كتعويض عن قصر الفصل السابق.. فصلان معاً هذه المرة وفي نفس اليوم ^^ أتمنى لكم قراءة ممتعة
- مرحبا بك أيها الراهب ماثيو..
كان هذا الكولونيل ليموتسكي مرحبا بزائره الإسباني.. كان بالإمكان استشعار التوتر الذي يسود الجو رغم الألفة واللطف الظاهرَين في التعامل.. فقد كان هنالك اثنان من حرس الدير الخاص يرافقان الراهب ماثيو..
تحدث الراهب بصوته الهادئ قائلا: بل شكرا لك أيها الكولونيل لأنك وجدت وقتا لهذا اللقاء..
- لا بأس أبدا.. فأنا أعرف أن مصالحنا مشتركة.. تريد التحدث عن مجرمي الليل صحيح؟
بدا الراهب مندهشا قليلا لدخول الكولونيل في صلب الموضوع مباشرة.. لكنه عاد إلى هدوءه بسرعة وأجاب: نعم أيها الكولونيل.. أنت شخص عملي جدا..
- إذا ما الذي لديكم من معلومات يمكنكم أن تساعدونا بها؟
هز الراهب ماثيو رأسه بأسى وقال: أخشى أنها ليست بالشيء الكثير.. حوادث الاختفاء تزداد ولا دليل لدينا مطلقا.. كم يؤسفني أن يحدث مثل هذا الأمر في إسبانيا الحبيبة..
بدأ الدمع يتجمع في عيني الراهب.. ولكنه تمالك نفسه وتابع: أريد أن أعرف ما تنوون عمله في مواجهة هذا الإجرام.. سمعت أنكم بدأتم تفقدون عددا من رجالكم كذلك.. إن هذا يؤسفني حقا..
- ليسوا مفقودين بل قتلى.. نجد جثثهم ملقاة في الطرقات حيث كان من المفترض أن يتحرَّوا عن هؤلاء المجرمين..
- كم يؤسفني حدوث ذلك لكم وأنتم الذين تحاولون المساعدة فقط..
بدا الألم جليا في تعابير الراهب وهو يقول: لن يلومكم أحد إذا تخليتم عن هذه القضية.. فنحن رهبان الدير مستعدون لدفع حياتنا ثمنا لجلب السلام لإسبانيا..
نظر الكولونيل إلى الحارسين المرافقين للراهب وكاد يقول: طبعا فأنتم تملكون جيشا صغيرا هنا.. ولكنه تراجع في آخر لحظة وقال بدلا من ذلك: لا عليك أيها الراهب ماثيو.. نحن نرى هذا جزءا من مسئوليتنا أيضا..
رد عليه الراهب: ممتن لهذا حقا..
ساد الصمت قليلا في الغرفة الكبيرة.. ثم نهض الراهب ماثيو فجأة وقال: علي الانصراف الآن.. فليبارك الله أعمالكم..
وخرج الراهب مع مرافقَيه بهدوء كما دخل..
التفت الكولونيل إلى دي دليل ودانييل اللذين حضرا الاجتماع.. وقال: لم يقل شيئا آخر.. شعرت وكأنه كان يريد أن يقول لنا أن ندع قضايا إسبانيا للإسبان وألا نتدخل نحن الفرنسيين بها..
ثم هز رأسه وتابع: هذا لن يحدث فهؤلاء القساوسة يعتقدون أنهم قادرون على فعل كل شيء بمفردهم ولكنهم لم يتمكنوا من معرفة شيء عن جرائم الليل هذه.. هم مجرد تماثيل تقف أمام الناس وتردد أنها هنا لإنقاذ أرواحهم دون أن تفعل شيئا من ذلك في الواقع!
أما في الخارج فكان الراهب ماثيو يراجع في رأسه الحوار الذي دار بينه وبين الكولونيل.. ثم تنهد بتعب وقال لمرافقَيه: هيا يا أبنائي.. أمامنا عمل كثير..
في غرفة مظلمة لا تضيئها سوى الشموع.. جلس مجموعة من الرجال تتراقص ظلال لهب الشموع على وجوههم فيبدون كمخلوقاتٍ أسطورية خرجت من العدم.. كانوا يتحدثون بهمسٍ كالأشباح..
قال أحدهم: وصلتنا معلوماتٌ جديدة.. لن تصدقوا من كان التالي..
رد عليه صوت منخفضٌ مخيف كأنه قادمٌ من أعماق الكهوف: من هو؟
- إنه فينسنت..
بدأ الهمس يرتفع فجأة ويتداخل مع بعضه:
....فينسنت؟
.... تقصد عائلة فينسنت الشهيرة؟
....من كان ليصدق هذا؟
....هل سيكونون الهدف التالي؟
تنحنح صاحب الصوت العميق فساد الصمت مجددا.. ثم خرج صوته البعيد قائلاً: هل المعلومات مؤكدة؟
- أجل بالتأكيد..
- إذاً فقد حُسم الأمر.. هدفنا التالي هو فينسنت!
جلس ألان يرتجف في ظل أحد المنازل.. كان الجو باردا ومخيفا.. وقد طال اجتماع والده ذاك.. شتم ألان نفسه في سره على تهوره.. فها هو الآن وحيد وخائف في الظلام.. لا يجرؤ على الدخول خلف والده.. ولا يعرف كيف يعود إلى المنزل!
سمع أصواتا تقترب من البعيد.. فانكمش على نفسه أكثر.. ودفن وجهه خلف ركبتيه وضمهما نحوه بشدة.. لم يرد أن يسمع أو يرى شيئا.. شعر بالدموع تتجمع في مقلتيه.. ثم أحس بدفءٍ غريب.. دفء شخص ما يقف أمامه مباشرة ويغطيه بظله.. لم يجرؤ على رفع رأسه أو التحرك مطلقا..
ولكنه سمع صوتاً خرج فجأةً من أعماق الصمت: ألان؟؟
وعند تمييزه للصوت رفع رأسه فجأة ليرى والده يقف أمامه مندهشا..
الشعور بالأمان الذي غمر كل ذرةٍ في جسد ألان فاق خوفه من غضب والده.. فانسابت الدموع من عينيه.. وتحشرج صوته بالأنين الصامت.. ثم ألقى بنفسه على والده واحتضنه باكيا..
كان الوالد لا يزال مندهشا وقلقا.. ربت على رأس ألان وسأله: ما الذي تفعله هنا بالضبط؟
ولكن ألان لم يجب.. ازداد القلق المرتسم على ملامح الأب وهو يسأل: هل كنت تتبعني؟
هز ألان رأسه بالإيجاب دون أن يرفع وجهه لينظر في عيني والده.. سأل الوالد بقلق أكبر: وهل سمعت شيئا؟
هز ألان رأسه نافيا هذه المرة.. ساد الصمت طويلا ثم أطلق الوالد تنهيدةً وقال: هيا بنا إلى المنزل..
وهكذا فقد سارا معاً نحو المنزل بصمتٍ تام..
عام 1511 م
وقف رالف يلهث خلف جدارٍ متهالكٍ لمبنى مهجور.. كل ذرةٍ في جسده كانت ترتجف بلا توقف.. وكلما تذكر صورة والده المسجى أرضاً انتفض بشدة وازداد ارتجافه.. لم تعد ساقاه تقويان على حمله أكثر.. فانهار على الأرض وبدأ يبكي ويشنج بصوتٍ مكتوم..
حاول منع صوته من الخروج ولكن صوت شهقاته بدأ يعلو أكثر.. لماذا يحدث له كل هذا؟ تمنى حقا أن يستيقظ ليجد أن هذا مجرد حلم.. ولكن لا.. لقد أصبح رالف الآن.. لقد أخبره والده بهذا سلفاً.. أخبره عن مصيرهم.. وعن المهمة التي سيكون عليه القيام بها.. المهمة الخاصة التي لا يمكن أن يقوم بها أحدٌ غيره..
تحسس اللفافة تحت ثيابه.. بدأ يمسح دموعه بظاهر كفه، ولكن الدموع لم تتوقف عن السيلان..
- توقفي.. توقفي..
كان يتحدث إلى نفسه بصوت مكتوم ويائس.. استطاع أخيراً أن يوقف شهيقه ونشيجه.. إنه يحمل كنزاً عظيماً.. كنزاً ضحى والده بنفسه لأجل إنقاذه.. كنزاً سيكون عليه إيصاله بسلام إلى المكان المطلوب.. هذا ليس وقت الانتحاب.. يجب أن يتحرك..
وبصعوبةٍ بالغةٍ وقف.. أغمض عينيه وحاول أن يزيل من تفكيره كل شيءٍ لا يتعلق بإيصال هذه اللفافة سالمة.. فتح عينيه وقد هدأ قليلاً.. أخذ نفساً عميقاً وعاود التحرك.. كانت ندفات من الثلج قد بدأت في التساقط في تلك اللحظات..
عام 1809 م
بالكاد استطاع ألان النوم في تلك الليلة.. فبعد أن زال عنه خوف مغامرته الليلية تلك.. بدأ خوفٌ آخر يغزو قلبه.. ما الذي سيقوله والده؟ لا شك أنه غاضب عليه كثيرا.. هل سيعاقبه يا ترى.؟.
لذلك كان متوترا جدا عندما حل الصباح.. فتح باب غرفته ببطء.. وأطل منه برأسه أولاً.. ثم خرج يسير بهدوء وبالكاد تلامس قدماه الأرض.. وكم كانت دهشته كبيرة عندما رأى حقيبة كبيرة متربعة وسط غرفة المعيشة..
بقي يحدق فيها دون فهم.. ثم أطلت أمه نحو الغرفة وقد ارتدت ثياب خروجها كاملة..
- أوه هل استيقظت يا ألان؟ إفطارك معد.. هيا أسرع بتناوله يا عزيزي..
كانت تتحدث بصورة طبيعية تماما.. نظر إلى ثيابها مجددا ثم إلى الحقيبة.. وبعد تردد سأل: هل.. هل سنخرج اليوم؟
وببساطة أجابت أمه: نعم..
مرت لحظات قصيرة من الصمت.. ثم تحدثت والدته مجدداً وقالت: حبيبي ألان.. أنا سأذهب لقضاء بضعة أيام في منزل جدك.. أما أنت فسترافق والدك في رحلة ربما تطول قليلاً.. لذلك كن ولداً مطيعاً اتفقنا؟
شعر ألان بقلبه ينقبض.. وبالكاد استطاع إخراج صوته ليسأل: إ.. إلى أين سنذهب؟؟
وهنا ظهر والده من خلف والدته.. بأكتافه العريضة.. وشعره الرمادي الكث.. وعينيه العسليتين اللامعتين.. في الواقع كان ألان يكاد يكون صورةً مصغرةً عن والده..
تحدث والده وقال: سنذهب في زيارة.. ولكن المسافة ستكون طويلة..
فتحت الأم فمها لتقول شيئا ولكنها غيرت رأيها واكتفت بالصمت..
قال الوالد مجددا: أسرع إلى المطبخ وتناول إفطارك فنحن سنخرج حالاً..
- من الذي سنزوره؟
صمت الوالد قليلا.. رافق ولده إلى المطبخ ثم أجابه أخيرا: سنزور العم فنسنت!
وبعد أن اختفيا داخل المطبخ.. تهالكت الأم على ركبتيها وغطت فمها بيدها لتمنع صوت بكاءها الذي كتمته طويلا من الخروج..
خرج ألان من المنزل برفقة والده الذي لم يكن يحمل سوى حقيبة صغيرة فوق كتفه.. كانت هذه التطورات المفاجئة قد أنسته موضوع مغامرته الليلة تماما.. كان عقله مشغولا بهذه الزيارة المفاجئة..
هناك علاقةٌ غريبةٌ تربط عائلته بعائلة العم فنسنت.. مع أن عائلة هذا الأخير غنية ومشهورة.. بينما عائلته هو عادية ومغمورة.. فما الذي صنع هذه العلاقة العجيبة بين العائلتين؟؟
كان والد ألان يصف العم فنسنت أحيانا بـ"والده الروحي" دون أن يفصح عن سبب ذلك.. وكانوا يزورونه أحياناً –وإن كانت تلك الأحيان قليلةً جداً- رغم أنه يعيش بعيداً خارج حدود المدينة..
ولكن لم هذه الزيارة المفاجئة دون سابق تخطيط؟ ولماذا هو ووالده فقط؟ والأهم من هذا كله.. لماذا بالضبط يذهبان سيراً على الأقدام؟؟!!
طال المسير بألان ووالده.. كانا يقطعان طرقاً وعرةً وملتوية.. واشتد التعب بألان بعد سيرهم لساعات طوال.. فقرر والده أخيرا أن يستريحا.. جلسا تحت ظل شجرة على جانب الطريق.. وأخرج الوالد زجاجة ماء ناولها لألان الذي بدأ يشرب بتعطش شديد..
تأمل الوالد ألان وفي عينيه نظرةٌ حزينة.. تحدث بعد صمتٍ دام دقائق قائلا: عزيزي ألان.. هنالك أمر خطير لا تعرفه.. ولكنك حقا يجب أن تعرفه.. أعني.. لا يمكنك الاستمرار بعدم معرفته! يا إلهي.. ما الذي أقوله..!
بدا الوالد مشوشاً ومضطرباً وهو يمرر يده بارتباك في مقدمة شعره.. مما أثار اهتمام ألان وقلقه.. فهذه أول مرة يرى فيها والده بهذه الحالة..
تحدث الوالد مجددا ولكن ببطء وبتركيز أكبر وهو يحدق في الفراغ أمامه: أنا لا أدري كيف أشرح لك الأمر تحديدا.. فأنت كبرت على الحقيقة التي تراها دون أن تعلم أنها كلها مجرد وهم! أوه.. عزيزي ألان..
واستدار فجأة لينظر في عيني ألان مباشرة: سنتحدث عندما نصل إلى العم فينسنت.. فربما تفهم الأمر بسهولة أكبر عندها.. ولكني أريدك أن تعلم جيدا أنك تبقى أنت وإن تغيرت الأسماء والظروف.. وأريدك أن تعلم أني أحبك.. أحبك حقا.. وسأبقى أحبك مهما حدث!
- القمر جميلٌ الليلة!
قالها دانييل وهو يحدق إلى البدر المكتمل المتربع في كبد السماء.. يقولون أن الدماء تنشط حين يكتمل البدر.. ابتسم دانييل لنفسه عندما فكر بهذا وتمتم: إنني أهذي..
ثم قال بصوتٍ مرتفع وابتسامةٍ عريضة: لا بدر كبدركِ يا فرنسا! لا بدر كبدرك!
اختفت ابتسامته فجأة وتابع سيره وحيدا في الطريق.. ما الذي يفعله هنا؟ لقد تم تجنيده ضمن ضباط الحملة الفرنسية على إسبانيا ولكنه لم يرغب بهذا يوماً.. كل ما رغب به هو البقاء على أرض فرنسا وتحت سمائها.. وبعدها لن يهمه شيءٌ في هذه الدنيا.. ولكن ما خفف عنه قليلاً هو وجود صديقه دي ليل إلى جانبه.. فكر دانييل بأن دي ليل وإن كان جادا أكثر من اللازم وصريحاً أكثر من اللازم كذلك إلا أنه يبقى صديقا جيدا! صديقا حقيقيا!
وعندما وصل بأفكاره إلى هنا قرر المرور بسكن صديقه ليسهر معه الليلة ويحدثه بحنينه إلى فرنسا.. سيغضب منه حتما لمجيئه في هذه الساعة المتأخرة.. وربما يهزأ منه بلسانه السليط.. ولكنه بالتأكيد لن يطرده وسيستمع إليه بصبر.. ابتسم دانييل وهو يفكر بهذا ولم يلحظ الظلال الخفية التي كانت تقترب منه..
كان ألان يرتجف برداً وخوفاً وهو متعلق بكم والده النائم.. لماذا ينامان هنا في هذه الأحراش؟ لقد كان في كلام والده اليوم ما يكفي من الخوف.. فلماذا يزيد ذلك الآن بالمبيت في العراء حيث البرد القارس وعواء الذئاب المرعب؟!
وانطلق هنا عواء ذئبٍ جديد فانكمش ألان على نفسه أكثر وازداد تعلقه بوالده، ففتح الوالد عينيه وقال وهو يقمع تثاؤبه: ما الأمر يا ألان؟ لمَ لم تنم بعد؟ ألم تكن متعباً من السير طيلة اليوم؟
- ا.. الجو بارد..!
ولم يتمكن من الاعتراف لوالده بالرعب الذي يشعر به! نهض والده وقال: ولكنك ترتدي معطفاً ثقيلاً! لا بأس إذاً.. خذ هذا..
ونزع معطفه الصوفي ووضعه حول ألان قائلا: هذا سيُشعرك بالدفء.. هيا نم الآن..
واستلقى الوالد مجدداً.. نظر ألان إلى والده النائم بقميص خفيف.. فشد عليه المعطف أكثر.. وشعر بالدفء يغمره.. لم يكن هذا دفء المعطف.. بل كان دفئا من نوع آخر.. دفئاً نابعاً من أعماقه.. شعر ألان بالأمان.. واستلقى إلى جوار والده.. ويده متشبثةٌ بطرف قميصه..
عندما انعطف دانييل في أحد الطرق الفرعية.. استطاع أن يلمح الظل الذي يتبعه.. بدأ يتوتر.. إنه لا يحمل سلاحه!
حاول أن يسرع بخطواته أكثر.. ولكنه بدأ يسمع الوقع الخافت للخطوات المتسارعة خلفه.. اثنان؟ أو ربما ثلاثة؟ لكنهم بالتأكيد أكثر من واحد.. ولو كانوا مسلحين بالبنادق فستكون هذه هي النهاية حتماً! انعطف مجدداً محاولاً تضييع ملاحقيه ولكنهم كانوا أقرب من أن يضيعوا فقد انقض أحدهم عليه بقوة طارحاً إياه أرضاً..
كان المهاجم يحمل سكيناً ويحاول جاهداً غرزها في صدر دانييل.. وكان دانييل يصدّ الذراع الممدودة نحوه بكل ما أوتي من قوة..
أفلتت من بين شفتيه شتائم عديدة.. ركل مهاجمه بقدمه فأبعده عنه.. ولكن ظلين آخرين هاجماه مجدداً.. ثبتاه تماماً بالأرض..
لم يعد يقوى على التحرك.. لمح البدر المتربع وسط السماء.. تأمله للمرة الأخيرة ثم همس: حقاً.. لا بدر كبدركِ يا فرنسا!
شعر بشيءٍ ساخنٍ يخترق جسده.. وأظلمت الدنيا في عينيه..


رد مع اقتباس

المفضلات