عندما قال الله تعالى في كتابه: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) كان يقرّر لنا حقيقة مهمة جدًا، ألا وهي: إنّ أيّ دراسة لواقع التدافع بين الحق والباطل يجب أن تسقط منه اعتبارات الباطل مهما علا وانتفش؛ فالمقياس الحقيقي هو الحق وأهل الحق، فإذا قوي الحق وأهله علوا بإذن الله مهما سبقهم الباطل وأهله إلى مقاليد القوة الماديّة، وإذا تمكّن الباطل وأهله فإنّ مردّ ذلك إلى ضعف أهل الحق عن الأخذ بالحق بقوّة. الباطل هو كيد الشّيطان، وكيد الشيطان ضعيف في ذاته، هكذا حكم الله عليه شرعًا وقدرًا. الحق هو كيد الرحمن، وكيد الرحمن قوي في ذاته، منتصر في عاقبته ومآله. إذًا مسؤولية النصر للدعوة على عاتق أهل الحق، فهم الملامون أمام الله في أيّة هزيمة تلحق بهم في أيّ ساحة فكرية أو عسكرية. وكان في معركة أحد درس عظيم للأمّة؛ إذ بان فيها أثر معصية الرسول في وقوع الإخفاق العسكري والجراح الّتي أصابتهم. والأمّة الآن لاشكّ تمرّ بحالة من الضّعف استقوى فيه الباطل كثيرًا، وسبب قوّة الباطل بناء على ما تقدّم هو ضعف أهل الحقّ، وهو ضعف ذو وجهين: ضعف في العلم والإمكانات؛ إذ انتشرت الجهالة بالشرع، وطغى على كثير من خاصة الدعاة وطلبة العلم اللغة الفكرية والعلوم الفكرية، وابتعدوا عن لغة الشرع وأحكامه، وأصبح كثير منهم يجنح للمصطلح الفكري والخطاب والكتاب الفكري أكثر من علوم الشريعة. وضعف آخر أشدّ وأنكى وهو فرع عن الأوّل ألا وهو ضعف الإيمان؛ إذ تحوّل كثرة كاثرة من الدعاة وطلبة العلم من الأشدّ إلى الأخفّ، وتنازل الكثير من المفتين والمتفقهين عن مبادئ شرعية، وأصبح لدينا ظاهرة (خلاعة الفقيه) الذي لا يمتنع عن الجلوس مع فاسقات المحطّات الفضائية والضحك معهنّ وملاطفتهنّ، رغم أنّهن محلّ لعنة الله ورسوله، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّهنّ لا يجدن ريح الجنّة.. وأصبح لدينا ظاهرة الدعاة (الإيجابيون)، الذين لا يردّون يد لامس، وهؤلاء الآن كعبة يطوف بها طواغيت الإعلام يجدون لديهم المسوّغ البدعي المصبوغ بالصبغة الشرعية لكل إنتاجهم الهابط أخلاقيًّا، المارق عن أصول وأحكام الشريعة، وهؤلاء هم التجسيد لما كان يردّده عمر الفاروق عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم بعدي كلّ منافق عليم اللسان». وكان عمر بن الخطاب يقول: «أخوف ما أخاف على هذه الأمة الذين يتأوّلون القرآن على غير تأويله»، وعن صالح بن مسمار قال: «خرجت من البصرة على عهد عبيد الله بن زياد قال: فسمعت المشيخة الأولى، وهم يتعوّذون بالله من الفاجر العليم اللسان». فكلّ عنق يستطيل به الباطل إنّما هو علامة لانخفاض وضعف في أهل الحق، ومن هذا القبيل أنّ في هذه الأيام من كل عام يحتدم جدل متكرّر حول تمثيل الصحابة؛ إذ ينبري واحد أو أكثر من سماسرة الإعلام المتكسّبين على حساب دين الأمّة وثوابتها ورموزها لينتج أفلامًا ومسلسلات يقوم بتجسيد الصحابة الكرام مقتربًا شيئًا فشيئًا من الحضرة النبوية الشريفة.. تارة بزعم تصحيح التاريخ، وتارة بزعم الدعوة، وكلّ يغني على ليلاه، حتى تصبح شخصيات الجيل الأنموذج، الجيل الفريد كما كان قطب يسمّيه بحقٍّ وحقيقة، تصبح شخصيات هذا الجيل لعبةً بيد فجرة الإعلام وسقط المتاع من رجال الفن والسهرات الحمراء، يظهر مرة في أحضان الغانيات في دور حشّاش داعر، وفي رمضان يصبح خالد بن الوليد أو الحسن أو القعقاع! وتظهر مرة في دور غانية راقصة، ثمّ تجدها تجسّد دور أم سليم أو أسماء أو غيرهن من نساء الصحابة. وليست المشكلة من المنتجين أنفسهم ولا ممن يقف خلفهم من التجار أو غيرهم؛ فهؤلاء ماذا ننتظر منهم إلاّ هذا، والشيء من معدنه لا يُستغرب، وإنّما المشكلة من الفقيه المستنير الّذي لا يعدمه هؤلاء، يأتون على منصّات إعلامية ليتفنن في إبراز قدرته على اللعب بالشريعة، والتلاعب بالنصوص، ونزع الكلمة من سياقها والموقف من مكانه، ثم يخرج بالنتيجة التجديديّة العظيمة: التمثيل حلال، وتمثيل الصحابة حلال، لكن بضوابط! وهنا نقع في محنة الضوابط من جديد.. فتنة الضوابط الّتي استُحِلّ بها الزنا في صورة النكاح، والربا في صورة البيع، والتغريب والنفاق في صورة التجديد والاستنارة، واليوم يُمتهن به الصحابة في صورة الدعوة والتصحيح! إنّه الكيد الشيطانيّ يتجدّد كل مرة في لون جديد.. لكن وسائله على الرغم من تغيّرها وتجدّدها مرة بعد مرة فإنّ عنصرًا منها لا يكاد يختلف ولا يتغير.. الفقيه المستنير المجدّد المنفتح! ولا أجد لهؤلاء وصفًا أفضل وأدقّ من قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «دعاة على أبواب جهنّم»، وأيّ وصف هم أجدر به منه، وهم الذين ما تركوا بابًا أغلقته الشريعة إلاّ كسروه، ولا ثابتًا من الدّين إلاّ زحزحوه، ولا ذريعة سدّتها إلاّ فتحوها. هل بعد هذا الشرّ من خير؟ كلّ ما نراه من هذا السقوط المعرفي والأخلاقي والقيمي هو نتيجة حتمية لمرحلة التمحيص الّتي تمر بها الدّعوة، بل الأمّة قاطبة، لم يعد بيننا مكان لمن يعيش في ظلال الدولة الدينية التي تحرسه وتحرس دينه وثوابته، ولا في ظلّ الطائفة والجماعة الّتي تحتويه، لقد تزعزع هذا الفهم، واهتزّت هذه الأركان، وأصبح الخلل يدبّ إلى أوصال كل فئة، والاختلاف يسري في أوصال كلّ التيارات، وأصبحت الأمّة تمرّ مرحلة التمحيص الّتي يحيا من حيي فيها عن بيّنة ويهلك من هلك عن بيّنة.. لا مكان اليوم إلاّ لصاحب الإيمان الثابت الذي يتذكر كلّما رأى عَلَمًا يهوي ورمزًا يسقط أنّ الحق والصواب والعدل والإنصاف والفوز والنصر والجنة ورضا الرحمن هو في ما كانت عليه العصابة الأولى، الرعيل الأوّل، السلف الصالح، وقد أبان لنا النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم- أنّ الأمّة ستختلف على أشدّ ممّا حصل في اليهود والنصارى، وأنّ غالب هذه الفرق –اثنتان وسبعون من ثلاث وسبعين - في النار، وواحدة في الجنة، وهي الّتي تبقى على ما كان عليه النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه، ووصفها بالغربة والقلّة، وأنّهم يصلُحون إذا فسد الناس، وأنّ من يعصيهم أكثر ممّن يطيعهم، وأنّهم لقلتهم وندرتهم كالغريب عن وطنه؛ فهم الغرباء فطوبى لهم، ولمن تمسّك بهم وببقيتهم إلى أن تأتيه منيّته.
المفضلات