فراشتان جميلتان.. في زهرة العمر.. وميعة الصبا والشباب.. استيقظتا ذات صباح.. توجهت (الأولى) لمرآتها .. جلست قبالتها على الكرسي بعد أن نفشت جناحيها لتبدأ هوايتها المحببة في تأمل ذاتها.. اندفعت (الثانية) بكل حيوية لتفاجأ أختها الحالمة بـ(خبطة) على ظهرها تعيدها لأرض الواقع.. كانت تطير بقوة وحماسة لا تنظر إلا لأمامها.. لأختها فقط.. لِتَعْلَقَ على حين (اندفاعة) في شبكة عنكبوت .. لأول وهلة.. انقطعت أنفاسها كرد فعل لهذا التوقف الاضطراري.. ثم.. وما ان استوعبت وضعها الصعب.. حتى أخذت ترتجف من الغضب.. ومن الخوف والتوتر أيضاً.. أمامها مباشرة.. كانت أختها الحالمة لا تزال حالمة.. حتى ارتجت شباك العنكبوت من خلفها.. هنالك اضطراب ما في الصورة الجميلة التي تتأملها المليحة.. هنالك شيء خاطئ.. أمعنت النظر ودققت.. واعتصرت الكسولة عينيها لتكتشف الشبكة الفضية خلفها .. لتتجمد أطرافها وينخلع قلب المسكينة من الخوف: - لقد عَلِقْتُ في شباك العنكبوت....!!
خَدَرٌ مؤلم يسري في يديها وقدميها.. وخفقان قلب لا يهدأ.. وعبرة مؤلمة تسد حنجرتها.. استعصى عليها حتى الهَمس.. بينما قنبلة مكتومة من الصراخ تخنق رئتيها.. لم تقوَ حتى على صرف نظرها عن تلك الشبكة المرعبة المنعكسة على المرآة أمامها.. ظلت تحدق وتحدق برعب هائل صامت... مهلاً.. مالذي يحدث..؟! - إن الشبكة تهتز.. نعم إنها تهتز وبعنف أيضاً..! يا لحماقتي..! ألهذه الدرجة أنا خائفة؟! حتى أن يديَّ وقدميَّ أخذت تقاوم حتى قبل أن أعي ذلك؟!
وما أن اطمأنت الحمقاء إلى أن أمور الدفاع تسير على ما يرام منها.. حتى أشعلت فتيل قنبلتها مطلقة صيحة مدوية طويلة تحرق الأعصاب.. أتبعتها بسيل عرمرم من دموع الخوف التي احتبستها طوال (التو)..! . . سحقاً للمترفين..! ما الفرق بين الظن واليقين؟! . .
تابعت (الأولى) نحيبها وعويلها.. ورثاءها المقيت لذاتها الحرة السجينة.. بينما انصرفت أختها الأسيرة الحرة إلى مقاومة هذه الحقيقة ونكرانها.. بيديها وقدميها.. وبتفكيرها أيضاً.. متشاغلة عن خوفها ورعبها برغبتها الحقيقية بالنجاة.. حتى أنها لم تجد (ذلك) الوقت الذي يمكن أن تبكي فيه..! ظلت تقاوم وتقاوم حتى أخذ اهتزاز الشبكة يزداد عنفاً واضطراباً.. أشفقت (الأولى) على ذاتها المجاهدة.. وأخذت تلهث وتلهث وتتوقف قليلاً عن اللهاث لتلتقط أنفاسها.. لتعود وتلهث من جديد..!
ومر وقت طويل.. طويل جداً بمقياس الفراشات.. يعادل عشر حياتهن.. وما زالت الأختان .. هذه تبكي.. وهذه تقاوم.. وتقاوم.. حتى وأخيراً.. تخلصت (الثانية) من آخر خيط يربطها بأسرها المؤلم.. لتنطلق بكل سعادة وقوة وحبور تطير من جديد.. وشعور مسكرٌ بالحرية يتغشاها.. ويرسم بسمة الانتصار الواثقة على محياها.. وإقبال على الحياة يمدها بطاقة تهكم وتعجرف عجيبة.. لأنها باتت ترى الحقيقة حقيقة.. بكل صفاء.. بلا غبار.. بلا غشاوة ولا ضباب.. انطلقت صوب أختها المتعبة إثر صراعها مع الشبكة على المرآة.. أدركت (الأولى) أن جهدها كُلل بالنجاح أخيراً.. فها هي الشبكة من خلفها تتمزق وتسقط.. وها هي أختها تقبل من الخلف .. ترى أين كانت أختها منها خلال محنتها هذه؟! كانت (الثانية) تحلق وقدميها بمحاذاة رأس أختها التي لا زالت تجلس على كرسي الزينة.. كانت (الأولى) تنظر إلى (الثانية) بحقد .. وألم.. أين أنتِ عني؟! لمَ تركتني أقاوم هذه الخيوط البغيضة لوحدي؟! أرادت أن تصفع أختها (المتخاذلة) عن إنقاذها.. رفعت يدها.. إلا أن اليد لم تتحرك.. حاولت أكثر وأكثر.. وأجبرت يدها على التحرك.. إلا أن اليد سقطت بجانبها.. منفصلة عن الجسد.. لأنها قد تصلبت..! وما لها ألا يتصلب جسدها ويتيبس وقد قضت عشر عمرها تحدق في المرآة.. وترثي لحالها فقط..؟!
ابتسمت (الثانية) في تشفي.. ووضعت إصبع قدمها على ناصية أختها المتحجرة.. وأخذت تؤرجحها للأمام والخلف:
ذهب العمر هباءً فاذهبي.. لم يكن "رعبكِ" إلا شبحـــا...! *
ثم ركلتها فسقطت عن الكرسي.. لتتفتت إلى قشور .. أو بالأحرى لتبقى كما كانت قشوراً فقط.. ثم أخذت تقهقه بحزن وألم وهي تنظر لأختها التي استحالت رماداً.. وقد اختلطت دموع الحرية السعيدة بدموع الحسرة الأليمة..
في عالمنا هذا.. يوجد أناس فارغون.. هم عالة على هذه الحياة.. حباهم الله من نعم الدنيا ما لو حاولوا إحصاءها لكلوا وملوا.. ثم إذا هم -ولفراغ أرواحهم وتفاهة اهتماماتهم- ينقبون داخل أنفسهم عن ما ليس عندهم.. عن ما ينقصهم.. حتى إذا ما وجدوا شيئاً مما يبحثون عنه.. كبر في أعينهم.. وكأن الحياة وقف على هذا الشيء.. حتى إذا ما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت -وهماً لا حقيقة- أخذوا يبكون وينوحون ويستجدون عطف الآخرين.. بعدما كانوا يستجدون الألم والحزن ..!
في المقابل.. وبجانبهم تماماً.. يوجد من يعاني حقيقة.. يوجد المبتلى.. يوجد الضعيف.. يوجد من لم يُعْطَوْا حظاً من الدنيا.. إلا أنهم بنظافة أفكارهم.. بتسليمهم بأقدارهم.. برضاهم وقناعتهم.. بقلوبهم الأبية الشجاعة المؤمنة.. رضوا بواقعهم ولم يرضخوا له.. جعلوا من أليم حياتهم وبؤس واقعهم وقوداً لهم للمضي قدماً في هذه الحياة.. هؤلاء.. هم أمل الدنيا وطاقتها.. إن أكثر ما يحزن هؤلاء.. هو أن يروا عُمْرَاً يفنى بلا أثر.. بلا عمل.. تماما كرسامٍ يرى طفلاً عابثاً يشتري الألوان ليشوه بها جدار قصر أبيض..! خامات مهدرة.. وشباب مشيب.. وذوات تحتاج لمن يصفعها لتصحو من سكرة الترف.. ولترى أين هي من خارطة النعيم.. لتعرف حق قيمتها في هذه الحياة.. حتى لا تخسر ما إذا سئلت في ذلك اليوم: وعن عمره فيما أفناه.. وعن شبابه فيما أبلاه..!
تحية ً لصغيرةٍ شقية.. أيقظني نور ابتسامتها وإشراق روحها.. من سبات عميق..! صغيرة.. لها تحية إكبار وإجلالٍ .. ودعاءٍ لها بإشراقةٍ لا تنطفئ.. وبرضىً لا ينضب.. . . .
التعديل الأخير تم بواسطة RemoOo ; 3-11-2009 الساعة 02:43 AM
يا الله..! مر أسبوع كامل مذ كتبت هذه الأحرف.. ! خلتني لم أضف الموضوع.. ولكن هاهو قد رأى النور أخيراً...! حمداً لله على السلامة ^^ . . هل من من أدرك المغزى؟! .
التعديل الأخير تم بواسطة RemoOo ; 1-11-2009 الساعة 05:35 AM
مشكورة اختى على القصة جمليه ما شاء الله ما ادركته هو انك مثلتى الفتاه المتبرجه التى دائما امام المرآه بالفراشه التى تنتهى بالنهايه اتمنى ان اكون قد ادركت صح تقبلى مرورى
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. حسناً.. نعم إنها عدة أمور أردت إيصالها .. أصبت.. سررت بردك الجميل.. وتمنيت لو أنك وصلت للمغزى الذي أريده تماماً.. شكراً لك..
اعتقد ان حل هذه المعضلة فى الثلاث عبارات كثيرا منا من يقيد نفسه بسجن من الوهم ويخدع نفسه بالمقاومة وهو فى الواقع مستسلم لوهمه اما من يرى الواقع على حقيقته ولا يستسلم فانه ينجح فى النهاية مهما خسر او اضاع من عمره والمسالة عامة بيدخل تحتها الافراد والدول القصة جميلة جدا والمعانى فيها كتيرة قوى تسلمى ياقمر
أَحْـــــــــسَـــــــــــــنـْــــــــــــــــتِ عزيزتي منى سعدت كثيراً لأن فكرتي وصلت لكِ.. أبهرني استنباطك لمفاتيح القصة.. شكراً جزيلاً لمرورك القوي عزيزتي.. تقبلي تحيتي واحترامي . . .
في عالمنا هذا.. يوجد أناس فارغون.. هم عالة على هذه الحياة.. حباهم الله من نعم الدنيا ما لو حاولوا إحصاءها لكلوا وملوا.. ثم إذا هم -ولفراغ أرواحهم وتفاهة اهتماماتهم- ينقبون داخل أنفسهم عن ما ليس عندهم.. عن ما ينقصهم.. حتى إذا ما وجدوا شيئاً مما يبحثون عنه.. كبر في أعينهم.. وكأن الحياة وقف على هذا الشيء.. حتى إذا ما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت -وهماً لا حقيقة- أخذوا يبكون وينوحون ويستجدون عطف الآخرين.. بعدما كانوا يستجدون الألم والحزن ..!
في المقابل.. وبجانبهم تماماً.. يوجد من يعاني حقيقة.. يوجد المبتلى.. يوجد الضعيف.. يوجد من لم يُعْطَوْا حظاً من الدنيا.. إلا أنهم بنظافة أفكارهم.. بتسليمهم بأقدارهم.. برضاهم وقناعتهم.. بقلوبهم الأبية الشجاعة المؤمنة.. رضوا بواقعهم ولم يرضخوا له.. جعلوا من أليم حياتهم وبؤس واقعهم وقوداً لهم للمضي قدماً في هذه الحياة.. هؤلاء.. هم أمل الدنيا وطاقتها.. إن أكثر ما يحزن هؤلاء.. هو أن يروا عُمْرَاً يفنى بلا أثر.. بلا عمل.. تماما كرسامٍ يرى طفلاً عابثاً يشتري الألوان ليشوه بها جدار قصر أبيض..! خامات مهدرة.. وشباب مشيب.. وذوات تحتاج لمن يصفعها لتصحو من سكرة الترف.. ولترى أين هي من خارطة النعيم.. لتعرف حق قيمتها في هذه الحياة.. حتى لا تخسر ما إذا سئلت في ذلك اليوم: وعن عمره فيما أفناه.. وعن شبابه فيما أبلاه..!
تحية ً لصغيرةٍ شقية.. أيقظني نور ابتسامتها وإشراق روحها.. من سبات عميق..! صغيرة.. لها تحية إكبار وإجلالٍ .. ودعاءٍ لها بإشراقةٍ لا تنطفئ.. وبرضىً لا ينضب.. . . .
المفضلات