نــادِل ٌ.

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: نــادِل ٌ.

  1. #1

    الصورة الرمزية [ اللــيـــث ]

    تاريخ التسجيل
    Sep 2009
    المـشـــاركــات
    4,329
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    Etoile Icon نــادِل ٌ.




    مازالَ يتعرّفُ إلى هذه الضـّاحيةِ، من ضواحي العاصمة
    وقد حلَّ بها منذ بضعة أسابيعَ مُستبشِرا إذ ْ تمكـّن أخيرا
    من إحراز مركز ِ عمل ٍ بأحد معاهدها الثـّانويةِ كان يطلبُهُ
    كـُلَّ سنة فيمتنعُ شغورُه، وتـتعذّرُ تلبية رغبتِه.


    قضـّى أيّامَه الأولى، يُعاني حرجا وإحساسا بشيء منَ الغربةِ
    بين مقاهي هذه المدينة ومحلاّتِ التـّجارة والخدمات، والنـّاس ..
    كان يتحيّرُ منْ نَظراتٍ متفحِّصةٍ، ناطقة بتساؤلاتِ أصحابها عمّنْ
    يكونُ هذا الغريبُ ولمَ هو هنا؟


    ومنَ العيون الـّتي كانت تـُزعجه أكثر، تلك الـّتي كانت تكاد تخرُجُ
    من محجريْ رأس تـثـْبتُ بين كتفـَيْ نادل بأحدِ المقاهي، لمْ يتجاوز
    العقد الثالث من عمره. كان النـّادلُ يُصوّبُ نحوه، بعينيْه، رصاصاتِ
    مسدّس قاتلاتٍ، يُعقبُها تقاسيمَ وجهٍ، صارمة ً.


    وكان ليس بإمكانهِ الإقلاع عن إدمان شُربِ القهوة السّوداء، في الصّباح الباكر
    وقبل الذ ّهابِ إلى العمل .. ولا بُدّ له، إذن، من أن يتواصل مع ذلك النـّادل
    وإنْ بدا له غريبَ الأطوارِ .. طلبَ منه ذات يوم ٍ أوّل، قهوة بعد أن جلس منفردا، إلى طاولةٍ مُنعزلةٍ، في رُكن.

    رمقه النـّادلُ، دون أن يتفوّهَ بكلمةٍ.. ثـُمّ مضى في خدمة الزّبائن الآخرين "غير الغرباء "..
    طال انتظارُه القهوة َ، والنـّادلُ يلبّي رغباتِ الآخرين، وقد حلّ بعضُهم بالمقهى، بعده ..
    وكان عليه أن يخدمه ُ قبْلهُم. واشتدّ غيْظ ُ الزّبون "الغريب". وهبَّ، قاصدا المنضدة الكبيرة
    الـّتي وقف وراءها عاملان، يعصران القهوة، ويُعدّان ِ الطـّلباتِ .. وشرب قهوتـَه.

    ...

    وسعى إلى الحافلةِ ليُدركَ عملـَه، في وقتٍ، لا يبقى معه تلامذتـُه ينتظرون أمامَ قاعة الدّرس.

    ما إنْ تجاوز عتبة َ بابِ المقهى، صباحَ اليوم الثـّاني، حتـّى قفزتْ في ذِهنِه، حادثة ُ الأمس ..
    وتكدّر لمّا برز إلى ناظريْه ذلك النـّادلُ اللـُّغزُ الغريبُ. جلس إلى طاولةِ الأمْس نفسِها، وهو يتساءلُ ..
    إنْ كان يعرفُ، في ما مضى من الأيّام، هذا الشـّابّ. وهل هو أحدُ الـّذين درّسهم، يوما ما.
    لكنّ جُلّ تلاميذه القـُدامى، الـّذين يلتقيهم، كانوا يبشـُّون عند رؤيته، ويُرحّبون به، ويدعونه إلى
    احتساء ِ القهوةٍ ، تكريما وتقديرا، ويتذاكرون وإيّاهُ، طرائف ونوادرَ، أيامَ الدّراسة، ويُبدون حنينا إلى
    آمادٍ من الزّمان، عذبةٍ، بالمعهدِ الذي إليه كانوا ينتمون، وكان ..
    ويتحسّرون على ذهابِ تلك الأيّام الحُلوةِ الذاهبة دون عوْدٍ ..

    ...


    وبينما كان هائما في مساربِ شـُعبِ الماضي هذه، إذ بشابٍّ لا يتجاوزُ السّادس عشرة َ من العُمر ِ
    يقفُ أمامَه. قال الشـّابُّ، وبفمه سيجارة ٌ لمْ تـُشعلْ، بعْدُ :


    - كبريتٌ.. من فضلك.

    وأوْما المُخاطـَبُ، برأسِه أنْ لا، وهو يُرثي بداخله، لحال السّائل، ويستغربُ منها، في آن ٍ..
    وكان النـّادلُ لا ينفكُّ يمُرُّ أمامه، جيئة وذهابا، دون أنْ يسأله حاجتـَه. فاستشاط غيْظا.
    وقرّرَ أنْ يقفَ في وجْهه، ويقطـَعَ سبيلـَهُ، ويُؤنـِّبَه ويُؤدّبَه، ويُلقــِّـنـَهُ درْسا في جَوْدة الخدماتِ
    وحُسنـَى القول. لقد تجاهله كثيرا .. أليْس هو حريفا يُعامَلُ مِثـْلَ كـُلّ الحُرفاء؟ أمْ هو الإحتقارُ والإهانة؟
    لِمَ يخدمُ الحُرفاءَ ويستـثـنيه، ويُقصيه؟ لِمَ يتـّجهُ إلى الزّبائن الآخرين، ولمْ يبتسم له ابتسامة ً تحُدّ من
    اكفهرار وجهه .. ثـُمّ يُسرع إلى تلبية طلبـِه، دون تراخ ٍ. وعندما تلتقي عيْناهُ عيْنيْه يعودُ
    وجهُه إلى التـّقنـّع بقناع الصّرامةِ والتـَّجهُّم؟..

    ثـُمّ ها هو يوَلـّي مدبـِرً، ويُقوّسُ ظهرَهُ ويقتربَ أكثرَ من أحدِ الزّبائن، ويفتعِلَ هيئة َ مَن يمدُّ فنجانا
    ثمّ هو يُشيرُ إليه بسبّابتِه، ويُحاكي، بكفِّ يُمناهُ استفهاما .. لا بُدّ إذن، مِنْ مُجابهتهِ ..

    ولمْ يدر ِ كيْف عدلَ عن هذا القرار ِ. ورآى أنْ يتريّثَ أكثرَ، فلا تـُحمَدُ عُقبى العجلَةِ في الرّدِّ عند الغضبِ
    وهمّ بالخروج ليتناولَ قهوتـَه في مقهى آخر. لكنّ أحدَ العامِليْن، وراء المنضدةِ ،
    ناداهُ مادّا يدهُ بالكأس، باشـّا ومُرحِّبا، ومُفتعِلا ابتسامة ً.

    ...


    جذبَ وراءهُ بابَ سور ِ المنزل ِ، ومازال الظـّلامُ يُخيّمُ، بعدُ، على المدينة ِ.
    وشدّ انتباهَه تكاثـُرُ القِططِ، وهي تنتشِرُ هنا وهناك، وتـُرسِلُ مُواءً مُزعجا
    كان يتساءلُ، وهو في الطـّريقإنْ كان لا بُدَّ منَ العوْدةِ إلى ذلك المقهى
    أو تجنـُّبه، اتــّـقاءَ غموض النـّادِلِ "العدُوّ" اللـّئيم، ويتناول قهوتـَه اليومية
    في مقهى آخر، وإنْ كان أبْعَدَ عن محطـّة الحافلةِ ، ورآى أنّ الخيار الثـّاني
    مبعثه جُبْنٌ في النـّفس، واستسلامٌ لا مُبرّرَ له .. ولا بدّ من صدّ هذا الجاهل
    السّافل عن عُدوانه المجانيِّ، والقعودِ له كـُلّ مَرصدٍ، وإزاحةِ قناع الغموض المُحيّر.


    وما إن وطئت إحدى ساقيْه عتبة باب المقهى، حتـّى جالتْ عيْناهُ في فضائه
    بحثـًا عن النـّادل. كان متحفّزا، ومتهيّئا لما من شأنه أن يحدثَ بينهما من سجال
    أو تعنيفٍ .. ولمْ ير النـّادِل. وقصد طاولتـَه المعهودة. وهمّ بالجلوس ينتظِرُ ..
    وما كاد يفعلُ، حتـّى ظهر"الخصمُ" داخلا..

    ناداه.. لمْ يلتفِتْ إليْه .. واصل سيْره ببُرودة أعصابٍ، مُثيرةٍ العجبَ ..
    ألمْ يسمع النـّداء ؟ أهو الإحتقارُ دائما؟ تناول، من على المنضدةِ
    طبقا عليه كؤوسٌ بها قهوة ٌ وماءٌ .. وازداد الزّبونُ "الغريبُ"غيظا
    واشتدّ حنقـُه .. مازال النـّادِلُ مُتماديا في غيّهِ والإستخفافِ به ..
    وثبَ عليه.. تناولَ من يده الطـّبق، بعصبيةٍ، ووضعه على المنضدةِ

    وأمسك بتلابيبه قائلا:

    - هلْ أ ُكلـّمُ حجرا؟ لِمَ كـُلُّ هذا التـّجاهل والإحتقار؟
    هلْ أ ُقبّلُ يدَك، حتـّى تأتيَني بما أطلـُبُ؟


    لمْ يتفوّهِ النـّادلُ بكلمةٍ. وبسرعةٍ، قفز أحدُ العامليْن
    من وراء المنضدةِ .. وأدركه الثــّانيُّ، سعيا. وحَالا دون
    الحريفِ والنـّادل .. وفكَّ أحدُهما يديْ الزّبون، من رقبةِ الخصم، بصعوبة.


    قال العاملُ:
    - حِلمك، سيّدي.. أرجوك.. لا يستطيعُ أنْ يُكلـّمكَ لأنـّه، أخرس، وهو أصمّ.
    وتأخذه نوبة ٌ عصبية كلـّما عرف شخصٌ عنه هذا العيبَ، للوهلةِ الأولى.


    والتفتَ الحريفُ إلى اليمين، وما زالت دقـّاتُ قلبه قوية متسارعة
    فرأى النـّادلَ جالسا إلى طاولة، في ركن مُنزو ٍ، و قد طأطأ َ الرّأسَ ليُخفيَ
    ما استطاع دمعتيْن نزلتـَا على عجل ٍ !!

    ( إنتهى )





    التعديل الأخير تم بواسطة أثير الفكر ; 7-11-2014 الساعة 03:59 PM

  2. #2

    الصورة الرمزية أثير الفكر

    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المـشـــاركــات
    5,262
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: نــادِل ٌ.

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

    القصة رائعة والنهاية مؤلمة

    ومع هذا فإنها الحقيقة والشيء الملاحظ في محيط بني البشر

    لطالما نسينا بل تناسينا أمر إيجاد سبعين عذرًا للأخ المسلم والله المستعان

    جزيت خيرًا على هذه الأحرف

    تحياتي


  3. #3

    الصورة الرمزية Miaka Yuki

    تاريخ التسجيل
    Sep 2009
    المـشـــاركــات
    3,204
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: نــادِل ٌ.

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    جمييل ..جمييل ماشاء الله تبارك الرحمن..
    الأسلوب..ماشاء الله
    استمتعت بالقراءة..تخيلت النادل والشخص عندما غضب وصدم وعندما بكى..
    اللهم اجعلنا ممن يلتمس عذرا لأخيه المسلم
    يُجزيك الله خير على القصة أخي

  4. #4

    الصورة الرمزية [ اللــيـــث ]

    تاريخ التسجيل
    Sep 2009
    المـشـــاركــات
    4,329
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: نــادِل ٌ.

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

    القصة رائعة والنهاية مؤلمة

    ومع هذا فإنها الحقيقة والشيء الملاحظ في محيط بني البشر

    لطالما نسينا بل تناسينا أمر إيجاد سبعين عذرًا للأخ المسلم والله المستعان

    جزيت خيرًا على هذه الأحرف

    تحياتي





    حياكِ الله أختي الكريمة أشكر مروكِ الرائع
    وإياكم خير الجزاء أختي .


    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    جمييل ..جمييل ماشاء الله تبارك الرحمن..
    الأسلوب..ماشاء الله
    استمتعت بالقراءة..تخيلت النادل والشخص عندما غضب وصدم وعندما بكى..
    اللهم اجعلنا ممن يلتمس عذرا لأخيه المسلم
    يُجزيك الله خير على القصة أخي





    حيا الله أختنا المصممة المبدعة مياكا ^_^ .. أشكر مروركِ العطر
    اللهم آمين آمين
    وجزاك الخير أختي الفاضلة .

  5. #5

    الصورة الرمزية بوح القلم

    تاريخ التسجيل
    Apr 2014
    المـشـــاركــات
    3,354
    الــــدولــــــــة
    كندا
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: نــادِل ٌ.

    السلام عليكم ... أستاذي

    بديع بديع أنت تدهشني كل مرة أكثر من سابقاتها

    لك قلم سيال ينضح بالسحر الحلال

  6. #6
    Neveto
    [ ضيف ]

    افتراضي رد: نــادِل ٌ.

    رائع ، تبارك الله أخي الحبيب الليث ، أبدعتَ بسرد هذه القصة الرائعة ، حقيقةٌ مؤلمة لا نشعر بها إلا بعد فوات الأوان ، نكسر قلوب من حولنا قبل أن نفهم ما ألامهم .

  7. #7

    الصورة الرمزية [ اللــيـــث ]

    تاريخ التسجيل
    Sep 2009
    المـشـــاركــات
    4,329
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: نــادِل ٌ.

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بوح القلم مشاهدة المشاركة
    السلام عليكم ... أستاذي

    بديع بديع أنت تدهشني كل مرة أكثر من سابقاتها

    لك قلم سيال ينضح بالسحر الحلال

    وعليكم السلام أستاذتي الكريمة .. حياكِ الله :")
    الروعة حيث حللتم .. أسعدكم الله

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...