لم تَتَرَبَّ أختي من خطئها السابق، وفشلها الذريع في إعداد البوظة، رغم كل محاولاتي (الإصلاحية) لها آنذاك، فقرَّرت أن (تتحفنا) بقالب من الكاتو، لم نَذُقْ مثل طعمه الرائع المذهل من قبل، حتى أننا سنأكل خلفه أصابعنا بكل تأكيد، وهذا (التواضع) مما تصف به أختي عملها الفذ هذا، مع أنها لم تكن قد فعلت أي شيء بعد، ولكنها تثق في نتائجها وفي أنها تجيد صنع الكاتو، أكثر من اللازم!الكاتو المشوي!
وكعادتي أخذت أراقبها من بعيد، وأنا أراها تضع أمامها علبًا متعددة، وبعض البيض، وما إلى ذلك، ولا أدعي أنني كنت أعرف ما هي هذه المكونات العالمية التي ستستخدمها، لكني كنت أعرف، وأرى رأي العيان، أنها تحمل في يدها ورقة تحتوي تعليمات صنع الكاتو، وبالتالي لن يكون النجاح من إبداعها، وما هي إلا مقلدة لا تجيد الابتكار الشخصي، ويجب أن أساعدها بكل خبراتي الفذة في هذا المجال!
وبدأت أختي عملها، وأنا أراقبها ممتعضًا! هناك علبة بين هذه المكونات لم يَرُقْ لي شكلها ولا وجودها لسبب ما، وقرَّرت أن أبعد أختي من المطبخ قليلًا، ولكنْ، لا! ليس الآن! لو نفذت خطتي الآن فستنتبه بعد ذلك إلى ضياع العلبة، ويجب أن أتركها تعمل قليلًا أولًا، ولكنْ، لا! ما هذا؟
مدت أختي يدها إلى هذه العلبة (التعيسة) فاندفعت نحوها هاتفًا بحماسة وانفعال، ولا أدري كيف تمكنت من إجادة دوري إلى هذا الحد:
_ أ... أ... أسرعي، بسرعة، أسرعي، بسرعة!
صاحت (المسكينة) مرعوبة:
_ ماذا هناك؟ ماذا حدث؟
أخذت ألوح بيديَّ، متظاهرًا بأنني لم أعد أستطيع الكلام، قبل أن أتمتم بأحرف متقطعة:
_ الـ... ها... تف!
فوجئتُ بأختي تركض مسرعة بالفعل، ما جعل عينيَّ تتسعان ذهولًا وإعجابًا مني بعبقريتي النادرة، ونجاحي في خدعتي إياها مرة ثانية، فنحن ليس لدينا هاتف بعد!
ولم أضع الوقت نهائيًا، بل حملت العلبة التي كرهتها وانسحبت مسرعًا، وأنا أضحك بأعلى صوتي، لا لنجاح خطتي، بل لأن صوت أختي كان يتردد من الغرف الداخلية، وهي تصرخ بصوت عالٍ:
_ أين هو؟ أين هو؟
أخذت أفكر، عمَّ تبحث أختي هذه يا ترى؟ ومن هذا الـــ(هو) الذي تسأل عنه؟
_ من هذا الـ (هو) الذي تسألين عنه؟!
ما شاء الله! يبدو أن أفكاري بات لها صوت مسموع! ولكن يبدو كذلك أن أفكاري تكلمت من قبل من دون أن أنتبه، فصوت أفكاري مألوف فعلًا، وربما يدل هذا على أنني عبقري فاق الزمان وتخطى حدود المكان، و...
_ ما هذا؟ تمزحين؟
آآآخ! هذا ليس صوت أفكاري! إنها إحدى أخواتي الأكبر تسأل أختي (الضحية المعتادة) إن كانت تمزح، ويبدو أن الأخيرة قد (أفاقت) أخيرًا إلى نفسها، و(فهمت) أنه لا يوجد لدنيا هاتف، فصرخت بصوت كاد يزلزل أركان البيت:
_ الكاااااااتو!!
صاحت بها أختها ساخرة:
_ نعم نعم؟ تبحثين عن الكااااااااااتو في غرف النوم؟؟
أسرعت المسكينة إلى المطبخ، وهي تهتف بغضب:
_ كل مرة تخدعني هذه الخدعة؟ ألم تسأم منها بعد؟
أجبتها من حيث أجلس في غرفة الصالون المتسعة، إجابة مؤثرة فعلًا:
_ هاهيهاهاهاهاهاها!
صرخت محنقة:
_ لن أرد عليك!
يا للخسارة! يا للحسرة! يا للألم! إنها لن ترد عليَّ! يبدو أنني سأحزن على نفسي إلى درجة أنني لن أتغدى اليوم ولا غدًا ولا بعده!
انسحبتُ مبتعدًا بهدوء، فليس وقتي متفرغًا بأكمله لأختي، يكفيني أنني ضحيَّتُ ببعض وقتي الثمين لأجل مساعدتها، كنت أشعر ببعض التأثر لشهامتي النادرة، ومضى بعض الوقت قبل أن يرتفع رنين ما، وفوجئنا بأختي تهتف بانفعال:
_ لقد رنَّ جرس الفرن! الكاتو انتهى، انتهى، انتهاااااااا!
وأسرعت تفتح الفرن، وهي تنادينا لنتجمع ونأكل ما لم نأكله من قبل قط في حياتنا، و...
انطلقت شهقتها بعنف، فأسرعنا جميعًا إليها، لنرى أن باب الفرن مفتوح، وفي يد أختي صينية، ولكن ليس هناك كاتو، وارتفعت أسئلة إخوتي المحتارة تتوالى:
_ ماذا حصل؟
_ هل أكلتِ القالب كله خلال ثانية واحدة؟
_ ما شاء الله!
_ مغارة علي بابا جديدة!
_ بل أنتِ...
صاحت تقاطعنا غاضبة:
_ هذا هو قالب الكاتو!
أخذنا ننظر في الهواء والأرض، وفي كل مكان، وجال في خاطرنا أن أختي أصيبت ببعض الجنون، والله أعلم! ولكن، يبدو أنها لم تُصَب به بعد!
لقد أشارت إلى الصينية بأصابع مرتجفة، لنحدق بدورنا في ذهول تام... قالب كاتو ملتصق بالصينية بشكل غريب جدًا، وحجمه ضئيل إلى حد غريب، كأنما هو قطعة كاتو أو اثنتين وتم تحميصهما وخبصهما في الصينية! وبـ(امتعاض) شديد قلتُ لأختي:
_ يبدو أنكِ فاشلة في كل شيء تقومين به، ما هذا يا بنت؟
صاحت معترضة:
_ أنا؟ ألست أنت من وضع لي الملح من قبل في البوظــ...
قاطعتها ساخرًا:
_ وماذا عن الآن؟ هل وضعتُ لكِ الملح في الكاتو حتى تقلص إلى هذا الحد وانخبص مثل الخبيصة في قعر الصينية؟
لم تُحِرْ أختي أية إجابة من أي نوع كان، بل أخذت تتلقى لوم أخواتها بصمت، وظننت أنها قد (استحت) على دمها لفشلها، ولكننا فوجئنا بها تفتح الخزانة هاتفة:
_ لقد وضعتُ كل المكونات المطلوبة كما قرأتُ في الورقة التي...
واتسعت عيناها مع استطرادها:
_ ولكنْ، هناك علبة ناقصة! أنا متأكدة من ذلك، ولكن كيف؟ أنا لا أتذكر أنه...
قاطعتها بحزم:
_ هناك علبة لا أعرف ما هي، ولا ما فيها، ولا فيمَ تُستخدَم، على الطاولة في غرفة الصالون، وربما كانت...
أسرعت المسكينة إلى هناك، من دون أن تفكر في أن تصبر قليلًا حتى تسمع كل كلامي لها، والحقيقة أنني أنا نفسي لم أكن أعرف ما الذي سأقوله بعدها!
وفي هذه اللحظات مدت إحدى أخواتي يدها تمسك بقليل من الكاتو (الدولي) هذا، لتتذوقه بحذر، قبل أن تطلق صرخة قرف مدوية:
_ يااااااااااااااء!!
وعادت أختي، وفي يدها العلبة (الضائعة)، وهي تهتف في حيرة تامة:
_ متى وضعتُها هناك؟ من دونها الكاتو لا يُعطِي لنفسه حجمًا!
صاحت بها المسكينة الأخرى، تلك التي تذوقت الكاتو:
_ ما هذا يا بنت؟ صنعتِ قالب كاتو أم دواليب سيارة مشوية؟؟
وانهالت أخواتي عليها باللوم مرة أخرى، فيما انسحبت أنا بهدوء، شاعرًا بالحسرة على أختي التي لا تتعلم من أخطائها، وما تزال تصر على أنها عبقرية في أمور الطبخ والحلوى، وهي التي لا تعرف كيف تقلي حبة بطاطا، أو تقلي بيضة واحدة!
ولكن أختي لم تستسلم رغم كل الفشل المتوالي التي تمرُّ به...
لقد قررت أن تصنع الكاتو مرة أخرى، بعد مدة بسيطة!!
وكان لا بد لي من أن (أساعدها) كالمعتاد!
فإلى الحكاية القادمة إن شاء الله، ولن تقتصر فقط على (إبداعات) أختي في الكاتو، ولا على (إبداعاتي) في معاونتها في ذلك!
وتلكم حكاية أخرى!
عمر قزيحة: 11_11_2019م: الساعة: 5:02 دقيقة مساء.

رد مع اقتباس

المفضلات