيت، لكن لا بدَّ أنَّهم مثله، وهي متأكِّدة أنَّه سيدبِّر واحدًا فيهم (ابن حلال) لأخته زينا، انفجرَتْ زينا مثل الدِّيناميت تمامًا، ما شأن أخي؟ هل أنا من اخترْتُ له الفتاة التي خطبها مثلًا؟
أمُّ زينا كانَت في حالة من الغضب، هل جُنَّت ابنتها؟ ماذا تعني بما شأن أخيها؟ قالت الأمُّ في حزم إنَّ زينا لن تتزوَّج في حياتها بدون موافقة أخيها، فقدت زينا عقلها تمامًا؛ لذا حين رأت شابًّا يبتسم لها في باحة الجامعة، قرَّرت أنَّها تحبُّه! ابتسمَتْ له بدورها، ثمَّ بدأ الكلام، يا لها من عبقريَّة! إنَّه يحبُّها فعلًا!
زينا في السَّنة الجامعيَّة الأولى، هيثم في السَّنة الثَّالثة (هذا ما قاله لها)، هذا متعلِّم مثقَّف مثلها وأحسن، يفهم عليها وتفهم عليه، ليس مثل أخيها، سألها هيثم متى يتقدَّم ليطلب يدها؟ تكلَّمت زينا بما في نفسها من مشاعر الغضب، لو أنَّك أتيت لتخطبني لن يوافق أخي، ولن توافق أمِّي، ابتسم هيثم، لكلِّ مشكلة حلٌّ يا زينا، حقًّا؟ كيف؟ هل أتمَمْتِ الثَّامنة عشرة؟ بعد ثلاثة أشهر يحدث هذا! تمام! حين تُتمِّين الثَّامنة عشرة تصبحين المسؤولة الأولى والأخيرة عن نفسِكِ قانونيًّا، ولا علاقة لأخيكِ بكِ، تتزوَّجين من تشائين، رغم أنف أخيكِ، ولو حاول إيذاءكِ ترفعين بحقِّه دعوى قضائيَّة ويُسجن!
يا لسعادة زينا! انتظرت وصبرت، وفي يوم ذكرى ميلادها، لم تعلم آنذاك أنَّ أخاها عاد إلى البيت، وقد أحضر قالب حلوى كبير، وعددًا كبيرًا من الأصناف الطَّيِّبة، وزجاجات العصير، واشترى لزينا أجمل لعبة رأتها عيناه، كما اشترى لها ذلك الفستان البنفسجيَّ الفخم، له ثلاثة شهور يعمل زيادة على دوامه؛ ليتمكَّن من إسعاد أخته بحفل مميَّز.
لكنْ، أمُّه تبكي! ما بكِ يا أمِّي؟ لقد اتَّصَل شابٌّ بنا! اتَّصَل شابٌّ؟ ماذا في ذلك؟ ثمَّ من يكون؟ يا ولدي، أختك لن ترجع إلى البيت، لقد اتَّصَلَ هذا الوغد ليقول إنَّ زينا ستتزوَّج اليوم حبيب قلبها الذي يكون المتَّصل، وتطلب منك أن تغلق فمك الكبير لأنَّها راشدة قانونيًّا لا علاقة لك بها!
هجم رامز على الهاتف كأنَّه في معركة معه، استعاد الأرقام المتَّصلة، هل هناك من اتَّصل بعد هذا الحقير؟ نعم، رُنَّ الهاتف أكثر من مرَّة، لكن لم أردَّ، هل تعرفين لمن هذا الرَّقم؟ وهذا؟ وهذا؟ هذا لجارتي فلانة وهذا لصديقتي فلانة وذاك ل... لمن؟ لا أعرف، لا أذكر أحدًا من معارفي يمتلك هذا الرَّقم!
اتَّصل رامز، من معي؟ أنت من تتَّصل! أنتم اتَّصلْتم قبل ذلك! أفٌّ يا أخي! من المؤكَّد أنَّك زبون من الزَّبائن المزعجين الذين يضعون درَّاجاتهم عندنا ويغيبون شهورًا، محلُّ تصليح درَّاجات؟ العنوان؟ وذهب رامز توًّا إلى المحلِّ، بل اقتحمه مثل وحش مفترس أصابه من الجوع ما أصابه، لكن بالفعل يبدو أنَّ أحدًا لم يسمع باسم زينا!
لكنَّ مالك المحلِّ لم يستسلم، تعاطف مع رامز، وثارت الحميَّة في أعماقه، جمع العمَّال عنده، من استخدم الهاتف اليوم؟ تكلَّموا! ردَّ أحدهم متردِّدًا: ربَّما، ربَّما هيثم! صرخ الرَّجل: أيُّ هيثم؟ لقد طردتُه من العمل لأنَّه لصٌّ! أكَّد العامل له أنَّه رأى هيثم يتسلَّل خارجًا من المكتب، وقد لحق به يحاول أن يمسكه، لكنَّ هيثم بادر بالرَّكض، ما رقم هيثم؟ تساءل رامز والغيظ يلتهم أعماقه، أخته الرَّاشدة قانونًا، تزوَّجها لصٌّ! أملَوا عليه الرقم، اتَّصَل، صرخ في ذهول يختلط بالجنون: ماذا؟
ما الذي سمعه حتَّى صرخ بهذا الصَّوت وهذا الانفعال؟ لقد جاءه صوت أخته زينا، تقول: هذا هاتف السَّيِّد هيثم، حاليًّا هو ليس هنا! بكى رامز! يا زينا ارجعي! لا علاقة لك بي، أنا الآن امرأة عندي زوج مسؤول عنِّي، يا زينا ارجعي إلى البيت، وليأتِ هو إلينا يطلبُكِ واذهبي معه، لكن على عيون النَّاس، يا زينا سيقولون إنَّكِ أخطأتِ فهربْتِ، سيتكلَّمون على شرفِكِ وعرضِكِ، ضحكَت زينا، يا لك من ذكيٍّ يا أخي! من أخبرك أنَّك فهيم إلى هذه الدَّرجة؟ أرجع؟ لتذبحني وتتكلَّم مثل الحمقى على الشَّرف وغسل العار؟ أقسم رامز إنَّه لن يفعل شيئًا من هذا! هي أخته ويحبُّها، لكنَّ زينا (ذكيَّة) لا تُخدع في سهولة!
يئس رامز، قال لها أخيرًا إنَّها ستدمِّر حياته وحياة أمِّه، إن رفضَتِ الرُّجوع يمكنها نسيانهما ونسيان بيتها إلى الأبد، لم تهتمَّ بذلك، طلب أن يكلِّم هيثم! ليس هنا! ليس هنا هذا الجبان؟ قولي إنَّه لا يجرؤ على أن... جاءه صوت هيثم يقول في وقاحة ماذا تريد؟ ردَّ رامز في صوت تجمَّدت له الدِّماء في عروق الحاضرين إنَّه يريد نسخة من وثيقة الزَّواج، وإلَّا فسيظلُّ يبحث عنه حتَّى يشرب من دمائه!
اليوم التَّالي، جاء ولد إلى بيت زينا، بل إلى بيت أمِّها وأخيها، هذه وثيقة الزَّواج التي طلبْتُموها، شكرًا لك، هل تعلم أين؟ إلى اللقاء، أنا لا أعرف أيَّ شيء! مضَتِ الأيَّام، لكن كيف؟ مخطوبة رامز طردَتْه حين جاء يزورها، ألقَتِ الخاتم في وجهه، حين تغسل عارك ارجع، كاد يضربها وهو يصرخ أنَّ من يتكلَّم على أخته بحرف فسيفكُّ له رقبته من موضعها!
باتَت زيارات النَّاس لهم قليلة جدًّا، كثير من النِّساء اللواتي لم يكنَّ يتركْنَ أمَّه لم يَعُدْنَ يأتين إليها، بعضهنَّ رفضْنَ استقبالها في بيوتهنَّ، رامز من مشكلة إلى أخرى، كلُّ من يفتح سيرة أخته ولو أنَّه يدَّعي أنَّه يسأل ما الذي حدث، يضربه رامز! هذا عرضي وشرفي، وأختي تزوَّجَت بالحلال، أتفهمون؟ وفهموا! لكن بعد أن احترقَت أعصاب رامز عن آخرها!
ما الذي حلَّ بزينا؟ أوَّل الأمور التي اكتشفَتْها أنَّ هيثم ليس طالبًا في السَّنة الجامعيَّة الثَّالثة، ولا حتَّى غير الثَّالثة، بل كان يتسلَّل أحيانًا إلى هناك ليتظارف أمام البنات، أهله لا يطيقونها؟ لكنَّهم لا يطيقون ابنهم! أكثر من مرَّة طردوه من البيت لأنَّه بلا أخلاق فعليًّا، ليسَتِ البنت الأولى التي جاء بها إلى بيتهم، لكنَّها الأولى التي جاء بها بعقد زواج؛ لقد سمحوا له بأن يحضر ليوضِّب أغراضه وينصرف فورًا (هناك اتَّصل أخوها وردَّت هي)، كلُّ هذا صعب على زينا؟ هذا أهون الأمور!
لقد عاشت في حجرة صغيرة خانقة، هيثم استأجر لها هذا البيت (الفخم وفق أوصافه الغبيَّة)؛ ولأنَّه استأجره (لها) يجب عليها هي أن تنفق على نفسها وتدفع أجرة البيت وتنفق عليه هو، إن لم يعجبها الوضع فلتذهب إلى أخيها وليذبحها، ما المشكلة في هذا؟ زينا اشتغلت في بيوت النَّاس حتَّى كادت تفنى من الإرهاق، زينا التي كانت تُجنُّ وتتأفَّف إذا طلبَت منها أمُّها أن تُعدَّ فنجان قهوة لأخيها، الآن هناك من يأمرها بإعداد القهوة، ويجب أن تتفرَّج عليه وهو يشرب، حتَّى ينتهي ويناولها الفنجان لتغسله! والمصيبة الحقيقيَّة أنَّها لا تستطيع أن تتأفَّف، والمصيبة الأقسى من ذلك أنَّ كلَّ هذا بالمجَّان، زوجها هو من يتقاضى بدل أتعابها لينفقه على نفسه ورفاقه في المقاهي!
ذاقَت زينا طعم الجوع، حين تنظر إلى نفسها في المرآة تشعر بالرُّعب، أهذه هي زينا؟ أين الفتاة الجميلة الممتلئة حيويَّة ونشاطًا وحماسة؟ أين طالبة الجامعة المجتهدة؟ لماذا تركَت بيت أهلها؟ لأجل من؟ تذكَّرت زينا في شيء من الحنين أباها، في فراش المرض الأخير أمسك يدها ويد رامز، قال لرامز: أوصيك بابنتي، هذه أختُكَ، هذه نور عيني، لتكن نور عينِك من بعدي، وتبكي زينا وتسأل نفسها هل قصَّر أخوها معها؟ هو الذي دفع لها رسوم التَّسجيل في الجامعة، هو الذي تكفَّل بكلِّ مصاريفها، أخوها؟ لا! لقد (كان) كذلك، الآن لا بدَّ أنَّه يبحث عنها ليغسل عار العائلة، ويستعيد (رجولته) بين النَّاس!
حبلَت زينا، هل سيفرح هيثم ويرقُّ قلبه لها؟ هي واهمة في ما تتخيَّل وتظنُّ! منذ البداية قال لها إنَّه لا يعترف بهبل النِّسوان، والكلام الفارغ عن (الوحام)، وإيَّاها أن تظنَّ نفسها في إجازة، ولو كانت روحها تخرج من حلقها ستذهب إلى العمل! حين اعترضَت زينا ضربها حتَّى أدمى أنفها، وكاد يشوِّه ملامح وجهها.
عملت زينا حتَّى أُرهقَت تمامًا، كبر بطنها، لكنْ، الإنسانيَّة لا تختفي من العالم، أصحاب البيوت حَنَوا عليها، يدهم في يدها، واستراحتها أكثر من عملها، لاحظوا إرهاقها وشحوبها منذ البداية، وكانوا يُطعمونها معهم، ولولا تلك الوجبة اليتيمة لماتت من جوعها، لكنْ، هذه الوجبة اليتيمة كانت منذ زمان، أمَّا الآن فهم يعملون على تغذيتها جيِّدًا، رأفةً بها وبالجنين الذي تحمله في بطنها.
بدأت زينا الشَّهر التَّاسع في الحبل، قالت لهيثم إنَّها تكاد تلد في أيَّة لحظة، ضربها! تريدين أن تتهرَّبي من العمل يا كسول؟ شتمها بأقسى الألفاظ، أخبرها أنَّها أدنى مستوًى من الكلاب! الكلبة تلد تحمل أطفالها من آذانهم وتبحث لهم عن الطَّعام! لو أنَّها تأخذ الكلبة مثالًا لها وقدوة! عادت زينا إلى العمل، وجاءها الطَّلق بعد أيَّام قليلة، اتَّصلت صاحبة البيت بهيثم، أين أنت؟ امرأتك تلد! ردَّ بمنتهى الحماقة أن ما المشكلة في ذلك؟ ولْتَلِد! مثلها مثل أيَّة أنثى بين بني البشر، بل مثلها مثل أيَّة أنثى في العالم! اتَّصلت المرأة بزوجها، أغلق دكَّانه وجاء بأقصى سرعة، تعاون وامرأته على نقل زينا إلى السَّيَّارة، وانطلقا بها إلى المستشفى.
بكت زينا كثيرًا، لا لما تمرُّ به فحسب، ولا لأنَّها في أشدِّ لحظات الوهن، وهي في أمسِّ الحاجة إلى زوجها معها، بل لأنَّ رجلًا غريبًا يعاونها على النُّهوض ويسندها، لم تتخيَّل زينا أنَّ يد رجل غريب ستمسك يدها في حياتها، فكيف الحال بما هو أكثر من ذلك؟ لكنْ، حالات الإنسانيَّة لا تتوقَّف عند هذه الأمور، المرأة طلبت من زوجها أخذ الأطفال إلى جارتهم، وظلَّت مع زينا في المستشفى لم تتركها لحظة واحدة، كأنَّها أمُّها! حتَّى أنَّ زينا كانت تتمنَّى لو تناديها بكلمة (ماما) بعد أن أعطَتْها دفقة حنان افتقدتها زينا في حياتها ردحًا طويلًا من الزَّمان.
جاء هيثم أخيرًا، التقَت عينا زينا وهيثم، كان أوَّل ما قاله لها: هيَّا! هيَّا؟ هيَّا ماذا؟ قامَت المرأة الأخرى تسأله ماذا يريد؟ ما الذي يريده في رأيكم؟ ما هذا السُّؤال الذي تسأله هذه المرأة؟ إنَّه يريد أن يعود بزينا إلى البيت؟ من الذي سيحضِّر له العشاء؟ ثمَّ إنَّ عليها أن تنام باكرًا، لتذهب في الغد إلى العمل! وجُنَّت المرأة، هجمَت عليه تحاول أن تخنقه بيديها وتسأله هل هو بني آدم أو حمار؟ امرأته خارجة توًّا من عمليَّة ولادة، فيها آلام لا تحتملها الجبال، ثمَّ إنَّ نظام المستشفى لن يسمح بخروجها قبل ثلاثة أيَّام على أقلِّ تقدير، صرخ هيثم في غضب، لا لوصفها إيَّاه بالحمار، بل لهذا الكلام المخيف؟ ثلاثة أيَّام؟ من أين المال؟ طردَتْه المرأة من الغرفة وهي تلعنه وتلعن من ربَّاه.
من أين المال؟ هل دفع شيئًا للمستشفى؟ زوج هذه المرأة هو الذي دفع مبلغ التَّأمين قبل إجراء العمليَّة، وتعهَّد بأن يتكفَّل بكلِّ المصاريف، الآن باتت معاناة زينا مضاعفة، ها هي قد عادت إلى بيت زوجها في اليوم الخامس مساء، وها هي تلك المرأة معها تعتني بها، كأنَّها هي التي تعمل عند زينا لا العكس، ها هي زينا وهيثم وحدهما، بل معهما الطِّفلة التي كانت نائمة، أفاقت الطِّفلة، بكت، صرخ هيثم مثل الوحوش يطلب من زينا أن تُسكت الطِّفلة كي يستطيع أن ينام!
طبعًا الطِّفلة ليست لعبة تعمل بالنِّظام الإلكترونيِّ، هي إنسان في حالة وهن تامَّة، لكنَّ هيثم لا يفهم، اتَّهم زينا بأنَّها غبيَّة، ولا تستحقُّ أن تكون امرأة؛ لأنَّها لا تعرف كيف تُسكت الطِّفلة! ثمَّ أرسل إلى خدِّها صفعة مدويَّة، وانصرف! احتضَنت زينا طفلتها كأنَّها تبحث عندها عن الأمان المفقود في حياتها، بكت زينا كما تبكي الطِّفلة، لكن لا أحد يسمع البكاء، لا أحد يحنُّ عليهما، مضى اليوم السَّادس والسَّابع، ثمَّ لم يَعُد هيثم يطيق صبرًا، أيقظ زينا من نومها في عنف وهو يصيح كأيِّ أحمق: من الغد ستذهبين إلى العمل يا زينا، أنتِ لسْتِ في الفندق هنا، أتفهمين؟ سألتْه في غضب هل أصيب بالجنون؟ كيف تترك طفلتها الرَّضيعة في البيت وحدها وتذهب إلى عملها وتغيب ساعات؟ ستهلك الطِّفلة من الجوع، فهل هو أحمق أو يتحامق؟ ردَّ هيثم بمنتهى السَّماجة والسَّخافة يطلب منها أن تحمل طفلتها بين ذراعيها وتذهب لتنظيف بيوت النَّاس؛ لتأتيه بالمال!
جُنَّت زينا – أخيرًا؟ ليتها جُنَّت منذ زمن بعيد – انفجرَت تصرخ في وجه هيثم، تسأله أليس فيه أخلاق؟ أليس عنده ضمير؟ هل هو وحش؟ بل إنَّه مجنون رسميًّا يطلب من امرأة في حالة النِّفاس أن تحمل رضيعتها وتذهب بها إلى العمل، ثمَّ هل يتصوَّر بغبائه هذا ورأسه المنفوخ مثل البالونات الغبيَّة أنَّ الناس سيتحمَّلون صراخ الطِّفلة وبكاءها؟ من الغبيُّ فيهم الذي سيقبل بامرأة تعمل في بيته ورضيعتها بين ذراعيها؟ ردَّ هيثم بصفعة على خدِّ زينا، وأخرى على خدِّ الطِّفلة! حمل الأخيرة ووضعها بين يدي أمِّها ودفعهما خارج البيت وهو يصرخ مثل الوحوش: أنتِ طالق، طالق، طالق!
الدنيا ظلام وبرد، زينا في لباس نومها! لم يترك لها مجالًا حتَّى لارتداء ملابسها، بالمعنى الأدقِّ الملابس التي اشترتها لها تلك المرأة الطَّيِّبة، حملَت زينا طفلتها وبدأت تمشي هائمة في الشَّوارع، أصوات نباح تصل إلى مسامعها من بعيد، البرد نخر عظامها، أين ستذهب؟ ماذا ستفعل؟ فجأة توقَّفت زينا بعد مدَّة طويلة من المشي، جراحها تئنُّ ألَمًا، الألم نفسه في قلبها وجسدها يتألَّم، لماذا توقَّفت زينا؟ لأنَّها وجدت نفسها أمام بيت أهلها، لقد قادتها قدماها إلى هناك، من دون أن تحسَّ بذلك! الآن، ماذا تفعل؟ تدقُّ الباب وتدخل، ويذبحها أخوها؟ لكن من قال لكِ يا زينا إنَّكِ ما تزالين على قيد الحياة؟ لقد أهينَت أنوثتُكِ وكرامتُكِ، وتدمَّرت حياتُكِ منذ زمن بعيد، بِعْتِ نفسَكِ كأيَّة بضاعة رخيصة بلا ثمن، لا تكوني أنانيَّة، موتي لكن امنحي طفلتَكِ فرصة الحياة، لو بقيتِ بها في الشَّارع ستموت جوعًا وبردًا، وفي حزم رفعت زينا يدها وبدأت تدقُّ الباب في جنون بدون أيِّ وعي منها لعنف طرقاتها هذه!
هبَّ رامز بسرعة مندفعًا نحو الباب، متجاهلًا صراخ أمِّه الخائفة كي يحذر! يحذر؟ هو لا يهاب شيئًا، فتح رامز الباب بحركة حادَّة، أضاءت الدُّنيا في عينَي زينا رغم قسوة ملامح وجهه، هذا بيت! هذا دفء! هذا أمان! أمان؟ لا! هذه مقبرة! لكنَّها لابنتها الأمان، اندفعَت زينا داخلةً أمام عيني أخيها، كأنَّه غير موجود، التقت عيناها بعيني أمِّها، ظلَّتِ الأمُّ جامدةً مكانها، هل أسعدَتها رؤية ابنتها بعد غياب شهور؟ ربَّما! لكن من المؤكَّد أنَّها أخافَتْها، ستحدث جريمة في هذا البيت بعد قليل، لا شكَّ في هذا!
أخيرًا زينا ورامز وجهًا لوجه، تكلَّم رامز في هدوء: "هل نسيْتِ اتِّفاقنا؟ قلت لكِ إن رفضَتِ الرُّجوع يمكنُكِ نسيان عائلتِكِ وبيتِكِ إلى الأبد، ارجعي من حيث أتيْتِ، لا نريد مشاكل"، ردَّت زينا في هدوء مماثل، كأنَّها تتكلَّم على شخص آخر لا صلة بينها وبينه: "ليس لي مكان أرجع إليه الآن، أنا مطلَّقة ثلاثًا، سأخرج إلى الشَّارع الآن، لا مشكلة عندي، لكنْ"... سكتت زينا، دمعت عيناها، توسَّلت إلى أخيها: "ابنتي! أرجوك! لن تستطيع أن تعيش معي في الشَّارع! احتفظ بها هنا، لا أريد لها أن تموت، أنا المخطئة، لكن هي لم تفعل شيئًا"!
مدَّت زينا يديها بالطِّفلة إلى أخيها، بدَت لها ملامحه مثل وحش مفترس، غضب شديد يعتمل في أعماقه...
لكنْ، في حنان عجيب أخذ الطِّفلة منها، احتضنها وداعبها، أعطاها لأمِّه...
ثمَّ مدَّ يديه يمسك زينا في قوَّة...
ووجدت زينا جسدها يندفع بدون إرادتها...
فما الذي حدث بعد ذلك؟
الأمُّ تبكي بكاءً شديدًا، هل قتل رامز أخته؟
أو أنَّه أخذها إليه يضمُّها، وقد نسي الماضي بغتة...
بكلِّ ما فيه من آمال وآلام؟!
السَّرد بأسلوبنا، لكنَّ القضيَّة حقيقيَّة من واقع القضايا الجنائيَّة، في العالم العربيِّ، (زينا) اسم الفتاة الحقيقيِّ (على الأرجح)، ما تبقَّى من الأسماء وهميٌّ...
المفضلات