حكاية آية
آية بنت عربيَّة...
ليس هذا فحسب، بل هي كذلك بنت قرويَّة!
آية صبيَّة شهد لها من يعرفها بالحسن والجمال، ثمَّ إنَّها بارعة للغاية في الأمور التي تعيشها نساء القرى، على الرُّغم من صغر سنِّها؛ لذا بدا لها غريبًا أن يخبرها أبوها أنَّ نصيبها قد جاء، على شابٍّ من عائلة محترمة وراقية من المدينة!
آية لم تَرَ المدينة في حياتها كلِّها، ولا تعلم سبب اختيار ابن المدينة لها وهي لم تَرَه في حياتها، كما أنَّه لم يَرَها في حياته! لكنْ، الذي علمَته آية بعد ذلك، أنَّ والدة الشَّابِّ أرادَت أن تخطب له من القرية، لسبب ما، وأنَّ هناك من دلَّها على والدها مخبرًا إيَّاها أنَّ هذا الرَّجل عنده بنت جميلة جدًّا وبارعة جدًّا! وبالتَّأكيد هذه المعلومة لم تُزعج آية، بل أسعدَتْها كثيرًا!
والدها نفسه فرح كثيرًا بهؤلاء النَّاس، الأمُّ منقَّبة، محترمة، تخدم إحدى النِّساء العجائز مجَّانًا ساعاتٍ معدودةً، يوميًّا بلا انقطاع، ثمَّ إنَّها تفسِّر المنامات، وهذا دليل على صلاحها! (يا له من دليل عجيب)! وهي – ما شاء الله عنها – خبيرة، من عنده استفسار في الدِّين يسألها، مع أنَّها لم تدرس العلوم الشَّرعيَّة في حياتها!
انتقلَت آية إلى المدينة، وبدأ العذاب، الشَّابُّ يعيش في بيت أمِّه، عنده عدد لا بأس به من الإخوة والأخوات، كلُّهم يوميًّا عند أمِّهم، آية عليها أن تخدمهم جميعًا، ولا أحد ينظِّف أو يغسل أو يمسح في البيت سواها هي، الأسوأ أنَّها ممنوعة أن تستخدم أدوات الزِّينة على أنواعها، حتَّى الكحل البسيط ممنوع! لماذا يا حماتي؟! السَّبب أنَّكِ بنت قرية لم تري مثل هذه الحضارة من قبل، ويجب أن تفرحي لحظِّكِ الكبير، البيت فيه كلُّ أنواع الأدوات الكهربائيَّة! وبم تنفع الأدوات الكهربائيَّة روح معذَّبة تعاني التَّنافر في بيئة لم تعتدِ الحياة فيها (قطُّ)!!
زوجها (ابن الماما)! لا تريد آية أن يكون زوجها عاقًّا بأمِّه على الإطلاق، فهذه أمٌّ، ورضاها غاية لا ينبغي لأحد أن يتركها، لكن من المستحيل على أيَّة امرأة أن تتقبَّل أن تكون رهن إشارة من إصبع أمِّ زوجها، إذا أمرَته بأن يضربها فعل ذلك بدون أن يسأل عن السَّبب، إذا أمرَته بأن يحرمها الطَّعام فعل ذلك بدون أن يسأل عن السَّبب، إذا أمرَته بأن... يفعل ذلك بدون أن يسأل ما هذا الذي سيفعله بامرأته، وما هذا الذي لن يفعله بها!
الجارات أحبَبْنَ آية، لكن آية ممنوع أن تحبَّ الجارات! ممنوع أن تخرج من البيت لتجلس مع أيَّة جارة ولو دقائق قليلة لتشربا القهوة معًا وتتحدَّثا ، حين حنَّت حماتها عليها، أو ظنَّت آية أنَّ الحنان هبط عليها، إذ طلبَت من ابنها أن يأخذها إلى محلِّ الألبسة لتنتقي لنفسها فستانًا جديدًا، ذهبَت معهما بالطَّبع، وانتظرَت حتَّى فهمَت ذوق آية تمامًا، من نظراتها في المحلِّ، أين تنفرج أساريرها، وأين يبدو عليها الرَّفض، انتظرَت حتَّى اختارَت ما أعجبها أكثر، أخذته من يدها وردَّتْه إلى مكانه، واختارت لها على ذوقها لونًا غامقًا جدًّا ممَّا ترفضه آية ويعافه ذوقها، كادت آية تقع مغشيًّا عليها، وحين حاولت أن تعترض، رمقتَها حماتها بنظرة صارمة غاضبة، فهمَت آية معها أنَّها إن فتحَت فمها ستُضرب بلا رحمة!
لم تنقطع السُّبل بآية تمامًا، فالدُّنيا من الخير لا تخلو، وبالمحبَّة والتَّعاون تحلو، إحدى الجارات كان قلبها طيِّبًا، طالما نصحت آية بأن تتدلَّل لزوجها، وأن تراعي أكثر أمر يحبُّه الرَّجل (معدته طبعًا)!! وتلبس له ما يحبُّ وتتزيَّن (لا تنسَي يا ابنتي: إذا نظر إليها سَرَّتْه، وإذا أمرها أطاعَتْه)، لكن كلُّ هذا بلا فائدة تُرجى، ويا للأسف!
ثمَّ فهمَتِ الجارة (أخيرًا) حقيقة وضع آية الحزين، لقد اختارَتْها حماتها، لا لجمالها الفائق فحسب، لكنَّها كانَت تبحث لابنها عن فتاة قرويَّة تحديدًا؛ ذلك أنَّ بنات القرى يتمتَّعْنَ بالصِّحَّة والقوَّة، وعندهنَّ جَلَد كبير على العمل، أكثر بكثير من بنات المدينة! أمَّا أنَّ هذه الفتاة في حاجة إلى الشُّعور بالأمان مع زوجها، وأنَّ لها رجلًا يحبُّها ويحنو عليها، فهذا كلام فارغ؛ لأنَّها ابنة قرية، ومهمَّتها أن تشتغل فقط!
تضامنَتِ الجارة مع آية، وتعاطفَت معها، فقرَّرت مساعدتها بطريقة أخرى، طريقة مُنكرة جدًّا، لكنَّها للأسف شائعة منتشرة، بالأخصِّ ما بين النِّساء، وذلك بأن تأخذها إلى (الشَّوَّافة) لتحلَّ لها مشكلتها، من هي (الشَّوَّافة)؟ ماذا تشتغل؟ ولو يا آية!! إنَّها المرأة التي (تشوف) الغيب، و(تتشوَّف) إلى لقائها النِّساءُ لتحلَّ لهنَّ مشاكلهنَّ كلَّها، وقد سمعت هذه الجارة من قريبة لها أنَّها زارت (شوَّافة) مذهلة، حلَّت لها مشكلتها في سرعة البرق!
هل هناك تناقض في الكلام؟ إطلاقًا! الحديث بين آية وجارتها ليس في زيارة آية لهذه الجارة، بل عبر الشُّرفة حين تنشر آية الملابس بعد غسلها، تردَّدت آية، يا جارتي، أنا بنت قرية، لا أعرف شيئًا في المدينة، تطوَّعَتِ الجارة بكلِّ طيبة قلب وحماسة، ستحصل على عنوان (الشَّوَّافة)، وستأخذ آية إليها، في فترة غياب حماتها في عمل الخير، حين تخدم تلك المرأة المقعدة، إذ تغيب أربع ساعات يوميًّا؛ لأنَّها في (فعل الخير العميم) هذا!
وافقَت آية، وفي اليوم التَّالي، كانَتِ الجارة تشعر بالانتصار! لقد حصلَت على عنوان (الشَّوَّافة) من قريبتها، اصطحبَتِ الجارة آية التي ترتجف من الرُّعب، حين وصلتا إلى (الشَّوَّافة) كادت آية تبكي منَ الذُّهول، هل هناك من يبكي منَ الذُّهول؟ نعم! فآية ظنَّت أنَّها ستصل إلى هنا، تخبر (الشَّوَّافة) عن مشكلتها، تحلُّها لها (الشَّوَّافة) في سرعة البرق؛ نظرًا إلى براعتها وخبرتها، وترجع آية إلى البيت كأنَّها لم تفعل شيئًا، ولم تخرج من البيت قطُّ، أمَّا ما تراه أمامها من مظاهرة نسائيَّة رهيبة العدد، فإنَّها لن تدخل قبل منتصف الليل! سترجع حماتها قبلها بساعات، سترى أنَّ آية ليسَت في البيت، ويا ويل آية ممَّا سيحدث لها بعد ذلك!
لكنَّ الجارة ليست هيِّنة! أمسكَت يد آية ومشَت بها بخطوات واثقة بين الزُّحام، خرجَتِ المرأة التي كانَت عند (الشَّوَّافة)، دفعَتِ الجارة آية إلى الدَّاخل، وتراجعَت كأنَّها لم تفعل أيَّ شيء، صمَّت أذنيها عن هتافات النِّساء المعترضات، أن ماذا تظنِّين نفسَكِ فاعلةً يا هذه؟ هذا ليس دور البنت التي معَكِ، لكنَّ الجارة لم تهتمَّ بشيء من ذلك، أخذَت بمبدأ أنَّ خير الأمور أذن من طين وأذن (من عجين)!!
نرجع إلى آية، دخلَت المسكينة إلى الغرفة الواسعة وهي ترتعد رعبًا، ولا لوم عليها في ذلك، الرُّعب ليس من الحماة وأن تكتشف الغياب غير المأذون هذا، بل لسبب آخر مختلف تمامًا، هناك، في غرفة (الشَّوَّافة) المخيفة عظام معلَّقة على الجدران! (الشَّوَّافة) تنظر إلى قِدر يتصاعد منها البخور بكثافة، وتتمتم بكلمات غامضة غير مفهومة، جلسَت آية أرضًا منكَّسة الرَّأس أمام (الشَّوَّافة) تهمس لها بآلامها وأوجاعها، مع العلم أنَّ آية تعلم أنَّ عمل (الشَّوَّافة) نصب واحتيال، ولا تقتنع به بأيِّ حال، لكنَّ مثلها مثل الغريق الذي يتعلَّق بقشَّة!
لم تترك آية في نفسها شيئًا! تكلَّمَت على حماتها بكلِّ سوء، لكن بالحقِّ طبعًا، دمعَت عيناها وهي تذكر كمَّ القهر في حرمانها حقوقها الأنثويَّة البسيطة، من الماكياج ولو كان خفيفًا، حتَّى الفستان الذي أحبَّت اقتناءه حُرِمَت منه، وأُجبرَت على ارتداء واحد لا تطيق ألوانه، بكَت وهي ترجو (الشَّوَّافة) أن تساعدها، لكن بلا أذيَّة أحد على الإطلاق، هي تريد فقط رفع الأذى عنها، لكنَّها لا تريد أن تتسبَّب في إيذاء أحد، إنَّها تحبُّ زوجها وتحترم مكانة حماتها، إنَّها لا تريد سوى بعض الحنان لا أكثر منهما، أليس من حقِّها هذا الطَّلب؟
بغتة انتبهَت آية إلى أنَّ (الشَّوَّافة) لم تنطق بأيَّة كلمة، لم تسألها أيَّ سؤال، رفعَت رأسها تنظر إلى (الشَّوَّافة) متسائلةً هل نامَت مثلًا؟ معَ نظراتِ آية المباشرة، رفعَت الشَّوَّافة رأسها بدورها، تجمَّدتِ المرأتان معًا من هول المفاجأة الرَّهيبة! المرأة التي ذهبَت إليها آية في غياب حماتها؛ لتشكو إليها حماتها، وترجع إلى البيت قبل أن ترجع إليه حماتها، هي نفسها حماتها!!
انتفضت حماتها من الغضب الشَّديد، كيف تجرؤ آية على الخروج من البيت بدون إذن منها، هل نسيَت نفسها من تكون؟ يا لهذه الوقاحة العجيبة! يجب أن تتربَّى آية!
وهنا يطرح السُّؤال نفسه، بكلِّ الفضول: هل أقنَعَتِ الحماة ابنها بأن يضرب آية ويكسِّر عظامها ويُطلِّقها (وقد هدَّدَتْها فعلًا بذلك)؟
أو أنَّ آية التي لَمَّحَت للحماة بأنَّها ستفضح عمل الخير المزعوم الذي تدَّعي القيام به، قد جلسَت بجانب حماتها؟
الأولى تهتف للعظام المعلَّقة على الجدران؛ لتخدع النِّساء المسكينات اللواتي ينتظرْن خارجًا، بصوتها الهادر المخيف: (أشتاتًا أشتوت)...
بينما آية تغنِّي في سعادة تامَّة، لنفسها ولروحها الجديدة السَّعيدة: (آياتًا أيتوت)؟؟
ملحوظة: هذه ضمن أحداث القضيَّة، أمَّا حين نفهم ديننا فهمًا صحيحًا، سندرك أنَّه لا توجد لا شوَّافة ولا أمثالها،
هؤلاء من الكهنة والدَّجَّالين الَّذين لا يجوز الاستماع لهم حتَّى من باب التَّسلية والمزاح، لكنَّ الجهل يضرب بقوَّة في مجتمعاتنا، للأسف...
المفضلات