وهذا نفي عظيم مؤكد بعدة مؤكدات: القسم بنفسه المقدسة، واشتراط ألا يبقى في النفس من حكم الله أدنى حرج (نكرة في سياق النفي فهي من صيغ العموم)، ثم تأكيد التسليم بالمصدر.
وقد ذكر حال من يتلكأ في الأخذ بما أمر الله به فقال في سورة النور:
وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون
[النور: 48].
قال الطبري في تفسيره (18/155): وإذا دُعِيَ هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله وإلى رسوله ليُحْكَم بينهم فيما اختصموا فيه بحكم الله إذا فريق منهم معرضون عن قبول الحق والرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . اهـ.
ثم بين الله ما في قلوبهم من الهوى فقال:
وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين
، ثم أنكر عليهم أشد الإنكار:
أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون
[النور: 50].
ثم أعقب ذلك بحال من يقابلهم وهم المؤمنون:
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون
[النور: 51].
وهذا التقسيم في الآيات يحصر الحال حيال أوامر الله تعالى في حالين فقط، فمن لم يكن كحال المؤمنين فلا مناص من وقوعه في زمرة المنافقين.
إن التسليم والإذعان والانقياد الذي يؤكده القرآن قد ضعف لدى كثير من المسلمين، وإليك صورًا واقعية لهذا الضعف:
1- عرض قضايا من الإسلام للحوار والمناقشة مع كونها من الأصول والثوابت، والمؤسف أن تكون الأطراف المتحاورة تنتسب إلى الإسلام والأمثلة من القنوات ومواقع الإنترنت لا تخفى.
2- استبدال المرجعية الشرعية بالمرجعية العقلية لدى البعض بحيث تجد المتحدث أو المتلقي لا يتردد في عرض الفتوى أو الحكم الشرعي على عقله دون مراعاة لما أمر الله به من التسليم ولقوله تعالى:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
[النحل: 43)).
3- التردد في الأخذ بالحكم الشرعي، وتلمس الأعذار للتخلي عنه أو الأخذ الصوري أو الناقص، ويدخل في ذلك تتبع الفتاوى المبيحة أو «تتبع الرخص».
4- ربما نسمع من البعض مقولة: «لا تقحموا الدين في كل شيء». وهذه مقولة خطيرة تنافي حقيقة الإسلام والتسليم له.
هذه المقولة قد نسمعها لفظًا وقد نلمسها واقعًا من فئات من الناس حين لا يرون الحاجة إلى السؤال عن حكم ما يفعلون لأنه- حسب اعتقادهم- لا صلة له بالدين فربما اعتقد بعضهم أو قال: هذا شأن طبي أو اقتصادي أو إعلامي أو سياسي وليس شأنًا دينيًا!!
ولكن على هؤلاء أن يسترجعوا ما تقتضيه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن مقتضاها هو الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والانقياد والتسليم وذلك في كل أمر دقيق أو جليل فهذا الدين شامل لكل شئون الحياة ولا يشذ عن ذلك شيء.
فما من فعل يقوم به الإنسان- أي فعل كان منفردًا أو مشتركًا- إلا وله في شرع الله حكم إما بالأمر به أو المنع منه أو الإذن به، والأمر به يشمل إيجابه أو استحبابه والمنع منه يشمل تحريمه أو كراهته والإذن به دون أمرٍ به أو منعٍ هو الإباحة.
والبعض يظن أن سكوت الشارع عن الحكم معناه عدم وجود الحكم الشرعي له، وهذا مجانب للصواب، إذ السكوت له عند العلماء أحوال، ولكل حال حكمها، وإنما يحكم بذلك علماء الشريعة دون غيرهم، وحتى لو اعتبرنا السكوت إباحة كما هي القاعدة الشرعية في جل الأحوال؛ فإنما هو حكم شرعي نتلقاه من الشرع وحده ويستنبطه حملته.
ولذا فمن اعتقد أو ظن أن من الأمور ما لا يدخله الدين كما يعبر بعضهم فقد اعتقد باطلاً وتقلد أمرًا خطيرًا.
كيف ذلك والله عز وجل يقول:
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين
[الأنعام: 162- 163]، فكل حركة وسكنة أمر الله أن تكون له ولا يقصد بها إلا وجهه.
ويقول سبحانه:
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء
[النحل: 89]، قال مجاهد وغيره: لكل شيء أمروا به أو نهوا عنه.
وقال صلى الله عليه وسلم : «تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك». رواه أحمد وابن ماجه عن العرباض بن سارية.
وقال أبو ذر: توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علمًا». أخرجه أحمد.
ولما سئل سلمان الفارسي رضي الله عنه: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، أو أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجي برجيع أو بعظم». الحديث أخرجه مسلم.

ومعنى
الإسلام هو الاستسلام لله والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك والبراءة من أهله، فالمسلم إذًا هو الذي لا يتقدم إلى أمر حتى يعلم حكم الله فيه فيقدم على بصيرة إن كان مأذونًا فيه أقدم وإن كان ممنوعًا منه أحجم، أما من لا يبالي وإنما همه أن يحقق ما يريد فهذا قد ناقض ما يتفوّه به من الشهادتين وما يدعيه من انتسابه لهذا الدين وأعظم منه خطرًا من إذا أخبر بحكم الله أعرض أو ادعى أن هذا لا دخل للدين فيه والعياذ بالله.
وحين يعلم المسلم حكم الله تعالى فليس له إلا الانقياد والتسليم، قال تعالى:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا
[الأحزاب: 36].
فنفى الله اختيار العبد وتقدمه بين يدي الله في الشرعيات كما ليس له ذلك في الكونيات كما في قوله سبحانه:
وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون
[القصص: 68]، وقال سبحانه: (((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ << [الأنفال: 24].

وحذر الله من مخالفة أمره فقال:
فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم
[النور: 63].
وتقدم ذكر آية النساء:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
[النساء: 65].
والتسليم يقتضي الأخذ بالمأمورات دون تفريق أو تبعيض وتجزئة، قال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين
[البقرة: 208].
قال السعدي في تفسيره 1/94: في السلم كافة أي في جميع شرائع الدين ولا يتركوا منها شيئًا وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه إن وافق الأمر المشروع هواه فعله وإن خالفه تركه، بل الواجب أن يكون الهوى تبعًا للدين وأن يفعل كل ما يقدر عليه من أفعال الخير، وما يعجز عنه يلتزمه وينويه فيدركه بنيته، ولما كان الدخول في السلم كافة لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال:
ولا تتبعوا خطوات الشيطان
. اهـ. وانظر تفسير الطبري 2/322.
وقال سبحانه:
أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون
[البقرة: 85].
المفضلات