السلام عليكم ورحمه الله وبركاته


التحيز العلمي والفروق الحضارية



وظيفة العلم هي المعرفة، معرفة الظواهر والوصول إلى الحقائق العلمية المؤكدة، أو التي يقوم عليها دليل مقبول، ومعنى هذا أننا من خلال العمل العلمي نهدف لمعرفة ما يحيط بنا، حتى نستطيع التعامل معه.
فالعلم يمثل المعرفة النظرية والتطبيقية، والتي يراد من خلال الوصول لها، تحديد التطبيقات الأساسية للعلم في حياتنا، حتى ننظم حياتنا ونعالج مشكلاتنا، ونتعامل مع الأزمات، فللعلم وظيفة اجتماعية، أي أنه في خدمة المجتمع، ولهذا ينبع العلم من المجتمع، أي التجمع البشري، ثم يطبق على هذا المجتمع.
الغرب.. والعلم المطلق
والعلم ليس مطلقا، فهو ليس معرفة مطلقة غير مرتبطة بالزمان والمكان، والكثير من العلم الغربي قام على فرضية قدرة العلم على الوصول إلى حقائق مطلقة، ولكن تاريخ العلم الغربي نفسه يؤكد أن النتائج العلمية جاءت متناسبة مع الزمان والمكان اللذين نشأت فيهما.
فالعلم الغربي تطور عبر العصور، وفي كل عصر، كان العلم والتجارب والنتائج العلمية ترتبط باللحظة التاريخية التي تولد فيها، وأحيانا ما كانت النتائج العلمية تتجاوز الفروض الأساسية السائدة في اللحظة التي تعلن فيها، وفي هذه الحالة كان مصير هذه النتائج إما الزوال، أو بقاء هذه النتائج تمهيدا لبداية حقبة فكرية جديدة.
والعالم لا يأتي بعلمه في الفراغ، بل يقدم جهده من خلال السياق الحضاري والفكري المحيط به، ولهذا تأتي المعرفة العلمية من خلال الإطار العام للمسلمات الفكرية والنظرية السائدة في أي لحظة تاريخية.
ومن خلال تلك المسلمات يدور العلم محاولا تأكيدها والتركيز عليها، والثورات العلمية تحدث عندما تضعف بعض المسلمات الأساسية السائدة على مستوى الفكر والنظرية العلمية، عندئذ يبدأ الطريق مفتوحا أمام تجريب جديد ومحاولات علمية جديدة تختبر المسلمات الأساسية السائدة، وربما تنقضها وتغيرها، فالعلم يتطور، والمعرفة العلمية نسبية بدرجة ما، ولا نتصور أن معرفة البشر لها حد تقف عنده، بل هي محاولة مستمرة للوصول للحقيقة، وهي لا تبلغ هذه الحقيقة إلا بمقدار، فتظل نسبية، وإن بدت في كل لحظة أنها أكثر قربا من الحقيقة من الفترات الماضية.
وتلك النسبية تجعلنا نركز على العوامل المؤثرة على النظرية والنتائج العلمية، فتلك العوامل هي التي تسير مجرى التفكير العلمي في كل لحظة تاريخية، وفي كل مكان أو تجمع بشري، والبداية في الإطار العام الحاكم للعلم، وهو الانتماء الحضاري، بما فيه من قيم حضارية أساسية.
العلم يخدم الحضارة
فالعلم يأتي لخدمة القيم الحاكمة لحضارة كل تجمع بشري؛ ولهذا يكون العلم معبرا عن تلك القيم العليا، حتى يكون وسيلة لتحقيق هذه القيم في حياة الناس، فالعلم الغربي المعاصر مثلا، يقوم على قيمة الحرية الفردية، وتتحكم فيه هذه القيمة بوصفها هدفا نهائيا، وعليه يتأسس العلم النفسي والاجتماعي على قيمة الحرية الفردية، ويبحث في خصائص الفرد وتميزه، والطريقة السلوكية والاجتماعية التي تحقق له فرديته واستقلاله وتميزه الخاص.
وهنا نلحظ بالضرورة الفرق بين العلم الاجتماعي، سواء علم النفس أو علم الاجتماع أو العلوم السياسية أو العلوم الاقتصادية من جانب، والعلوم الطبيعية من جانب آخر، مثل علم الطبيعة والجيولوجيا وعلم وظائف الأعضاء، وغيرها.
وبالطبع نتوقع أن التحيز المعرفي الحضاري يقوم بدور كبير في العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية، ولكنه يقوم بدور أيضا في العلوم الطبيعية، ويتحدد ذلك الدور من خلال التصور الأساسي المعرفي عن العالم وطبيعة الكون، كما يتحدد أيضا من خلال الوظائف المراد للعلم القيام بها، ففي تطبيقات العلم تظهر بوضوح القيم الحضارية العليا، بوصفها الموجه الأساسي للتطبيقات العلمية.
فمثلا، نرى أن فكرة الاستنساخ بكل تطبيقاتها العلمية الجريئة، ترتبط بالنظرة المادية للكون والإنسان، فالنظرة المعنوية الروحية، ترى أن الإنسان كائن روحي وجداني، وليس مجرد كائن مادي يمكن تصنيعه، على عكس النظرة المادية التي تحول الإنسان لمجرد شيء، يمكن تصنيعه أو إعادة تركيبه.
لهذا نرى أن المسلمات الأساسية السائدة، تمثل إطارًا للعلم النظري والتطبيقي، في المجال الاجتماعي والطبيعي، كما تمثل القيم الحضارية العليا، الإطار الأساسي لوظيفة العلم والدور الذي يقوم به، ومن ذلك يظهر الكثير من التحيز العلمي ذي المنشأ الحضاري، وبالتأكيد سيكون تأثير هذا التحيز على العلوم الاجتماعية أكبر من تأثيره على العلوم الطبيعية، برغم وجود هذا التأثير في كل العلوم، حسب تصورنا الذي يتأكد من تاريخ النظريات والأفكار العلمية، والتي تأتي دائما تعبيرا عن العصر الذي تنشأ فيه.
العلوم الاجتماعية.. أساس التحيز
ولكن الأمر يأخذ منحى مختلفا في العلوم الاجتماعية، بمختلف فروعها، فهذه العلوم تقدم المعرفة العلمية عن إنسان التجمع البشري، وبالتالي فهي ترتبط بالإنسان والجماعة والمجتمع، وتقدم تفسيرًا لسلوك الفرد والجماعة، وتعرف القيم الأساسية التي ينتمي لها كل تجمع بشري، وتتناول الأنماط السلوكية السائدة، ونمط الحياة الشائع، وبهذا تكون العلوم الاجتماعية في مجملها، تتناول القيم الحاكمة لكل تجمع بشري والأفكار والمسلمات النظرية والمعرفية السائدة في هذا التجمع البشري.
لهذا فالعوامل الأساسية التي ينتج عنها التحيز العلمي، هي موضوع العلوم الاجتماعية، لهذا نصل إلى أكبر درجات التحيز في تلك العلوم، لدرجة أنها قد تكون بسبب تحيزها غير قادرة على تحقيق المعرفة العلمية خارج حدودها الحضارية.
نقصد من هذا أن العلم الاجتماعي ينمو في بيئته ويعبر عنها، ولا يمكن تصديره إلى مجتمعات أخرى، إلا وهو محمل بكل التحيز الحضاري الذي قام عليه، فالعلم الاجتماعي يقوم على التصور السائد عن الإنسان، والعلم الغربي الاجتماعي المعاصر، يقوم على النظرة المادية، والتي ترى أن الإنسان ربما يكون أرقى صورة للمادة، ولكنه أيضا مادة، وبالتالي يمكن التعامل مع الإنسان بوصفه صورة من صور المادة الموجودة في الطبيعة.
وبسبب هذه النظرة سنجد أن العلم الاجتماعي الغربي، اقترب كثيرا من العلم الطبيعي واستخدم أدواته العلمية والرقمية والرياضية، وحاول وضع الكائن الإنساني في قالب معادلة رياضية محكمة، على أساس أن هذا الكائن الإنساني، وإن كان أرقى صور المادة، فإنه يخضع لقوانين المادة.
النظرة المادية للإنسان والمجتمع
وإذا نظرنا للعلم الاجتماعي الغربي، بدءًا من علم النفس، فسنجد أن علم الطبيعة (الفيزياء) خاصة، قد أثر على علم النفس بصورة تجعل علم النفس هو محاولة علمية لدراسة الأثر السلوكي أو الاجتماعي للتفاعلات الكيميائية والعصبية في الجهاز العصبي المركزي والغدد الصماء، ويصبح الأثر السلوكي والاجتماعي، مجرد الصورة الخارجية، وليس الحقيقة العلمية، في الوقت الذي نجد فيه أن التفاعل الكيمائي الداخلي، يمثل الحقيقة العلمية الأساسية للعلم النفسي.
وعليه وجدنا أيضا العلم الاجتماعي يستند على العلم النفسي، وكذلك نجد في دراسات السلوك السياسي والاقتصادي، حيث يهدف العلم الاجتماعي عامة لمعرفة المعادلة الرياضية الخطية التي تتنبأ بسلوك الإنسان، سواء في المواقف الفردية أو المواقف الاجتماعية أو المواقف السياسية والاقتصادية.
وهذا التصور هو الذي أدى إلى الاستخدام المفرط للمعادلة الرياضية الخطية، نقصد بها الدالة الرياضية، والتي تفترض أن عدة عوامل على علاقة رياضية ما، تؤدي إلى نتائج محددة، فإذا استطعنا حساب قوة أو شدة العوامل المستقلة، فسنستطيع معرفة قوة وشدة العوامل التابعة لها.
وهذا المنهج الرياضي، وكذلك المنهج الإحصائي، نتج في الواقع من سيطرة العلم الطبيعي على العلم الاجتماعي، بسبب سيطرة النظرة المادية على تصور العالم في الغرب، ولكن هذا لا يعني عدم فائدة استخدام المعادلة الرياضية أو الإحصائية في العلوم الاجتماعية، ولكن المقصود هو أن استخدام المنهج الرياضي قد يكون جزءًا من التصور المادي عن الإنسان، وفي نفس الوقت يمكن استخدام هذا المنهج من خلال تصور مختلف، يرى أن الإنسان يمثل المعنى مقابل المادة، وهنا سيختلف تماما استخدام أدوات القياس والإحصاء.
المقصد الأساسي
ولا يعني تصورنا عن التحيز العلمي عدم القدرة على الاستفادة من علم الآخرين، ولكن الهدف من دراسة التحيز العلمي، هو تأسيس القدرة على التمييز بين أدوات العلم ونتائجه، من خلال القدرة على التمييز بين النتيجة العلمية والنظرية التي تقف خلف هذه النتيجة، أي الفروض الأساسية أو المسلمات الأساسية.
فمن خلال الفروض والمسلمات الأساسية نكتشف طبيعة التحيز العلمي، وعلينا أن نحلل المعرفة العلمية الإنسانية المتاحة، حتى نستطيع الاستفادة منها، ومن مناهجها، ولكن من خلال جدل حول المسلمات الأساسية التي قامت عليها، ومدى ملاءمة هذه المسلمات لمجتمعات أخرى.
والمثال الأهم في العلوم الاجتماعية، يدور حول المادية في مقابل المعنى، فنرى أن الإنسان المادي المفترض في العلم الاجتماعي الغربي، هو إنسان حقيقي، وهو إنسان الحضارة الغربية، وعندما يدرس العلم الغربي الاجتماعي الإنسان بوصفه كائنا ماديا بحتا، فهو في الواقع يدرس الإنسان الغربي الذي يقوم تصوره عن الحياة على النظرة المادية، كما يأتي سلوكه في الحياة مترجما لتلك النظرة المادية.
وبهذا يستطيع العلم الاجتماعي الغربي فهم الإنسان الغربي، وتقديم مادة علمية قابلة للتطبيق على الإنسان الغربي، ولكن تلك المادة غير قابلة للتطبيق على الإنسان العربي والإسلامي؛ لأنها تقوم على فروض أساسية ليست حاضرة في الواقع العربي والإسلامي.
العمليات الاستشهادية مثالا
وللنظر مثلا لمسألة الاستشهاد في الواقع العربي والإسلامي، سنجد أنها تمثل سلوكا إنسانيا صادما لكل الفكر العلمي الغربي، في المجال السلوكي والاجتماعي، لدرجة أن العمليات الاستشهادية ليس لها تصنيف في أبواب العلم النفسي الغربي، إلا في باب المرض والاضطراب النفسي، وليس لها نظير في التفكير المادي الغربي، إلا الانتحار بوصفه سلوكا هروبيا انسحابيا، يعبر عن اضطراب نفسي، لهذا يسمون العمليات الاستشهادية عمليات انتحارية، وعليه يعجز العلم الغربي عن فهم فكرة الاستشهاد؛ لأنها ضد كل الأفكار المادية، والتي تجعل من الإنسان مجرد آلة لها دافع نحو اللذة، واللذة لها معنى واحد مادي.
وبهذا نرى أن العلم الغربي لن يفيدنا في فهم ظاهرة الاستشهاد، كوسيلة لمقاومة العدوان، واللجوء للعلم الغربي في هذه الظاهرة، سيجعلنا نتصور أن حركات المقاومة التي تمارس العمليات الاستشهادية، هي حركات متطرفة يغلب عليها السلوك المرضي، وتمثل ظاهرة شاذة.
اختلاف أم تخلف؟!!
أردنا من هذه الجولة أن نصل إلى صلب المشكلة التي نعاني منها في البلاد العربية والإسلامية، فنحن نحاول فهم أنفسنا من خلال العلم الغربي، الذي تم استيراده من الخارج، وكأننا في الواقع لا نحاول معرفة أنفسنا، بل نحاول وضع سلوكنا وواقعنا على محك المعيار الغربي، لنرى إلى أي حد نحن غربيون، أو إلى أي حد نمثل المعيار الغربي في التقدم.
ومن خلال هذه النظرة نكتشف أننا مختلفون، ولكن لا نرى أن اختلافنا طبيعي ويعبر عن تميزنا، بل نرى أن اختلافنا يمثل تخلفنا، فمادمنا مختلفين عن الإنسان الغربي المتقدم، لذا نصبح متخلفين بقدر اختلافنا، وعليه يكون علينا من خلال هذا العلم الاجتماعي الغربي، تغيير أوضاعنا حتى تصبح ممثلة للواقع الاجتماعي والسلوكي والنفسي الغربي، وهنا يصبح استيراد العلم الغربي الاجتماعي، وسيلة لإعادة تشكيل الإنسان العربي والإسلامي على النمط الغربي.
وهنا يغيب عنا أن نعرف أنفسنا ونعرف ما نتميز به، ومصادر قوتنا، ويغيب عنا مثلا أن نعرف أننا أمة الاستشهاد، وأن تلك القيمة العليا لدينا تجعلنا نستطيع دحر أي عدوان يقع علينا، وبدلا من التركيز على دعم المقاومة والعمليات الاستشهادية، يصبح تركيزنا على معالجة هؤلاء المرضى الذين أسسوا الحركات المقاومة والذين يقومون بالعمليات الاستشهادية.
فهذا العلم الغربي، يجعلنا لا نعرف أنفسنا، ثم يدفعنا من خلال نظام دولي مهيمن، إلى محاولة إعادة إنتاج الآخر داخل عقولنا، وهذه العملية لا تجعل العلم وسيلة للنهضة، بل تجعل العلم وسيلة للتغريب واستلاب العقل العربي والإسلامي.
العلم الحضاري أساس النهضة
وفي الواقع يغيب عنا كثيرا، أن نعرف أنفسنا، ونفهم حضارتنا، ونعرف قيمنا الأساسية، بل يغيب عنا أن نعرف أمتنا معرفة علمية دقيقة، تساعدنا على رسم طريق النهوض والمقاومة لهذه الأمة، حتى تخرج من أزماتها وتواجه تحدي التراجع الحضاري الداخلي، وتحدي العدوان والهيمنة الخارجي.
فالعلم في تصورنا هو أحد مجالات النهضة، فالنهضة هي نهوض في كل المجالات، ولن تتحقق النهضة بدون التقدم العلمي، ولن يتحقق التقدم العلمي بدون رؤية علمية وأفكار وفروض ومسلمات علمية، تنبع من خلال القيم والمسلمات الحضارية، التي تميز الحضارة العربية الإسلامية.
ولفهم التحيز العلمي الغربي ميزة أساسية، وهي تقوم على تأسيس العلم الاجتماعي بجميع فروعه، على قياس ومعرفة الفروق الحضارية، فالناظر إلى العلم الغربي، يجد أن علم الإنسان، والذي يدرس المجتمعات البدائية، ومن ثم يدرس المجتمعات المختلفة والفروق الحضارية والاجتماعية بين المجتمعات، هو من أكثر العلوم التي تكشف عن التنوع الاجتماعي والحضاري العالمي، عبر المكان والزمان.
ولهذا نتصور أن العلم الاجتماعي يجب أن يقوم على أساس تمييز الفروق الحضارية، مما يمكنه من تحديد رؤى ومناهج علمية متميزة، تتجاوب مع القيم السائدة والمميزة لكل حضارة أو مجتمع، وبهذا، ومع إدراك الفروق الحضارية، نستطيع فهم أنفسنا، كما نستطيع فهم الآخر، ولا ننظر للآخر من خلال رؤيتنا المتحيزة، كما يفعل هو، بل من خلال إدراكنا لتميزه الحضاري.
وهناك العديد من القضايا الاجتماعية والحضارية، التي تمثل ظواهر حدث حولها اختلاف كبير في الفهم، بسبب سيادة الرؤية العلمية الغربية، وهذه القضايا نراها قضايا أساسية في فهم مجتمعاتنا العربية الإسلامية، كما أنها قضايا أساسية في مشروع النهضة والمقاومة، ومن غير فهم دقيق لها لا نستطيع تحقيق معرفة الذات، التي تمهد للتطور والرقي والنهوض.