تأخذني ساقاي إلى غرفتي, حيث كان آخر لقاء هنا, أذكر... أذكر أنها كانت ساهمة, ضامرة, قريحة, وكان وجهها كسماء تقطعت فيها السحب لشحوبته, كانت تهرف وتهرف وتهرف, وكأنها كانت تقول وصيتها لي, وكأنها شعرت بأن وقت الرحيل قد اقترب, كانت تتحدث بصوت شجي, كانت عيناها تحومان في وجهي, وكأنها آخر مرة تراني فيها, فتملأ مقلتيها مني, أذكر دمعتين سالتا على ملامحها, وقبلة طبعتها على وجنتي, اليمنى بالتحديد, ما أزال أشعر بوجود طبعة هذه القبلة, ولكني لا أشعر بوجود من قبلتني, خَرَجَت من غرفتي وهي تجر أذيال الحزن معها, خَرَجَت من الغرفة, فخَرَجَت من حياتي كلها...
أراها, أجل أراها, أراها في جميع حنايا المنزل, ولكني لا أشعر بوجودها أبداً, إنني أفتح النافذة الآن, أحدق إلى سماء ليلة غارت النجوم فيها, وأستعيد ذكرى الخبر المؤلم, إذ: ~ كنت كالعادة بانتظارها بلهفة في صالة المنزل, ولكني وقتها كنت بانتظار اتصال وأنا لا أعلم: ((لقد طالت غيبتها, وهي نادراً ما تتأخر, أيا ترى حدث شيء؟ لقد كانت متعبة صباح اليوم, كلا, لا أتمنى أي شيء من هذا)) كانت هذه أفكار تجول في لبّي وأنا لا أعلم ما ينتظرني, رنّ جرس الهاتف, فهرعت مسرعة سعيدة, والابتسامة غطت ملامح وجهي, ظننت أنها هي, رفعت السماعة وقلت بعتاب مغمور بفرحتي: ((لقد تاخرتِ)) فإذا بالخبر يتردد صداه في أذني, وأنا لا أعرف المتكلم, بدايةً, لم أصدق الأمر, ولكن بدا المتكلم جاداً في حديثه, لم أفكر وقتها في السؤال عن المتصل, لأني لم أهتم, لم أهتم بأي شيء وقتها, قال الخبر مباشرة وبلا مقدمات, فنزل علي كالصاعقة, فصعقت, تسمرت في مكاني وكأني لم أستوعب الأمر بعد, كنتُ واجمة, لا أصدر صوتاً, والخلق حولي صامت ليس كعادته الصاخبة, وكأنه كان يشاطرني ما سمعت, لم يقطع هذا الهدوء إلا صوت السماعة وهي تسقط على الأرض, اغرورقت عيناي بالدموع, جثوت على ركبتيّ, فلم تستطع ساقاي حملي, ثم شيئاً فشيئاً, خارت قواي, ولم أعد استطيع الجلوس حتى, فاستلقيت على ظهري على الأرض, وظللت أحدق إلى السقف أحاول تكذيب ما سمعت, لقد كان عقلي مصدقاً لذلك الخبر, ولكن قلبي فلا, نسيت كل ما حولي, نسيت كل ما أعرف, نسيت كل شيء, ما عداها هي, ظللت أفكر فيها, وأنا في وجوم لامتناه, كنت في حالة لا أحسد عليها, وكأن ثقباً أسود قد ابتلعني, وكأني كنت في قلب الدجى, لقد كان قلبي قريحاً, فلقد رحلت من جاورت روحي, بل وماتت, ولن أراها مرة أخرى, ولن أسمع صوتها من جديد, كنت أبكي, ولكن بهدوء, وكانت الدموع تسيل من عيني كالسيول, حتى غدت من كثرة البكاء دما~ تنقطع سلسلة الذكريات هذه على شآبيب دمعي الذي بلل وجهي وأيقظني من سهوي...
المفضلات