الحلقة الرابعة: شكوك عميقة


فوجئنا؛ وقتئذ؛ بالأستاذ يدخل كالعاصفة لينادي باسمي، ثم يبدأ بالسباب والكلام الجارح، وكل ذلك لأنني (أتغابى) وأدعي أنني لا أفهم اللغة الفرنسية، بينما أنا (مبدع) بها! والدليل أنني أخذت 32.5 من 100 في المسابقة!
ولا أدري كيف تعني علامة منخفضة تحت المعدل بهذا الشكل (الإبداع)، لكن الغيظ الحقيقي كان في ما أعلنه الأستاذ، لقد (شكَّ) حضرة جنابه أنني لجأت إلى الاحتيال في عدد من الاختيارات، فشطبها جميعًا، وهي صحيحة، ولولا ذلك لكانت علامتي 60 من 100، وهناك احتمال واحد، لم يحمِّل الأستاذ ضميره احتسابه خطأ بالكامل، فقد يكون احتيالًا وقد لا يكون، فمنحني نصف علامة عليه (ليزول الغموض من أين أتى هذا النصف)!


والحقيقة أن هذا الأستاذ محق في شكوكه(العميقة) (المدهشة) هذه! فأنا؛ مثل كل رفاقي؛ لم نفهم شيئًا إطلاقًا من كل الجمل المكتوبة أمامنا، لكني لم ألجأ إلى (الاحتيال) كما يدعي، بل اخترت الإجابات عشوائيًا، أما كيف رأى أن 32 إجابة منها صحيحة بالكامل؟ و27 إجابة احتيال؟ وإجابة تحتمل الأمرين؟ فهذا ما لم أفهمه ولم أحاول أن أفهمه حتى، لأنني _ جاء دوري في الشك العميق_ شككت أن يكون الأستاذ نفسه يفهم ذلك!
ولم أكن المحور الأساس هنا، فما نالني من السباب، نال زميلي أضعافُه، وزميلي هذا كان الأول على ترتيب الصف، وكان جيدًا في اللغة الفرنسية، لكنه؛ عند هذا الأستاذ؛ تساوى بنا تمامًا، زميلي (فهم) بعض الجمل في المسابقة، فاختار إجابات صحيحة، ونال 50 من 100، وبالتالي حصته من السباب كانت أعلى!
وكذلك شكَّ الأستاذ شَكَّه العميق، أن رفيقي قد (احتال) في 15 إجابة، فشطبها، وإلا لنال 65 بدلًا من 50، وأعتقد أن رفيقي كان يشكر الله تعالى، كما فعلت أنا، لهذه الشكوك المدهشة، وإلا لنالنا من السباب ما لا تكفي حصة واحدة لسماعه، بل لإلقائه على مسامعنا من قبل الأستاذ.
ومع أن السباب عمل غير أخلاقي وغير تربوي، إلا أن المنطق انعدم عند الأستاذ تمامًا، فلو أراد أن يسب ويشتم، فإن أمامه من قدموا المسابقات بيضاء كما هي، ولكنه أخذ يمتدحهم لأنهم نالوا الصفر بكل (ضمير) و(شرف) ولم يكونوا مثلنا (غشاشين)، وقد صمَّ أذنيه عن حسراتهم الأليمة: ليتنا (خرَّفنا) مثل رفاقنا لننال بعض العلامات!
والفرحة لا تكتمل، فاللغة الفرنسية لها 60 علامة لا 100، والأستاذ قسم العلامة على 5، لتصبح علامتي 6 من 20 (لم يعترف الأستاذ بأنها تصبح 6،5، ولا أعرف لماذا)؟ ولكم بَدَا لي أن هذه العلامة من عالم الخيال والخرافات، لأنها تفوق معدلي التعيس الشهر الماضي بأضعاف مضاعفة، وفارق كبير بين 6/20، و2.5/60، مع أن هذه الست علامات غير صافية فهناك مجال آخر، منحنا الأستاذ جميعًا عليه صفرًا، وبالتالي العلامة ستصبح 3/20، نضيف إليها علامة من هنا وعلامة ونصف من هناك، لأجد أنني متقدم بثلاث علامات (مثل ما هي) في المعدل العام عن الشهر الفائت!

وبهذا الأسلوب مرَّت تلك السنة التعيسة، لم يَعُد الأستاذ إلى أسلوب المسابقات التي تحتمل الإجابتين، وذلك بسبب (شكوكه العميقة) التي تكاد ترقى إلى مستوى التأكد واليقين، بأننا غشاشون محتالون، لا أمان لنا! ولا أفهم حقيقة، صف من شعبتين، أي أن مجموع الطلاب كان أكثر من خمسين طالبًا، اثنان أو ثلاثة فقط من الخمسين حاولوا الإجابات، و(يشك) الأستاذ أنهم احتالوا في الإجابة وغَشُّوا بها (لا تسألوني عَمَّن غششنا)، فيمتنع الأستاذ عن إعادة هذا النوع من المسابقات طيلة السنة الدراسية.

لقد تجاوزنا تلك السنة بصعوبة شديدة، وشبح الرسوب يحوم حولنا، ولم نصدق أننا ترفعنا إلى الصف الأعلى، ولكن... هناك عقبة كبيرة رغم نجاحنا، وتهددنا بإعادة الصف، لقد وقعنا في فخ (الإكمال)، بسبب علامتنا المنخفضة في اللغة الفرنسية، وكان لا بد من امتحان (إكمال) بداية السنة الدراسية اللاحقة، فإما أن ننجح به ونترفع إلى الصف الأعلى فعليًا، وإما أن نرسب ونعيد الصف، وضاعت الإجازة الصيفية كلها في الدرس، مع أننا لم نكن نعرف ماذا ندرس، وهل ما ندرسه سيفيدنا أم لا، وحان وقت امتحان الإكمال، ويا للكارثة! أسئلة لم نسمع بها في حياتنا قط! أدركنا أننا سنعيد السنة الدراسية، وملأ اليأس قلوبنا، ولكن المعجزة حصلت، من غير أن نتوقع أو ننتظر... لقد أتى أستاذ آخر في المدرسة إلى صفنا، قبل أن نسلم أوراق الامتحان ونخرج وقد ضمنا الصفر المدوي، ليطلب من أستاذ المادة أن يكلم المدير، وما كاد أستاذنا العبقري يخرج، حتى انطلق الأستاذ الآخر يكتب لنا الحلول بسرعة كبيرة على اللوح، ونحن ننقلها خلفه، ثم أسرع يمحو اللوح ويخرج قبل أن يرجع الأستاذ الأول!
ومع ذلك، وضع لنا الأستاذ صفرًا، وذلك لأنه (شَكَّ) بأننا قد غششنا عن بعضنا في هذه الدقائق الثلاث التي خرج بها من الصف!

تابعوا معنا