بسم الله الرحمن الرحيم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في عالمٍ قاتلٍ من الخمول.. حيث أقيم حالياً.. وإلى أجل مسمى.. بـ[نهاية شهر شوال القادم] - إذا قدر إلهي لي أن أعيش إلى ذلك الحين- في عالمي الساكن هذا.. أو بالأحرى.. في صحراء عمري هذه.. غيمة ظهرت في سمائي.. أهي سحابة الصيف التي تمر كأن لم تأتِ يوماً؟ حسناً .. ليست هي.. إنها غيمٌ ركامي..
عجباً! أفي صيفٍ صحراويٍّ ينزل المطر؟!
لا عجب..! فإذا قضى الله أمراً فإنما يقول له: كُـــنْ.. فيكون..!
---
كانت الساعة الثالثة من بعد الظهر عندما عدت إلى المنزل.. وبداية الغيث قطرة.. لقد نسيت المفتاح!
حسناً.. ليس وقت التحسر الآن.. يجب أن أحسم أمري وبدقة.. فالسائق الذي يمقت الانتظار من خلفي.. والنيام الذين لا يريدون أن يزعج أحد قيلولتهم من أمامي.. كيف لي أن أعلم صغيرة المنزل بقدومي؟
حبا الله الإنسان عقلاً عظيماً.. فمنذ هممت بالنزول من السيارة وحتى وصلت عتبة باب المنزل.. خطر في بالي ما لا يحصى من الأفكار والحيل والخدع التي تهدف إلى إيصالي إلى داخل سور المنزل بأسرع وقت ممكن.. وبأقل ضرر كذلك..
هل أقرع الجرس فقط؟ أم أقرع الجرس وأقرعه وأقرعه؟ أم أقرعه وأقرعه؟ أم أقرع الجرس الذي بجانبه؟ احترت كثيراً..
ومع كل ثانية تمر والسائق ينتظر.. ومع كل لفحة سموم تمر بي.. إحساس مرير بالغثيان يتنامى في معدتي الخاوية.. إلا أنني أعود وأطفئه بوعد بحمام هوائي تحت أبرد جهاز تكييف في المنزل.. ياااه ما أجمل هذه الخاطرة!
ططططططططوووووووووووووووووووووووووووططططططططط!
باسسسسسسسسسسسم الله!!
حسناً عزيزي السائق لقد أيقظت ثالث جار خلف منزلي بمنبهك اللطيف هذا.. يبدو أنك حسمت الأمر ولا داعي للمزيد من التفكير.. فقد اكتفيت منه تماماً في اختبار اليوم..
وفعلاً.. آتت الزعقة ثمارها!!
وقع خطوات رقيقة صغيرة سريعة يتقارب إلى الباب.. يا مفرج الكربات! لقد وصلت أخيراً.. وبدأت يدها الصغيرة تعمل في قبضة الباب.. حسناً يبدو أنني استبقت الأحداث قليلاً.. لم تعمل يدها في قبضة الباب.. بل إنها لم تصل إليها حتى..
صغيرتي لم تستوعب حتى الآن أنها أقصر من أن تصل لمقبض الباب الرئيسي.. ولكنها مع ذلك لا تفتأ تجرب كل ما طرق الباب طارق.. ليس وقت التجربة الآن.. اذهبي وأحضري أحد أسلحتك هيا!
^__^ يبدو أنها فهمت! فوقع الخطوات أخذ يتباعد ويتباعد ويتباعد و..... حتى تلاشى كل صوت.. وعادت ميمي وحيدة بين العالمين!
أرجوكِ صغيرتي.. عودي سريعاً قبل أن يستعمل هذا المتهور أسلوبه الساحر في الإيقاظ مرة أخرى!! أرجوكِ..
.
.
يا مجيب الدعوات!!
صحيحٌ أن أسناني آلمتني قليلاً عندما سمعت صوت الجر الفظيع ذاك.. إلا أنه لا بأس.. أدخلوني فقط.. و.. نعم... هذه المرة تحرك مقبض الباب فعلاً.. وفتح الباب ودخلت!!
ما أجمل العودة إلى الديار.. في تلك اللحظة.. أحسست أنني لا أريد أي شيء آخر من الدنيا.. وأنــ.. آآآآآآه..آآآآآآآآآآآآآآه..
حسناً.. في الحقيقة.. أريد أن تنزل تلك الصغيرة من على ظهري..
فصغيرتي لم تستوعب حتى الآن أني ما عدت أقوى على حملها.. خصوصاً وأنا في أوهن حالاتي.. أنزلتها من على ظهري ووضعتها على كرسيها ذي الصوت الفظيع آنف الذكر.. بعد أن رميت بحقيبة كتبي وحقيبة حاسوبي ذي البوصات الخمس عشرة لأحرر يديّ وأتمكن من إنزالها..
شيء ما يخبرني أنني لو أيقظت أحد الكبار لكان خيراً لي من معسكر التحقيق الذي أقامته الصغيرة خلف الباب الرئيسي مباشرة..
-دبتي لي حلاوة؟
-لا..
-ليه؟
-نسيت.. والله آسفة وما راح أنسى مرة ثانية وبكرى أجيب لك.. و.. و...
إلا أنها لم تأبه لأي مما قلت.. فلقد صادرت حقيبتيّ.. وأخذت تعمل فيهما تنقيباً وبحثاً تمخض إلى.. لا شيء!!
وعندها وقعت الواقعة التي كنت أتجنبها.. ركضت الصغيرة بكل ما أوتيت من نشاط الطفولة وسبقتني بينما كنت ألملم أغراضي إلى باب المبنى و..... طرااااااااااخ تزلزلت له أشلاء روحي المرهقة.. وعادت ميمي وحيدة بين العالمين!!
فعلاً أريد أن أبكي.. لو كانت الصغيرة أمامي لكنت أقفلت عليها في أصغر الحقيبتين..
خلعت عبائتي وضممت أغراضي في حضني واستندت إلى الباب.. وبدأت المفاوضات:
-سارونة قلبي افتحي لي..
-لأ.. ليه ما دبتي لي سَيْ من الدامعة؟
-بكرى أجيب لك شيين موب واحد بس افتحي..
-لأ..
-طيب لا تفتحين بس جيبي لي موية باردة..
-لأ..
-حرام عليك والله اني مسكينة وعطشانة وتعبانة وأبي أنام..
-.........
-سارونة؟
-نعم؟
-افتحي
-لأ
-آآآه ترى خلاص بموت بعدين ما يصير عندكم ميمي
-......
-تبين أموت؟
-.....
-خلاص مت..
يبدو أنني لامست وتراً رحيماً لديها.. تحركت الصغيرة وتململت.. و.... وعادت ميمي وحيدة بين العالمين!!
يبدو أن الصغيرة قد انصرفت إلى بعض شؤونها..
ما مدى فظاعة الشعور بأنك إنسان تم التخلي عنه؟! إنه فظيعٌ وكفـــى..!
---
شعور خانق بالغضب يتملكني.. لماذا علي أن أعود في مثل هذا الوقت الجهنمي؟ لماذا نسيت المفتاح؟ لماذا الصغيرة محتالة؟ لماذا لم يضع أبي جرساً لباب المبنى؟ لكنت أيقظت الجميع ولا آبه.. فعلاً لقد وصلت مرحلة من الإعياء والتعب أردت أن أفعل معها أي شيء.. أي شيء إلا أن أبقى تحت هذا اللظى القاتل.. أريد أن أبكي.. أن أصرخ.. أن أدخل وأغتسل وأتخلص من إحساسي بالقرف.. أن أحطم أي شيء.. حتى ولو كان جهازي المحمول.. إلا أنني أسررت كل هذا في نفسي ولم أبدِ شيئاً.. وبقيت مستكينة مستندة إلى الباب.. حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا..
بقيت..
وبقيت...
وبقيت.....
وفي لحظةٍ ما.. يرتجف لها قلبي حنقاً كل ما تذكرتها.. ســكـــن كــــــــــــــــل شـيء.. وانقطعت الكهرباء عن حينا كالمعتاد..
حسناً.. لقد كانت (الشجرة) التي أتت على البعير بما حمل..
أن أكون غريقة.. ولا أجد من ينقذني.. خيرٌ لي ألف مرة من أن أجد من يلقي إلي طوقاً.. ثم.. وحين أتمسك به.. يخرقه أمام عيني..
أن أموت حزينة خير لي من أن أموت حزينة غاضبة.. والموت ليس بواحد.. بالمناسبة..
لقد تلاشى حلم الحمام الهوائي مأسوفاً عليه كل الأسف..
لدى بعض شباب الصحراء عادة متوحشة لإخراج الضب من جحره.. فهم يملئون جحره بعوادم سياراتهم مجبرينه على الخروج لاستنشاق بعض الهواء..
تذكرت هذا وأنا –وفي حالة بين الصحوة والمنام- أسمع الحياة بدأت تدب في المنزل إثر انقطاع التيار..
حسناً..
لو كنت في حالةٍ نفسية جيدة.. لكنت شبهت دبيب الحياة في المنزل تلك اللحظة.. بانطلاقة العصافير وزقزقتها الجميلة في أبكر البكور.. إلا أنني كنت حانقة جداً وهذا ما خطر ببالي..!
لشدة غضبي وأسفي على حالي.. لم أنطق بكلمة.. أسمعهم..
-ليه طيب ما يطفى الكهرب الا بعز الظهر؟
-الحين نقدر نشرب موية.. ناكل آيس كريم (على الجرح) بس برمضان وش بنسوي؟!
-تدرون؟ رمضان يبدا بأغسطس هالسنة!!
-يا لطيييييييييف!!
وبقيت مستكينة في مكاني.. ولم أنطق بكلمة.. و.. إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ.. فلا تقنع بما دون النجوم..!
لقد عقدت النية أن من سيكتشف جثتي يجب أن يكون أبي..
من بين ظلمات الغضب واليأس ورثاء الذات التي غرقت بها.. أتى صوت أمي:
-سارونة.. جت ميمي؟
-أي دت.. بث ماتت..
ضحكت في سري وبيت نية قاتلة..
-يلا يا شباب الصلاة..
لقد كان صوت والدي!!
بدأت جحافل الدموع تتجمع في عيني.. استعداداً للهجوم مع أول كلمة شفقة سأتلقاها من والديّ.. بقيت على حالي أنتظر وأنتظر وأنتظر.. إلا أن الباب لم يفتح أبداً..كما أن الأصوات خمدت في الداخل.. ما الذي يحصل؟!
حسناً.. في الحقيقة.. عندما يكون أبي متأخراً عن الصلاة فإنه لا يخرج من الباب الرئيسي.. بل يأخذ الطريق الأقصر ويخرج من باب المسجد..
لملمت بكل أسى بقايا نفسي ودرت حول المنزل بحمولتي المادية والمعنوية الثقيلة.. ودخلت منكسة الرأس محطمة الروح.. لم أحظ ولو بكلمة عزاء أو مواساة.. لأن أحداً لم يعلم عن حالي.. جررت نفسي جراً إلى غرفتي.. وجحافل الدموع تأبى الخروج كما أنها تأبى الزوال.. نظفت نفسي وشربت ماءاً بارداً.. وابتلعت ألمي.. ولا من شاف.. ولا من درى..
في الغد..
وفي مثل تلك الساعة البائسة التي عشتها.. أخرجت مفتاحي من سلسلة حول عنقي.. فتحت الباب ودخلت.. أتت الصغيرة راكضة إلي:
-دبتي لي حلاوة؟!
-لأ..
ركضت الصغيرة بكل ما أوتيت من نشاط الطفولة وسبقتني إلى باب المبنى.. وطرااااااااااااااخ طربت له أذناي.. وألجم آخر صوت من ضمير في داخلي.. تقدمت بكل هدوء.. أخرجت المفتاح مرة أخرى.. وفتحت الباب ودخلت وذهول جميل يرتسم على محيا الصغيرة مشوب بهلع خفيف في عينيها الجميلتين.. حملتها من بين كتفيها.. ووضعتها موضعي بالأمس.. وطراااااااااااااخ تزلزلت معه فرائص الطريدة.. وانصرفت إلى شؤوني.. بينما بقيت سارونة وحيدة بين العالمين!!!
---
حسناً..
يبدو أنها كانت سحابة صيفٍ فعلاً..
ويبدو جلياً أن نفظ الغبار لا يجدي في الصحراء..
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المفضلات