السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
لم أرغب في دخول المنتدى قبل أن أعيد كتابة نقدي لقصتك و لا أخفيكِ أنَّني لا أجيد ذلك كما تجيدينه
و لكن لقد بذلتُ جهدي لأعطي تعليقاً عن قصتكِ و إن كنت أعلم أنَّه لن يفيها حقها أبداً
و أرجو أن لا يزعجكِ اسلوبي المبتدئ في إبداء رأيي حول القصص
حسناَ سأبدأ :
ماشاء الله !!صوت وحيد لبكاء طفلة جاء متردداً على الجدران السوداء ... هناك بين أكوام الأغصان الجافة ... تجلس ليلى ذات الأعوام العشرة ... متكورة
على نفسها ... رأسها بين ذراعيها ... ودموعها تنهمر بغزارة من عينيها العسليتين الواسعتين ... كانت يدها الصغيرة تقبض على ثوبها الأزرق
بخوف ... وربما بحزن ... ثوب بحافات مشغولة بدقة ... ذهبية كلون شعرها القصير ... اختلط بالأتربة المتعلقة به حتى بدت الطفلة كأنها تختفي
ببطء هناك ... نعم ... لقد كانت تختفي ... فقد توقف الصوت الحزين الآن ... كلمات أخيرة مبهمة نطقتها الصغيرة قبل أن يعم السكون المكان
مقدمة رائعة !! , مكتوبة بعناية لتسحب القارئ مباشرة إلى داخل القصة في إطارٍ مخيف و غامض
وصف الطفلة أيضاً دقيق و جميل جعلني أشعر ببعض ما تشعر به أثناء قراءة هذه السطور القليلة
في البداية احترتُ في السبب الذي يجعلها تهتم لأمر الفتاة التي لا تحبها لتبقى تراقبها بهذه الطريقة و تسرح بفكرهاتجلس هناك ... في مكانها المفضل ... آخر الصف حيث الشباك ... لم ألتفت إليها يوماً ووجدتها تنظر إلى ما يجري في الداخل أو ما تقوله
المدرّسة ... رغم اني من محبي النظام وإطاعة القوانين ... ألا إن هذا لم يكن سبب كرهي الشديد لها ... بل هو ما فعلته السنة الماضية ... كنت
قد لاحظت شرودها في الصف عن كل ما يقال فيه ... لذا ولحبي أن أقدم المساعدة لها ... إخترت أجمل كتبي العلمية ... كان هدية قدمها أخي
الكبير لي عند عودته من سفره ذلك العام ... كنت أريد تشويقها للقراءة ... لحب العلم ... أردت أن أريها حبي للعلم ... ربما تتفهم سبب هذا
السعي الدائم خلف حروف صامتة ... ليست سوى حبر على ورق ... وقفت أمامها وقدمت الكتاب بيديّ الاثنتين مع ابتسامة خفيفة على فمي ...
لم تبدِ أي رد فعل في البداية ... ولكني عندما رفعت نظري عن كتابي الى عينيها ... كانت هناك نظرة غاضبة تشتعل في عينيها الرمادية الغريبة
... زادت نظارتها المستطيلة التي رمقتني بتلك النظرة من خلفها تأثير الأمر على قلبي ... الأمر التالي الذي أدركته هو كتابي يطير من يدي اثر
حركة يدها الرافضة له ليستقر بعنف على الأرض جراء وزنه ... لقد رمت كتابي العزيز على الأرض! ... لحسن حظي انه كان ذو غلاف مقوى
ولم يصب بأي أضرار جراء تلك الحادثة ... ولكن مجرد ذكر ذلك الموقف يثير جنوني ... فكيف بي وأنا أراه يحصل أمامي يومها ... تشاجرت
معها شجاراً بقي صداه يتردد حتى نهاية السنة الدراسية ... لم أحدثها منذ ذلك اليوم ... أعلم انها متأثرة بموت والدتها قبل خمس سنوات ...
ولكن ذلك لا يعطيها الحق أن تفعل ذلك بكتابي ... بهدية أخي ... ما حصل لها لا يعطيها الحق أن ترد حسن نيتي بتلك النظرة وذلك التصرف
القاسي ... كنت أنظر إليها لفترة في محاولةٍ لفهم تلك الفتاة ... الطريف اني لا أذكر اسمها ... لا أذكر انه قيل كثيراً في الصف لطبيعتها الصامتة
... رغم ان ذلك كان سيغضب الآنسة ليلى التي تبحث عن تفاعل الجميع في درسها ... ولكني لا أراها تعير اهتماما يذكر للفتاة الوحيدة التي لا
تشترك بأي شيء اطلاقاً ... ذلك يثير غضبي كلما تذكرته ... تنفست بعمق لابعد هذه الأفكار عن رأسي الذي استدار هارباً من مثير تلك الأفكار
للماضي لتتذكر ما جرى بينهم بدلاً من أن تنسى أمرها تماماً و لكن فهمتُ السبب في السطور التي تليها
و لكن ما لا أفهمه : أليس من المفترض حسب المحددات أنَّ والدتها قد توفيت منذ أربع سنوات فلماذا جعلتِها خمسة ؟! ,
هل توجد فجوة زمنية في القصة لم أدركها ؟!
وصف بليغ و مختصر لنفسية قارئ حقيقي يشعر أنَّ غيره لا يفهم لغة الكتبكنت أريد تشويقها للقراءة ... لحب العلم ... أردت أن أريها حبي للعلم ... ربما تتفهم سبب هذا
السعي الدائم خلف حروف صامتة ... ليست سوى حبر على ورق
نعم الفضول ... صفتي المميزة ... أنه ما أوصلني إلى أن أكون الطالبة الأولى في الصف ... فأنا لا أترك شيئاً إلا وأشبعت فضولي حوله ... هذا
يشمل كل المواد والاسئلة الدراسية طبعاً ... إلتفت إلى تلك الفتاة ... اسمها ظهر في فكري أخيراً ... أحلام ... اسم لا يلائمها اطلاقاً ... هي من
تضيع أيامها في النظر من النافذة بدل السعي لتحقيق أحلامها ... كانت لا تزال تحدق بالخارج حتى الآن ... لم تغادر مقعدها رغم انتهاء الحصص
المقررة لليوم ... كانت تثير غضبي لكل ما تفعله حتى قبل عدة أيام ... حين أدركت انها ترسم بعض الرسومات الغريبة على نافذتها ... فجأة
أدركت انها ليست جسداً بلا روح ... ليست دمية تتحرك كما لو انها ربطت بخيوط ... بل انسانة قررت الصمت ... لا أعلم أين كنت قبلاً ... ولكنها
الآن تثير فضولي ... أريد معرفة المزيد عنها ... فهي غامضة ... غااامضة ... الكلمة التي تثير فيَّ الحماس لمعرفة ما يقبع خلف تلك النظارات
... الحاجز الذي يخفي حتى عينيها عن الناظر إليها ...
هنا أدركت سبب ملاحقتها لزميلتها بتلك النظرات و لكن مع ما قالته هنا شعرتُ بأنَّ كلامها السابق
كان تحت تأثير الغضب فحسب أي أنَّها لم تكن تكرهها فعلاً بل تحاول إقناع نفسها بذلك بسبب الموقف
الذي حدث بينهما , أيضاً لم أكُن لأتوقع أنَّها ستعتبر النظارات الزجاجية الشفافة كحاجز يخفي سراً ما
كذلك الجزء الخاص باسم الفتاة أحلام أرى عكس ما تراه ريما أي أنَّ اسم احلام يليق بفتاة تقضي كل وقتها
في عالم أحلامها الخيالي لذلك جميل أنَّكِ جعلتِ أمر عدم توافق الاسم مع الشخصية مجرد وجهة نظر
من قبل شخصية أخرى فقد يكون للقارئ رأي آخر بهذا الشأن كما حدث معي
هذه الفتاة تهوى تحليل الشخصيات أيضاً , شعرتُ بفضولها الشديد هنا و كأنَّها سخَّرت كل وقتها لمراقبة حركاتكنت محقة بفضولي حولها ... إنها ترسم الآن رسماً آخر ... قد يراه البعض خطوطاً فحسب ... ولكني أرى فيه كلمات عجزت عن الخروج من
فمها ... كان الرسم اليوم وجهاً حزيناً بان بوضوح على النافذة التي تحولت إلى صفحة بيضاء جراء رطوبة جلبتها الأمطار ... إنه عبارة عن
دائرة بنقطتين كالعينين ... ودون فم ... لم ترسم له فماً ... تلك الفكرة حزت في نفسي لأني توقعتها ... لكني لم أتوقع أن تكون حقيقية ... بقيت
تحدق فيه طويلاً رغم بساطته ... أمر ضايقني حتى ما عدت قادرة على الجلوس بهدوء كما تفعل هي ...
زميلتها وسكناتها , كل ذلك في سبيل معرفة ما يدور بداخلها
أراقب بصمت عيني ما رسمتُه ... إمتلئت بالدموع وأخذت تنساب على خديه ... ببطء ... كان ينظر إلي بحزن وتوسل كي أنقذه من حاله هذا ...
عينيه فقط هي ما خطه اصبعي داخل وجهه الدائري ... إنها الشيء الوحيد الذي سيعبر عن ما في داخله ... لا حاجة به إلى الحديث ... مثلي
تماماً ... قد يظنني الكثير مجنونة ... أو فقدت الحس الطبيعي العام ... ولكنه العكس تماماً ... فأنا أدرك الآن أن لا فائدة ترجى من البشر الفانين
... إنهم يختفون الواحد تلو الآخر ... كأمي ... يختفون في أشد الأوقات صعوبة علينا ... لذا قررت ألا أضاعف ألمي ... فأنا لست بحاجة للبشر
كي يساعدوني في أي شيء ... كل ما أحتاجه موجود في خيالي ... أصدقاء ... أم ... أب ... وحتى أخ ... فأخي الذي يصغرني بخمس سنوات ليس
فرقاً ... يوماً ما سيكبر ليغادرنا ... لينشغل بأعماله في جلب لقمة العيش كأبي تماماً ... أما في خيالي ... إنهم دوماً كما هم ... كما أحب أن أراهم
كانت هذه السطور كافية لتشرح وجهة نظرها حول البشر و إن كنتُ وجدتُ عبارة " البشر الفانين " غريبة بعض
الشيء على سياق النص ربَّما للسبب الذي ذكرته الأخت قبلي لكنَّها أدَّت الغرض المراد استخدامها من أجله فقد فهمتُ
أنَّ أهمية البشر في نظرها هي البقاء ...
لكن تغيير شخصية المتكلم هنا أربكتني قليلاً
لم أجد ما أنتقده هنا بصراحة , اخترتِ الجمل بعناية في هذا الموضع... انتبهت إلى رسمي الصغير الذي وجد نفسه على الشباك دون أن يدري لماذا هو هناك ... كانت دموعه التي شقت طريقها المتعرج على وجهه
... وصلت الآن إلى الخندق الدائري الذي أعلن نهاية طريقها ... حافة وجهه ... لم أعد أميز ملامحه بدقة لكثرة القطرات التي غسلتها كمياه
الأمطار المتساقطة في الخارج ... قلت في نفسي بحسرة "انه يبكي على الأقل" ... شيء ما عدت قادرة على فعله ... دموعي لم تعد تلامس خديَّ
منذ ذلك اليوم ... حتى اني لم أبكِ على فقدانها ... لم أستطع ان أردت التعبير بشكل أدق ... حتى أنا أجهل السبب ... عدم بكائي يزيد من وزن
الحجر الذي استقر على قلبي منذ ذلك اليوم ... عدم بكائي حتى هذا اليوم يجعلني أزداد رغبة بالابتعاد عن الناس ... اذ لم يعد أحد يفهم ما يجري
في داخلي ... "ليتني أبكي فقط" ... كلمات ترددت في فكري وأنا أعيد نظري الى المسكين الذي على النافذة ... لا أدري لماذا قد أحسد رسماً خطه
اصبعي عليها ... ليس أي رسم ... انه ليس جميلاً ولا يعبر عن شيء جميل ... مجرد دموع لم تذرفها عيناي فقرر اصبعي ان يرسمها ...
متظاهراً انها مرآة تعكس لي وجهي ... نعم ... فالرسم ليس سوى خطوط دون معنى ... اجتمعت معاً لتكون فكرة أرادها صاحبها ...ليس له حتى
حرية الاختيار لما سيكون عليه ... حزنت لحاله ومررت يدي عليه لمسحه ... فأنا قادرة على تخليصه من حاله ... ولكن ... ماذا عني ... أنا من
وجدت نفسي فجأة دون أم ... أب لا أراه إلا ليلاً وهو متجه إلى سريره بتعب ... أخ مثير للمتاعب ... أكثر ما يضايقني منه ابتسامته ... إنه بحال
أسوأ من حالي ... فقد فقدها في سن الخامسة ... لماذا كل هذا المرح ... انتبهت إلى يدي التي مسحت الزجاج لتظهر ما اختبأ خلفه من منظر ...
كم ضايقني رؤيتها بهذا الوضوح الآن ... تلك الأمطار ... شعرت بالمكان يضيق من حولي حتى ما عدت أطيق الجلوس في الصف لحظة أخرى
تجد الرسم تائهاً على زجاج النافذة لأنها تائهة في أعماق نفسها مثله ربما كان هذا ما أثار شفقتها تجاهه
وصفتِ شعورها بإمعان عندما عجزت عن البكاء , شعور ثقيل بالفعل
لهذا السبب قلتُ أنَّها تائهة فهي لا تعرف ما تريده و تحسد الغيوم لأنَّها قد حسمت أمرها بالبكاء بعكسهاغادرت إلى مدخل المدرسة وفي يدي مظلة كدت أفتحها ... ولكن يدي تجمدت في مكانها ... فقد أدركتُ للتو ما أردتُ فعله ... كنت سأفتحها لأسير
تحت تلك القطرات المزعجة ... ارتخت يدي عنها حتى لامس رأسها المدبب الأرض المبللة ... دفعت نظارتي الى الخلف لتقترب من عيني أكثر
... أردت منها أن تخفي كل ما ظهر في عيني ... لم يدم الأمر كثيراً فقد عاد نظري مرغما إلى تلك الدموع التي لا تتوقف ... أنا أحسدها ... ربما
هذا هو سبب انزعاجي من السير تحتها ... أن أسير تحت دموع غيوم تملأ السماء وغيمتاي لا ترضيان أن تخرجا دموعهما ... أمر مؤلم حقاً ...
هناك من بين آلامي سمعت صوتاً ... اختلف عن كل الضجة التي أحاطت بي ... لقد كان لقطرات مطر تنهمر على شيء ما ... كان وحيداً ...
متألماً لكل قطرة تسقط عليه ... ركزت نظري بين الأعشاب حيث قادتني عيني الباحثة عن مصدر الصوت ... لقد كان كتاباً ... مرمياً في منتصف
الحديقة ... يظهر بصعوبة من خلف حشائش طالت بسرعة كمن يرحب بفصل الآمطار ... أوراقها التي تشبه الأذرع الممتدة ... كان مستقراً هناك
بحزن ... نظرت من بعيد لأجد كل الفتيات يبتعدن نحو باب المدرسة دون ان ينتبهن إلى حال هذا الكتاب ... كنت أبحث عن من ينقذني من مأزق
وجدت نفسي فيه ... ولكن من يسمع وهن منشغلات بالحديث ... أفواههن التي لا تتوقف عن إصدار الكلمات ... دون اهتمام بنوعها ... دون أي
تفكير بوقعها على أناس حساسين مثلي ... نظرت إلى الكتاب ... إلى عدوي اللدود الذي أكرهه من كل قلبي ... نعم عدوي ... لقد كان ذو غلاف
مقوى ... ربما أنقذه من التأثر بالمياه كثيراً ... ولكنه نفس السبب الذي يمنعني أن أمد يدي وأرفعه من مكانه ... إنه السبب في كل ما أنا فيه ...
أمي ماتت تحت كومة من أشباهه وقعت عليها وهي في المكتبة العامة تبحث عن كتاب لتقرأه ... إنه قاتل أمي ... هذا ما أراه كلما نظرت إليه ...
إلى غلافه الذي يزيد وزنه ليضاعف تأثير سقوطه ... لا أعلم الفكرة من ذلك الغلاف السميك حتى الآن ... كتب كثيرة بغلاف ناعم خفيف ...
يراعي هذه النقطة التي لا ينتبه إليها اولئك القتلة ... أعدت نظري إلى الكتاب ... كانت قطرات المطر تتساقط عليه بوقع أكثر شدة ... لو كان له
فم لصرخ متألماً ... لربما نادى على من ينقذه من حاله ... دون تفكير تحركت وامتدت يدي لتفتح مظلتي وتعلقها فوق ذلك الكتاب مانعة المطر
عنه ... لست قاسية القلب كبعض الناس ... ربما يكون كرهي له هائل ... ولكنه في موقف ضعف منعني أن اتجاهله ... للحظات كنت أحدق به
بصمت ... نظرات غاضبة تملأ عيني ... متعجبة من نفسي ... رغم اني تمنيت ذلك كثيراً ... ولكن أن أمتلك خيار معاقبة أو مسامحة عدو أكرهه
من قلبي كان صعباً ... صعبداً لدرجة اني تمنيت ألا أواجه موقفاً مماثلاً أبداً ... بسبب أفكاري تلك لم أدرك إلا متأخرة اني قد وقفت حيث المكان
الوحيد الذي لم أرد أن أكون فيه ... تحت المطر ... أنغام سقوطها على مظلتي أثارت جنوني أكثر ... أردت العودة إلى مكاني ... ولكن ... من
سينتبه لحال هذا الكتاب ان تركته أنا ...
فصَّلتِ هنا ما شعرتُ به قبلاً و تأكدتُ من أنَّها لا تعرف ما تريد , أحسنتِ بوصف شخصيتها المترددة
بالإضافة إلى أنّكِ جعلتِ الكتاب يبدو مثيراً للشفقة حقاً من خلال وصفها له
حائرة بين نارين ... قررت أخيراً أن أرفعه وألقي به تحت المسقف الذي كان يحميني قبل قليل ... أجبرت يدي على الاتمداد للامساك به ... ملمس
غلافه أثار القشعريرة في جسدي ... كان رطباً ناعما كالوبر ... رفعته بيدي رغم ثقله وأنا اقلبه لأقرأ عنوانه ... لقد كان يحمل اسم "بئر
الذكريات" ... وقد حُفر تحت العنوان خطوط ذهبية اللون ... اجتمعت لتكون صورة فتى في العاشرة جالس عند بئر ... ... ظننت انه قصة من نوع
ما ... ولكن أي قصة بهذا الحجم ... ربما ثقله جاء بسبب غلافه ذاك ... ارتجفت يدي وأنا أدرك اني أمسك بما أكره ... أردت الهروب إلى المظلة
الكبيرة لرمي حمل أثقلني ... ألا ان صوتاً أوقفني:
- ألن تقرئيني!
نظرت إلى الخلف حيث الفتيات ظناً مني انه سخرية من احداهن ... ولكني لم أجد أي أحد ... لقد كان المكان خالياً من أي حياة ... حتى الأصوات
التي أزعجتني قبل قليل توقفت ... لقد توقف المطر! ... بل اني أرى أشعة الشمس الذهبية قد امتدت لتغطي برك المياه بانعكاسات براقة ... ألوان
بدت كأجمل ما تكون عليه بعد أن غسلتها مياه الأمطار ... هل كنت أحدق بالكتاب بذلك الاهتمام حتى أنساني مرور الوقت! ...
كان الصمت مسيطراً على المكان الذي كان قبل قليل يعج بأنواع الأصوات ... صوت واحد لازال يحدثني كلما غرقت في أفكاري ... يعيدني إلى
الواقع ... كان يكرر "ألن تقرأيني!" ... كنت مع كل مرة ألتفت حولي باحثة عن مصدر الصوت حتى نظرت إلى الكتاب ... كان رسم الفتى قد تغير
... لم يتغير فحسب ... بل كان ينظر الي ... ألم يكن يعطيني ظهره قبل قليل؟ ... كيف له أن ينظر الي الآن! ... ثم ... رأيت شفتيه المتكونة من خط
تُفتحان ليكرر ذلك الطلب ... أصبت بالرعب مما رأيت ورميت الكتاب على الأرض ... يدي على فمي تكتم صرخة كادت تنطلق منه ... كنت قد
تراجعت عدة خطوات وأنا أنظر اليه بخوف ... لم أصدق ما رأيت ... لقد كان رسماً على الكتاب ... لقد تحدث الي ... بل اني رأيته يتحرك ... كنت
أرتجف ... لا لبرودة نسمات الهواء التي رافقت الأمطار ... ولكن لخوفي مما رأيت بعيني ... دفعت نظارتي إلى الخلف لتستقر في مكانها الصحيح
وأعدت النظر إلى الكتاب ... لقد كان الفتى ينظر الي بعينيه ... انها تتبعني اينما تحركت ... أردت الهروب من المكان بعد أن ازداد ضيقي مما
يجري ولكن صوته جاء ثانية ... "أرجوك لا تتركيني وحيداً هنا" ... الكلمة الوحيدة التي لا أرضاها على أحد لأني أعلم تماما ما تسببه الوحدة
من ألم ... مع كلماته تلك لم استطع إلا أن البي له رغبته ... رفعته عن الأرض بأطراف أصابعي ... كمن هو مجبر على الامساك بشيء لا يريده
... كأن أصابعي تهدد برميه عند أقل تغيير في رأيي ... اتجهت إلى المنزل فوراً لرميه بأسرع وقت ... كما اني تأخرت كثيراً ... ليس لأن هناك من
سيفتقدني ... ولكني اعتدت العودة إلى المنزل مباشرة دون المرور بأي مكان آخر ... لم أكن أدري ما ينتظرني هناك ...
بعد طول تردد تحسم أمرها ثمَّ تتردد مجدداً وتحسم أمرها من جديد , كانت تبدو متذبذبة المشاعر هنا
لم أتوقع أن ينطق الكتاب في ذلك الموضع من القصة أيضاً وسط إمعانها في وصف حالتها النفسية , لقد فوجئتُ
أنا الآخر بتلك الكلمات التي صدرت منه
شعورها بالكراهية تجاه الكتب كان أيضاً متذبذباً فهي تمسكه بطريقةٍ تريد بها رميه
التناقض كان واضحاً في هذا الجزء بين اسلوبها واسلوب الكتاب في الحديث فهي كانت عصبية للغاية بينما ظهرطفل في العاشرة يقفز بمرح هنا وهناك ... كان ينظر الي كلما استقرت إحدى قدميه على العشب الأخضر ... ينتظر مني أي رد فعل ... ولكني كنت
أتجاهله تماماً ... انه يثير غضبي حقاً ... بضجته التي تعلو ... بضحكات يطلقها فمه الثرثار ... صرخت عليه ليتوقف ... لم يطل الأمر حتى وبِّخت
أنا لتعاملي السيء معه ... انه أخي وأنا حرة في التعامل معه ... جدتي ليس لها الحق باعطائي أي أوامر ... أنا لا أراها كثيراً هي الأخرى ...
ولكنها عندما تأتي لتطمئن على حال ابنها واحفادها ... تبدأ بالصراخ علي كلما سنحت لها الفرصة ... لكم اتضايق من زيارتها الآن ... في
السابق كانت الأحب إلى قلبي ... زيارتها تفرحني حتى لا تعود ساقاي قادرة على القفز أعلى للترحيب بها ... ولكن ... ذلك كان كالحلم الجميل
الذي تبخر ...
نعم ... هذا ما كنت أفكر به وأنا أنظر إلى الحديقة الخالية من أي أحد الآن ... يفترض ان أخي منير عاد من مدرسته منذ أكثر من ساعتين ...
كما انه لا يذهب الى أي مكان ويعود فور انتهاء المدرسة ... ولكنه ليس في الداخل ... بحثت عنه في كل مكان ... الحديقة كانت خياري الأخير ...
برؤيتها فارغة ... لم أصدق اني قد أقلق على ذلك الشقي الصغير ... لم أعره اهتماماً منذ ذلك اليوم رغم محاولاته العديدة ... ولكن الآن ... كأنه
هو الآخر تبخر كالحلم ... أرعبتني الفكرة ... أفلت الكتاب من يدي ليسقط على الأرض ... كنت سأعيد البحث في المنزل مرة أخرى ولكن صوتاً
أوقفني:
- لن تجديه في أي مكان ... هذا حال الجميع
التفت الى الكتاب ونظرت الى فتى الخطوط ذاك في محاولة لفهم الكلام الغريب الذي يتفوهه ... كنت غاضبة منزعجة لدرجة ان رغبتي بتمزيقه
إلى قطع صغيرة كانت تشتعل كالنار في داخلي ... قبضت يدي بقوة لتفريغ شيء من غضبي ... كنت مجبرة على تركه يتكلم ليخبرني ماذا فعل
بأخي والآخرين ... طال صمته فقلت بكلمات هادئة تحمل نبرة غشب مكبوت ... أردت حثه على الكلام فليس أمامي اليوم بطوله لانتظار ما
سيقوله:
أحلام - الجميع من؟
- كل من يلتقي بي ... كل من يحيطون بك
أحلام - لم أفهم
- ألم تتعجبي من اختفاء الفتيات اللواتي كنَّ حولك في المدرسة ... لم يكن بسبب انك لم تشعري بالوقت يمر ... ولكنهن اختفين من هذا العالم ...
هذا حال كل كائن حي هنا ... أنت وحيدة الآن ... تماماً كما تمنيت أن تكوني ... لا حاجة بك إلى اخفاء شيء عن أحد ... فلا أحد هنا ... لقد نفذت
لك امنيتك ... وهي امنية كل من التقوا بي ... لا حاجة بهم إلى الاشخاص حولهم ...
أمسكت به بكلتا يدي وقاطعته بصراخ جنوني كرد فعل على ما يقوله:
أحلام - مالذي تتفوه به أيها الرسم الأحمق ... من قال لك إن هذه هي أمنيتي
- لست المسؤول عما حصل لمن حولك ... لذا لا تفرغي غضبك علي ... إنها أمنيتك منذ البداية ... أنا لم أفعل أي شيء ... انقاذك لي من المطر
كان كافيا لاطلاق قدرة ها الكتاب لتحقيق الأمنية التي ملأ قلبك في ذلك الوقت ... ألم تفكري بأن تبتعدي عن الناس كي تمنعي عن نفسك المزيد
من الألم ... الآن وقد تحقق لك ما أردت ... كفي عن التذمر واستمتعي بما حصلت عليه ...
كنت أستمع الى كلماته ويداي بالكاد تحتملان الامساك به ... كنت أراقب حطب المدفأة المشعتل وقد قررت رميه إليها ... أعدت نظري إليه وقلت
كلماتي الأخيرة ...
أحلام - كان علي أن أتركك للمياه لتلتهم أوراقك ... ولكن لا بأس ... فالنار ستفعل المثل
قلت ذلك وقد ارتفعت يدي ستعدادا لرميه إلى السنة اللهب التي بدأت تطبع ألوانها على غلافه السميك ... كانت ترتفع كأيدي تتسابق للوصول إليه
... هنا صرخ:
- هناك طريقة لاستعادة الجميع ... لذا كفي عن التصرف كأن كل شيء قد انتهى!
أحلام - إنها كذبة تريد أن تخدعني بها لتنجو بنفسك
صمت ... لم يتحدث بأي كلمة أخرى ... حتى إنه عاد إلى وضعه الأول ... معطياً ظهره لي ... لم أعلم هل هذا يعني إنه تضايق من اتهامي له
بالكذب أم إنه يحاول كسب المزيد من الوقت لنفسه ... أثار جنوني أكثر وأخذت أهزه بعنف كمن يريد ايقاظ أحد ما ... كأن فعل ذلك سينفع بشيء
مع فتى مكون من عدة خطوط
أحلام - هيه ... تحدث يا هذا ...
(قال بغضب) - لا تخاطبيني بهذا الشكل يا فتاة ... فأنا لدي اسم كما لك أنت
نظرت إليه لحظات وقد عقدت المفاجأة لساني ... تضايق من اتهامي أولاً ... ثم ... غضب لأني ناديته بهذا الشكل! ... أيعقل انه غاضب! ... ولسبب
كهذا! ... أدركت في لحظة إن تلك الخطوط التي تتحدث إلي لها قصة أعمق من بساطة تكوينها المطبوع على الغلاف البني السميك ... لأول مرة
بدأت أنظر الى الك الخطوط كرسم عن شيء حقيقي ... كان يرتدي بنطالاً وقميصاً مكفوفي الأطراف ... بدى كفتى يعمل في مزرعة ... كان شعره
مكون من خطوط بسيطة أشارت إلى شعيراته التي تلاعبت بها الرياح ... يجلس على حافة بئر ... لأول مرة أتساءل لماذا قد يجلس هناك ... ذلك
الفتى ... أنزلت يدي ليرتخي الكتاب وبري الملمس على الارض حيث جلست أنا ... ثم قلت بهدوء كمن يعتذر عن اسلوبه السابق:
أحلام - إذاً ... بماذا أناديك؟ ... ما هو اسمك؟
- لا اعلم اسمي
كان قد التفت إلي بعينين حزينتين فوجئت لرؤيتهما ... ما الذي حصل لهذا الفتى ليحمل نظرة مؤلمة كتلك ... رفعت نظارتي عن عيني بحجة
تنظيفها كي أتوقف عن التحديق بعينه تلك ... ثم قلت:
أحلام - كيف تعلم ان لك اسماً؟
- أنا أعلم فقط
أحلام - كيف لا تعلم ما هو اسمك إذاً؟!
- طبعاً لا أعرفه ... فأنت لم تقرأي حرفاً واحدا منذ رأيتك ... كيف لرسم شخصية أن يعلم اسمه هكذا ...
رسم شخصية ... هل يعني ان هذا الكتاب قصة ما ... والفتى هو بطلها؟ ... يبدو أني نظرت للأمر بعمق لا يستحقه ... كنت أظنه انساناً حقيقيا
محتجزاً داخل الكتاب أو شيء من هذا لقبيل ... قلت باستخفاف رداً على كلامه:
أحلام - هل هذا هو السبب الذي أردتني أن أقرأ الكتاب لأجله!
- وما المشكلة في هذا ... اقرئيه فقط ... لن يصيبك أي ضرر ان فعلت ...
أحلام - آسفة ولكني لن أفتح هذا الكتاب ... انه عدوي ... ولو كان حياً ...
كنت سأقول لقتلته كما قتل والدتي ولكني توقفت عن الكلام وأنا أدرك إنه حي الآن ... بطريقة ما ... حزَّ في نفسي اني تراجعت عن رميه إلى
النار قبل قليل وأنا كنت أتمنى ذلك دوماً ... قاطع أفكاري بكلماته:
- ستجدين الطريقة التي تعيد لك كل من حولك ان فعلت ... ستستعيدين حياتك الطبيعية
البرود و اللامبالاة في معظم كلام الشخصية في الكتاب رغم خطورة موقفه
و لكن ذلك تغيَّر عندما نادته ب يا هذا فقد بدأ الغضب يظهر على الشخصية المطبوعة على الغلاف
بينما أصبحت الفتاة في محل المندهش الذي يريد معرفة ما لا يدركه
أدهشني هذا التبدل في المواقف بقدر ما أعجبني
أظهرتِ لها جانباً لم تكُن تعرفه عن نفسها من قبل , ربَّما أدركت في هذه اللحظة أنَّ ما تقنع به نفسها لا يشبه ما يراهحياتي الطبيعية ... ابتسمت بسخرية من الكلمة التي قيلت ... فأنا لم أردها من الأساس ... لم تكن طبيعية بأي شكل من الأشكال ... كانت كابوساً
وجدت نفسي به ... ولكن ... شيء واحد يوقفني كلما بدأت شعرت بالسعادة اتي لوحدي أخيراً ... كانت صورة أخي منير وهو يلعب في الحديقة ...
فكرة فقدانه كانت تنغص علي فرحي ... كأن كل ما حصلت عليه لا يساوي شيئاً أمام ضحكة من ضحكاته ... لماذا يا ترى ... وأنا من كنت
أتضايق من سماعها لدرجة اني أثور عليه في كل مرة ... منير ... كان اسمه يتردد في رأسي
عقلها الباطن , وصفكِ للمشاعر التي تنبع من لاوعيها كان رائعاً حقاً ..
مذهل أن تتجاوزي مرحلة قراءتها للكتاب بهذا الشكل لنجدها هنا تطبِّق ما عليها فعله لتستعيد من حولها !!كنت أقف منذ فترة أمام الباب الحديدي الضخم الذي أمامي ... كان يتوسط سياجاً مرتفعاً ... له نقوش ملتوية تتداخل مع بعضها ومع الخلفية ذات
الاغصان الجافة بشكل مخيف ... زاد من خوفي مدينة الاشباح التي مررت بها للتو ... إنها لا تشبه مدينتي إلا بمبانيها ... كأن الناس اختفوا فجأة
دون أي أثر ... تقدمت ودفعت الباب ... صريره المعدني الذي شق سكون تلك الليلة ... كان كصافرة أطلقت العنان لضربات قلبي المتوترة الخائفة
... وضعت أول قدم لي على الأرضية الحجرية بتردد ... كانت بيضاء ناصعة غسلتها مياه الأمطار لتظهر عروقها ذات اللون البني الداكن ... كانت
مكونة من أحجار تصطف بانتظام رغم شكلها المتغير ... كانت دلالة على عناية كبيرة وجهد هائل بذل لوضعها بالشكل الذي هي عليه ... أدركت
اني أقف في منزل كان سابقاً لعائلة مهمة ... رفعت عيني إلى الأعلى حيث جدران المنزل ذات اللون الاسود النقي ... كأنه بُني من قطع فحم
سوداء ... شبابيكه تعكس لون أشعة البدر الفضية ... منظره بخلفيته ذات اللون الداكن الصافي - تلك السماء الخالية من أي نجوم - كان مخيفاً
... زاد خوفي نسمات باردة هبت عليّ محركة الأغصان من حولي لتبدو بظلالها كأنها تمتد نحوي للامساك بي ... أغمضت عيني خوفاً واتجهت
بسرعة إلى داخل المنزل ... كان علي تجاوزه للوصول إلى الحديقة الخلفية حيث ذلك البئر ... تجمدت ساقاي وأنا أدرك اني هربت من خوف إلى
آخر أعمق ... إلى منظر لصالة خشبية واسعة ... كان الزمن قد لعب لعبته هنا حتى فقد كل شيء لونه الحقيقي ... كانت تحتوي على بقايا درج
فخم توسط القاعة ... خيوط ضوء فضية دخلت بصمت من الشبابيك لتنير القاعة برفق مبينة مداخل متعددة ملئت الجدران المحيطة ... احترت
أيها توصلني إلى الحديقة الخلفية ... فكرة اني سأجبر على تفقد كل باب من تلك الأبواب منعتني من التقدم خطوة أخرى ... فقد سيطر الخوف علي
حتى تجمدت ساقاي كأنها وضعت في ماء مثلج ... ولكن صوت رين جاء ليقطع علي مخاوفي:
رين- الباب الأول على اليمين يا أحلام
استفقت على صوته واتجهت إلى حيث أشار دون أن أنطق بكلمة ... دفعت بأطراف أصابعي باباً امتلئت بطبقات من الأتربة ... اجتمعت على
مقبض الباب لتكون غلافاً منع يدي الثانية المستقرة عليه من استبيان بحقيقة المعدن الذي كونه ... ضوء ساطع ملأ عيني لحظات ... فتحتها بعد
ان شعرت انها قد اعتادة على سطوع المكان لأجد المزيد من الأشجار الميتة ... المزيد من ذلك التشابك المخيف والأرضيات الناصعة الغريبة ...
في ركن الحديقة رأيت الأرضية ترتفع بلون بني كعروقها لتكون بئراً مسقف بقرميد أسود اللون ... شيء واحد كان بلون مختلف في تلك الحديقة
... كان لون ذهبي لثوب فتاة في السابعة ... تجلس مقابل البئر ... كانت تخفي رأسها بيديها الصغيرتين ... لها شعر بني فاتح قصير ربطته على
الجانبين بشريطة حمراء اللون ... اقتربت منها وأنا أتذكر ما جاء في القصة التي قرأتها قبل قليل ...
تلك الفتاة هي أخت رين الصغرى ... كانت قد شعرت بالذنب انها رمت بلعبة أخيها المفضلة في البئر ... وقد ماتت غرقاً فيه وهي تحاول
استعادتها ... كانت تبكي كل ليلة عند البئر دون أن يعلم أحد هوية الفتاة ولا لماذا تبكي هناك ... اكتشف رين ذلك متأخراً ... أخذ يزور اخته كل
ليلة ... يقف حيث أقف أنا الآن ... يحدق بشبح أخته ... ولكنه لم يستطع يوماً ان يتحدث إليها ... كان يشعر بثقل على قلبه كلما جاء إلى هذا
المكان ... استطاع بعد صراع طويل أن يصل لحلٍ مكنه من التحدث الى أخته ... عندما سألها عن سبب بكائها كانت اجابتها ... إنها لم تستطع
جلب لعبته قبل موتها ... اثر ذلك قرر رين النزول إلى البئر الذي جفت مياهه الآن ليجلب لعبته ويحرر أخته من حزن كان هو سببه
في قعر البئر وبما استطاع رؤيته من الضياء القادمة من الأعلى وجد انواع الأشياء مرمية في قعره ... من نقود معدنية فقدها أصحابها إلى
اكسسوارات أو أحذية وأحجار رميت فيه كمن يتفقد عمق قعر البئر ... كل شيء كان ذو لون بني بسبب الفطريات التي نمت عليه يوما ... ولكنه
لم يجد ما يوحي بانه لعبته ... عاد للتسلق إلى الأعلى ليجد ثغرة في الجدار تحمل هيكلا عضمياً صغيراً يغطيه ثوب ضاع لونه مع الزمن ... هناك
استقرت لعبته ... بين ذراعين عظميتين نحيلتين ... أخرجها من مخبئها الذي لم تستطع مغادته لوحدها ودفنها قرب والديه مع لعبته المفضلة
وهو يقول لشبحها الواقف قربه ... "إنها هديتي لك يا شمس"
أحداث القصة مرت في رأسي كشريط سينمائي وأنا أحدق بالطفلة الباكية ... لا أعلم ما علي فعله ... هل أفعل ما فعله رين في القصة أم ماذا ...
إقتربت منها وقد قررت التحدث قليلاً ... فقد أجد الاجابة على اسئلتي عندها ... جلست قربها وقلبي يدق بصوت ملأ المكان:
أحلام - لماذا تبكين يا شمس؟
التفتت إلي بعينين دامعتين وقالت:
شمس - لقد تركني رين وحيدة هنا ... كان يزورني كل يوم ... ولكنه اختفى الآن ...
كان رين يراقب بصمت دون أن ينطق بأي شيء ... مما دفعني للنهوض وقطع أحد الأغصان ... فتحت شريطاً أبيضاً ابعدت به شعري الأسود
القصير عن عيني ولففته حول الغصن ليكون كرة قماشية كأنها زهرة ... لست بارعة في ذلك ولكني تدبرت أمري ... اقتربت من الفتاة ثانية وقد
وضعت الزهرة التي صنعتها كمؤشر حيث جزء القصة الذي يدفن فيه رين اخته ويخبرها ان لعبته المفضلة هديته لها ... فعلت ذلك كعادة مني
بوضع زهرة كمؤشر حيث وصلت في الكتاب الذي اقرأ ... زهرتي كانت هدية من جدتي ... مجففة بعناية ومكبوسة بين غلاف شفاف للحفاظ
عليها ... قدمت الكتاب لـ شمس وقلت:
أحلام - إنه يزورك كل يوم ... ولكنه غير مكان زيارته فقط يا شمس
فتحت الطفلة الكتاب لتجد رسما لأخيها واقف عند القبر حيث دفنها ... أنارت ابتسامة سعيدة وجهها واحتضنت الكتاب ... ثم اختفت معه ... لم أجد
الوقت لتوديع رين حتى ...
وجدت نفسي فجأة أحدق بالكتاب ذو الغلاف السميك وفي يدي مظلة تحميني من مياه الأمطار ... أستطيع سماع ضجة الفتيات وهنَّ يغادرن
المدرسة ... هل هذا يعني اني عدت حيث بدأت أول مرة! ... هل انتهى كل شيء! ... نظرت إلى الكتاب ... كان الرسم المنقوش عليه لفتى يعطيني
ظهره ... آه ... لقد كان يحاول تذكر اسمه ... تجمدت في مكاني برعب وأنا أدرك اني لا أذكر اسمه ... أنا لا أذكر اسم الفتى ... فتحت الكتاب على
عجل في محاولة لتذكر اسمه ولكني صدمت بحقيقة أخرى ... لقد كانت كل صفحات الكتاب بيضاء ناصعة ... لا يوجد فيها ولا حتى حرف واحد ...
كان الكتاب فارغاً! ... صدمة أسقطت مظلتي من يدي ... قطرات المطر بدأت تتساقط على صفحات الكتاب مما أجبرني على إغلاقه ... نظرت إلى
السماء الرمادية الملبدة بالغيوم وقد خنقتني العبرات ... لقد نسيت اسمه ولا توجد طريقة لتذكره ... هناك لامست وجهي قطرات المطر التي لم
تتوقف ... كانت تنزلق عنه كدموع ... كأنها تذكرني بوجود الدموع لتخرج ما في داخلي من ألم ... شعرت بدمعة دافئة انزلقت من عيني ... حفرت
طريقها على قلبي لا وجهي ... كانت تحمل كل ما اجتمع في داخلي طيلة السنوات الماضية ... دمعة جاءت بسبب وعد لم أعلم اني غير قادرة
على تنفيذه ... لماذا عليه نسيان اسمه في كل مرة ... لماذا ... طنت أشعر بقطرات المطر تسقط على وجهي ... كانت تنغرس كالسكاكين في قلبي
... ولكن ... فجأة فتحت عيني وأنا أنظر إلى قطرات المطر ... ثم تحركت شفتاي لتنطق باسم الفتى "رين Rain" ... غرقت عيناي بالدموع
لتذكري اسمه ... بدأت بالبكاء ... دموعي لم أستطع ايقافها هذه المرة ... كانت هناك ابتسامة راضية غطت وجهي ... شعرت بكل همومي تنهمر
مع كل دمعة جديدة ... أشعر بنفسي أخف وأخف في كل لحظة ...
لم أستطِع التوقف عن القراءة في هذه الجزئية , هي الأفضل في القصة دون منازع و قد تمنيتُ أن
تطول بطريقةٍ ما بعد أن انسجمتُ
مع احداثها بكل حواسِّي , لا زلتُ أشعر بالغرابة ممَّا حدث مع رين بل إنَّ معرفتي لقصَّته جعلته يبدو
أكثر غموضاً من قبل , ربَّما
نهاية قصَّته مع أخته بعد حل مشكلة لا يفترض بها أن تكون حزينة و لكن تخيلي لمشاعره بعد أن فقد
أخته جعلني أشعر بالأسف و
الحزن نيابةً عنه , تصوَّرته وحيداً يجلس بجوار القبور الثلاثة لأفراد عائلته وسط الظلام وبين أشباح
الأشجار المتشابكة الأغصان
لهذا السبب أثَّرت بي قصَّته أكثر مما تأثرتُ بموقف أحلام بعد فقدان والدتها رغم أنِّكِ وصفتِ مشاعرها
بدقَّة و تركتِ أمر تخيل
مشاعر رين في القصة للقارئ رغم قلَّة السطور التي تعني قصَّته , في رأيي كانت قصَّة أحلام
ستكون أكثر تأثيراً لو شرحتِ و لو
ببعض الإيجاز مقدار قربها من والدتها قبل وفاتها و ماذا كان يعني لها وجودها في حياتها ...
ضيقي من الفتاة التي تحدق بذلك الرسم البسيط الذي خطه اصبعها خالياً من أي فم ازداد لدرجة اني نهضت للشجار معها ... ولكني توقفت وأنا
أرى يدها تمر عليه لتمسحه ... ترى هل سمعت ما أفكر به؟! ... بقيت واقفة في مكاني وأنا أراها تتجاوزني كأني غير موجودة أصلاً ... لحقت بها
دون شعور مني ... متجاهلة نداءات زميلتي للذهاب إلى المنزل المهجور ... توقفت أراقبها من بعيد تخشى الدخول تحت الأمطار ... ما قصة هذه
الفتاة ... تصرفاتها تزداد غرابة يوماً عن يوم ... أتمنى لو أدخل إلى رأسها لأفهم ما يجري فيه ... إنها تثير فضولي أكثر من ذلك منزل مهجور
ذو الجدران السوداء ... تعجبت من نفسي ... بل ضحكت عليها ... إلى أين سيوصلني فضولي هذا ... تحركت من مكانها بقفزة سريعة ايقظتني
من أفكاري ... كانت ترفع مظلة فوق جزء ما من الحديقة كأنها تحمي شيء ما ... أردت الاقتراب لأرى بوضوح ولكن يداً ناعمة استقرت بلطف
على كتفي منعتني من التقدم أكثر ... استدرت لبيان صاحبتها ... لقد كانت الآنسة ليلى ... تنظر الي بنظرة غريبة واصبعها مرفوع إلى فمها
باشارة لي بالسكوت ... ثم عادت بنظرها إلى أحلام ... كانت قد أمسكت كتابا بني اللون في يديها لحظات ... تنظر إليه ... ثم رأيت مظلتها تسقط
من يدها وتفتح الكتاب بسرعة ... نظرتْ إلى السماء بحيرة ... أستطيع رؤية دمعة انزلقت من عينيها ... شعرت بأصابع الآنسة ليلى تشتد على
كتفي متأثرة بالموقف ... ثم رأيت شفتي أحلام تتحرك ... تنطق بكلمة سمعتها من فم الآنسة ليلى ... "رين" ... التفت إليها لأجدها هي الأخرى
تبكي ... لم أفهم أي شيء ... ماذا تعني كلمة مطر بالنسبة لهما ... وما سبب تلك الدموع التي ازدادت على وجه كل منهما؟ ... أسئلة وعلامات
استفهام كانت تدور في رأسي بجنون حتى سمعت الآنسة تقول بحزن ...
ليلى - إنها أنسب من يجب أن يحتفظ بك يا رين ... آسفة لأني نسيت ...
سحبتني من يدي وغادرت وهي تقول انها ستخبرني بكل شيء ... حول منزلها ذو الأرضيات البيضاء الناصعة والجدران السوداء ... حول فقدانها
لوالديها فجأة وهي في العاشرة بعد عودتها من رحلة الى خارج البلاد ... الكتاب الذي وجدَته وقصة رين ... إهتمامها غير العادي بـ أحلام
وقرارها بمساعدتها لتجاوز الحالة التي تمر بها ... أخبرتني بكل شيء ... "لماذا تخبريني أنا" سؤال لم أستطع كتمانه في داخلي ولكنها أجابت
ببساطة:
ليلى - لأني رأيت في عينيك اهتماما بها ... يا ريما
تلك كانت آخر كلمات اسمعها منها ... فقد عادت الى تلك البلاد البعيدة ... تاركة كتابها كآخر هدية لأحلام
............................
مسحت دموعي وأخذت أجري إلى المنزل ... أحتظن كتاب رين بين ذراعي كأنه تحفة ثمينة أخشى عليها من الضياع ... لم أهتم بالأمطار ... كل
ما أردته رؤية وجه أخي منير مرة أخرى ... لقد اشتقت له ... اشتقت لابتسامته التي لم أرها منذ خمس سنوات ... فقد أدركت انه يشبه رين في
ابتسامته المزيفة تلك ... فتحت باب المنزل لأجده ينتظرني ...كان ينظر إلي باستغراب .. فقد كانت أول مرة تلتقي نظراتنا منذ خمس سنوات ... لم
أدرك إنه لجأ إلى الخيار الأصعب ... فالابتسامة المزيفة تؤلم أكثر من الصمت وتجاهل للناس ... اقتربت منه متجاهلة كل كلماته المتسائلة
واحتظنته بقوة:
أحلام - أنا آسفة ... منير ... لن أتركك وحيداً بعد الآن
شعرت به يرتجف بين يدي ... علمت انه يبكي ... ولكنه يحاول ان يظل صامتا ليمنعني من سماعه ... كانت ذراعيه النحيلتين قد امتدتا حولي ...
أخذت أمسح على رأسه بحنان وقلت:
أحلام- ابكِ قدر ما شئت يا منير ... لن تشعر بالراحة ان كتمت على دموعك هكذا
عندها علا صوت بكاءه ... بقينا هكذا لفترة لا أستطيع تحديدها ... ولكني شعرت براحة لم أجدها طيلة السنوات السابقة ... رفعت رأسي لأجد
عينين حنونتين ونظرات راضية من جدتي التي تراقب من بعيد ... عندها سمعت منير يسألني عن الكتاب الذي يستقر على ظهره ... انتبهت الآن
اني لم أفلت الكتاب من يدي قبل ان أسحب أخي بين ذراعَي ... نظرت إلى عيني منير الرمادية الجميلة وقلت بهدوء:
أحلام - إنه قصة عن فتى بعمرك اسمه رين ... (وقبل أن يجيب أكملت) ... سأكتبها منذ اليوم ... وستكون أنت أول قرائي ... اتفقنا؟
منير (بسعادة) - اتفقنا
نعم ... فقد قررت ملء الصفحات الفارغة بقصة رين ... كي يَذكره أكبر عدد من الناس ... لا أريد أن ينسى أحد اسمه بعد الآن ... رغم ان قصتي
عن رين ستكون مختلفة قليلاً ... فقد عرفته خارج حدود القصة التي كُتِبت عنه ...
في صباح اليوم التالي كنت أناقش خطة ذهابي مع زميلتي إلى المنزل المهجور ... شعرت باقتراب أحد مني ... نظرت فاذا بها أحلام التي
بادرت بالقول:
أحلام - هل لي أن أذهب معكما إلى ذلك المنزل؟
ابتسمت بسعادة ... فأنا أعرف الآن أسباب طلبها ذاك ... بل أسباب كل ما فعلته معي حتى الآن ... قلت دون أن تزول ابتسامتي:
ريما - نعم بالتأكيد ... (توقفت لحظات وأنا أفكر بسوء ظني بها في البداية وأكملت) آسفة
أحلام- على ماذا؟
ريما - لا يهم ... المهم اني آسفة يا أحلام
أحلام- أنا أيضاً أسفة يا ريما
قالتها بابتسامة تبحث عن السماح ... علمت انها قصدت ما حصل العام الماضي ... تبادلنا الابتسامات ... ثم الأحاديث ... حتى ما عدت قادرة
على الافتراق عنها ...
نعم ... نحن الآن أعز صديقتين
النهاية
إذاً المعلمة كانت نفس تلك الطفلة ذات العشرة أعوام !!, لم يكُن ذلك ليخطر على بالي أبداً
يبدو أنَّ لها قصَّة غريبة هي الأخرى , تمنيتُ لو رويتِها باختصار كما فعلتِ مع قصة رين
لكن يبدو أنَّكِ تفضلين ترك الأمر لخيال القارئ ...
القصة كانت شيِّقة بشكلٍ عام و إن كان التبديل بين شخصية المتحدث بين الحين والآخر يسبب
بعض الإرباك للقارئ , و لكن كان عملكِ رائعاً أنَّكِ استطعتِ توفير المحددات رغم قصر القصة
نسبياً عكس ما فعلتُه أنا في قصتي ..
ربَّما لم يكن تعليقي وافياً لكن في المجمل القصَّة كانت رائعة حقاً و مؤثرة
و خاصةً الجزئية التي تشرح قصَّة رين حتَّى أنَّني تمنيتُ قراءة قصته كاملة
عندما تذكَّرت أحلام ما جرى فيها باختصار
لي عودة بعد ساعات إن شاء الله للرد على نقدكِ الدقيق على قصَّتي و الذي أشكركِ عليه كثيراً
أفضِّل كتابته في جهازي قبل نسخ الرد للمنتدى بعد ما حدث في المرة السابقة
كما أنَّ كتابتي في المنتدى أبطأ منها في ملف وورد أو notpad
رد مع اقتباس

المفضلات