بسم الله الرحمن الرحيم
(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آلة وصحبة
أجمعين أما بعد :
قبل أيام قرأت كتابا عن سير التابعين
قرأت قصة لتابعي جليل يدعى ربيعة الرأي
وقد نالت على إعجابي
فأحببت أن أشارككم بها
أترككم مع القصة
يقول :
في ذات عشية من عشيات الصيف المقمرة ، بلغ المدينة المنورة فارس
في أواخر العقد السادس من عمره .
ومضى في أزقتها راكباُ جوداه قاصدا داره .
وهو لا يدري إن كانت داره ما تزال قائمة على عهده بها ، أم أن الأيام قد
فعلت بها فعلها ...
فلقد مضى على غيابه عنها ثلاثون عاما أو نحوا من ذلك .
وكان يسائل نفسه عن زرجته الشابة التي خلفها في تلك الدار
ما فعلت؟...
وعن جنينها الذي كانت تحمله بين جوانحها :
أوضعته ذكراً أم أنثى ؟.. أحي هو أم ميت ؟
وإذا كان حياً فما شأنه ؟.
وعن ذلك المبلغ الكبير الذي جمعه من غنائم الجهاد ، وتركه وديعةً
عندها حين مضى مجاهداً في سبيل الله مع الجيوش الإسلاميةالمتوجهه لفتح
( بخارى ) و ( سمرقند ) وما جاورهما ...
ولقد كانت أزقة المدينة وشوارعها ما تزال عامرة بالغادين والرائحين ..
فالناس لم يفرغوا من صلاة العشاء إلا وشيكاُ ، لكن أحدا من هؤلاء
الناس الذين مر بهم لم يعرفه ، ولم يأبه له ، ولم يلتفت إلى جواده المطهم ،
ولا إلى سيفه المتدلي من عاتقه ...
فسكان المدن الإسلامية كانوا قد ألفوا منظر المجاهدين الغادين إلى
القتال في سبيل الله ، أو العائدين منه .
لكن ذلك كان سبباً في إثارة حزن الفارس وازدياد وساوسه .
وفيما كان الفارس سابحاً في أفكاره هذه ، ماضيا يلتمس طريقه في تلك
الأزقة التي عراها التغيير .. وجد نفسه فجأة أمام داره ..
وألفى بابها مشقوقاً ، فأعجلته الفرحة عن الإستئذان على أهلها ...
وولج من الباب وأوغل في صحن الدار ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سمع رب الدار صرير الباب ، فأطل من عليته فرأى في ضوء القمر
رجلاً متوشحاً سيفه متقلداً رمحه ، يقتحم عليه في الليل داره .
وكانت زوجته الشابة تقف غير بعيد عن مرمى بصر الرجل الغربي.
فهب مغضباً ، ونزل إليه حافياُ وهو يقول :
أتتستر بجنح الليل يا عدو الله ، وتقتحم منزلي ، وتهجم على حريمي ؟!.
واندفع نحوه كما يندفع الأسد الضاري إذا أريد عرينه بسوء ..
ولم يدع له فرصة للكلام ..
وتواثب كل من الرجلين على صاحبه ، وعلت جلبتهما ، وارتفع
ضجيجهما ، وتدفق الجيران على البيت من كل صوب .
فأحاطوا بالرجل الغريب إحاطة الغل بالعنق ، وأعانوا جارهم عليه ..
فأمسك به صاحب الدار وأحكم قبضته على خناقه وقال:
والله لا أطلقك - يا عدو الله - إلا عند الوالي .
فقال الرجل: ما أنا بعدو الله .. ولم أرتكب ذنباً ..
وإنما هو بيتي ، وملك يميني ، وجدت بابه مفتوحاً فدخلته ...
ثم التفت إلى الناس وقال :
يا قوم .. اسمعوا مني ..
هذا البيت بيتي .. شريته بمالي ..
يا قوم .. أنا فروخ .
ألم بيق في الجيران أحداً يعرف فروخاً الذي غدا منذ ثلاثين عاما
مجاهداً في سبيل الله ؟!.
وكانت والدة صاحب الدار نائمة ، فاستيقظت على الضجيج ، وأطلت
من نافذة عليتها ؛ فرأت زوجها بشحمه ولحمه .
فكادت تعقد الدهشة لسانها ..
لكنها ما لبثت أن قالت :
دعوه ...
دعه يا ربيعة ...
دعه يا ولدي ... إنه أبوك ...
انصرفوا عنه يا قوم ، بارك الله عليكم .
حذار يا أبا عبد الرحمن ...
إن هذا الذي تتصدى له ولدك وفلذة كبدك .
فما كادت كلماتها تلآمس الآذان حتى أقبل فروخ على ربيعة ، وجعل
يضمه ويعانقه ..
وأقبل ربيعة على فروخ ، وطفق يقبل يديه وعنقه ورأسه ..
وانفض عنهما الناس ...
ونزلت أم ربيعة تسلم على زوجها الذي ما كانت تظن ظناَ أنها ستلقاه
على هذه الأرض بعد أن انقطعت أخباره مدة تقارب ثلث قرن من الزمان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
جلس فروخ إلى زوجته ، وطفق يحدثها عن أحواله ..
ويكشف لها عن أسباب انقطاع أخباره ..
ولكنها كانت في شغل شاغل عن كثير مما يقول ، فلقد نغص عليها
فرحتها بلقائه واجتماع شمله بولده ، خوفها من غضبته على إضاعة كل
ما أودعه إليها من مال ... وكانت تقول في نفسها :
ماذا لو سألني الآن عن ذلك المبلغ الكبير الذي تركه أمانة عندي ،
وأوصاني أن أنفق منه بالمعروف ؟!..
ماذا سيكون منه لو أخبرته أنه لم يبق منه شيء ؟!.. أيقنعه قولي له :
إنني أنفقت ما تركه عندي على تربية ابنه وتعليميه ؟..
وهل تبلغ نفقة ولد ثلاثين ألف دينار ؟ !.
أيصدق أن يد ابنه أندى من السحاب ، وأنه لا يبقي على دينار
ولا درهم ، وأن المدينة كلها تعلم أنه أنفق على أخوانه الآلاف المؤلفة ؟.
وفيما كانت أم ربيعه غارقة في هواجسها هذه ، التفت إليها زوجها
وقال : لقد جئتك - يا أم ربيعه - بأربعة آلاف دينار ...
فأخرجي المال الذي اودعته عندك لنضم هذا إليه ، وونشتري بالمال كله
بستاناً أو عقاراً نعيش من غلته ما امتدت بنا الحياة .
فتشاغلت عنه ،ولم تفده بشيء.
وأعاد عليها الطلب وقال : هيا ..أين المال حتى أضم إليه ما معي ؟.
فقالت : لقد وضعته حيث يجب أن يوضع ...
سأخرجه لك بعد أيام قليلة إن شاء الله .
وقطع صوت المؤذن عليهما الحديث ... فهب فروخ إلى إبريقه
فتوضأ.
ثم مضى مسرعاً نحو الباب وهو يقول : أين ربيعة ؟.
فقالوا : سبقك إلى المسجد منذ النداء الأول .
ولا نحسب أنك تدرك الجماعة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
بلغ فروخ المسجد؛ فوجد أن الإمام قد فرغ وشيكاً من الصلاة ، فأدى
المكتوبة .
ثم مضى نحو الضريح الشريف فسلم على رسول الله صلوات الله
وسلامه عليه.
ثم انثنى نحو الروضة المطهرة ، فقد كانت في فؤاده أشواق إليها،
وحنين إلى الصلاة فيها .
فتخير لنفسه مكانا في رحابها النضرة .
ثم جعل يتنفل ، فصلى ما شاء أن يصلي ، ثم دعا بما ألهم أن يدعو .
ولما هم بمغادرة المسجد ؛ وجد باحته قد غصت على رحبها بمجلس
من مجالس العلم لم يشهد له نظيراً من قبل .
ورأى الناس قد تحلقوا حول شيخ المجلس حلقة إثر حلقة ،حتى لم
يتركوا في الساحة موطئاً لقدم .
وأجال بصره في الناس ؛ فإذا فيهم شيوخ معممون ذوو أسنان ..
ورجال متوقرون تدل هيئاتهم على أنهم ذوو أقدار ...
وشبان كثيرون قد جثوا على ركبهم ، وأخذوا أقلامهم بأيديهم ، وجعلوا
يلتقطون ما يقوله الشيخ كما تلتقط الدرر ...
ويحفظونه في دفاترهم كما تحفظ الأعلاق النفيسة .
وكان الناس متجهين بأبصارهم إلى حيث يجلس الشيخ ، منصتين إلى
كل ما يلفظ من قول حتى لكأن على رؤوسهم الطير ..
وكان المبلغون ينقلون ما يقوله الشيخ فقرة فقرة ، فلا يفوت أحداًشيء
من كلامه مهما كان بعيداً .
وحاول فروخ أن يتبين صورة الشيخ ...فلم يفلح لموقعة منه ، وبعده عنه .
لقد راعه منه بيانه المشرق ، وعلمه المتدفق ، وحافظته العجيبة .
وأدهشه خضوع الناس بين يديه .
وما هو إلا قليل حتى ختم الشيخ مجلسه ونهض وافقاً ...
فهب الناس متجهين نحوه ، وتزاحموا عليه ، وأحاطوا به ، واندفعوا وراءه
يشيعونه إلى خارج المسجد .
وهنا التفت فروخ إلى رجل يجلس بجانبه وقال :
قل لي - بربك - من الشيخ ؟!.
فقال الرجل باستغراب : أولست من أهل المدينة ؟.
فقال فروخ : بلى .
فقال الرجل : وهل في المدينة رجل واحد لا يعرف الشيخ؟!.
فقال فروخ : اعذرني إذا كنت لا أعرفه .
فلقد أمضيت نحواً من ثلاثين عاماً بعيداً عن المدينة ، ولم أعد إليها
إلا الأمس ... فقال الرجل :
لا بأس ... اجلس إلى قليلاً أحدثك عن الشيخ .
ثم قال :
إن الشيخ الذي استمعت إليه سيد من سادات التابعين ، وعلم من أعلام
المسلمين .
وهو محدث المدينة ، وفقيهها، وإمامها بالرغم من حداثة سنه .
فقال فروخ : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ...
فأتبع الرجل يقول :
وإن مجلسة يضم -كما رأيت- مالك بن أنس ( صاحب المذهب المعروف)، وأبا حنيفة النعمان،
ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وسفيان الثوري ، وعبد الرحمن بن
عمروالأوزاعي ، والليث بن سعد ، وغيرهم وغيرهم .
فقال فروخ :
غير أنك ....
فلم يتح له الرجل فرصة لإتمام كلامه ، وأردف يقول :
وهو فوق ذلك كله سيد كريم الشمائل ، موطأ الأكناف ، سخي
فما عرف أهل المدينة أحداً أوفر منه جوداً لصديق وابن صديق ...
ولا أزهد منه في بقاع الدنيا ، ولا أرغب منه بما عند الله .
فقال فروخ : ولكنك لم تذكر لي اسمه .
فقال الرجل : إنه ربيعة الرأي .
فقال فروخ: ربيعة الرأي ؟!.
فقال الرجل : نعم إن اسمه ربيعة ...
لكن علماء المدينة وشيوخها دعوة ربيعة الرأي لأنهم كانوا أذا لم يجدوا
لقضية نصاً في كتاب الله أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لجؤوا إليه ...
فيجتهد في الأمر ..
ويقيس مالم يرد فيه نص على ما ورد فيه نص ..
ويأتيهم بالحكم فيما أشكل عليهم على وجه تركن إليه النفوس
وتطمئن له القلوب .
فقال فروخ في لهفه : ولكنك لم تنسبه لي ( اي لم تذكر نسبه لي ) ...
فقال الرجل :إنه ربيعة بن فروخ المكنى بأبي عبد الرحمن ...
لقد ولد بعد أن غادر أبوه المدينة مجاهداً في سبيل الله .. فتولت أمه
تربيته وتنشئته..
ولقد سمعت الناس قبيل الصلاة يقولون :
إن أباه عاد الليلة الماضية
عند ذلك تحدرت من عيني فروخ دمعتان كبيرتان لم يعرف لهما الرجل
سبباً...
ومضى يحث الخطى نحو بيته ...
فلما رأته أم ربيعه والدموع تملأ عينيه قالت :
ما بك يا أبا ربيعة ؟.
فقال : مابي إلا الخير ...
لقد رأيت ولدنا ربيعة في مقام من العلم والشرف والمجد ما رأيته لأحد
من قبل .
فاغتنمت أم ربيعة الفرصة وقالت : أيما أحب إليك ...
ثلاثون ألف دينار أم هذا الذي بلغه ولدك من العلم والشرف ؟.
فقال : بل - والله- هذا أحب إلي ، وآثر لدي من مال الدنيا كله .
فقالت : لقد أنفقت ما تركته عندي عليه ...
فهل طابت نفسك بما فعلت ؟!.
فقال : نعم ...
وجزيت عني وعنه وعن المسلمين خير الجزاء .
ملاحظة
مقتبس من كتاب ( صور من حياة التابعين )
لمن أراد الإستزادة
للمؤلف الدكتور عبد الرحمن بن رأفت الباشا
رد مع اقتباس

المفضلات