(الفصل الأول)
كان ليل المدينة مشرقاً كالنهار ،فقد أضيئت سبلها بمصابيح صفراء قوية ،وشرّعت متاجرها الأبواب لكل سائح ،وانتقل الناس الراكبون من أطرافها حتى الوسط ،واجتمعت أنفاسهم وأبواق سياراتهم في مكان واحد ،وارتفعت أصواتهم تصرخ وتبكي..وتغني وتضحك ،في ليلة الحشر الصغرى. كانت مقاييس الحرارة في سياراتهم تشير إلى درجة غير عادية ،عجزت أجهزة التكييف على تبديدها ،فخلع نفر منهم بعض ما يستر بدنه ،وركن أكثرهم مركبته جانباً ،وكان بوسع من رآهم أن يلحظ احمرار وجوههم والعرق الذي يغشى جباههم ،من خلف زجاج نوافذهم التي انعكست عليها أضواء الطريق الفاقعة. كانت السماء خالية من النجوم..ولم يكن القمر حاضراً أيضاً ،فكان البشر وحيدين في ليلتهم المظلمة ،التي صنعوا لها شمساً لم ترشد حيرتهم ،ولا ءانست وجودهم ,ولم تكن لترحمهم.
كان يعبر الشارع على قدميه ،شيخ كبير ،يحمل بين يديه نسخة وحيدة من كتاب عريق ،كان بطيء الخطى يترنح في مشيته ،ويتوكأ على عكاز ثخين ،وكانت مصابيح السيارات تسطع بشدة لتبيْن عظامه البالية ولحيته البيضاء الطويلة. كان شاذاً وشارداً عما حوله ،فرأسه وعيناه اللتان لاتبصران إلا قليلاً من معالم الطريق ،يحملان هماً تستثقله ساقاه الضعيفتان ،وفي لحظة ،هب إلى جانبه طفل يركض بسرعة ،ومن الرصيف المقابل كان أحدهم يركض بسرعة أيضاً ،وتم اللقاء ،فتناثرت دماء الصغير في كل بقعة ولوثت قطرات منها ثوب الشيخ الناصع. وثب صاحب السيارة إلى الأرض وهو ينتفض ،وجعل يستنجد بالناس الذين أحاطوا بجثة الصبي ،أنبأه أحدهم أن الأمر قد فات ،وأن الطفل قد مات ،وأنه إن كان ذا شرف فليضع ثوباً على وجهه ،ولينتظر قدوم ذويه. إن الرجل المسن لم يتبين شيئاً مما حصل ولم يكن له في حاله هذا من حيله ،لذا فقد ارتحل بهدوء تاركاً إياهم في الطريق يتناحرون ويتشاورون ويسلي بعضهم بعضاً.
طرق الشيخ الأرض الصلبة بعصاه وقال بانفعال:"إنهم لايعلمون ..إنهم لايعلمون". كان الرجل العجوز الأعمى يرى شيئاً لايراه الناس ،إذ كانوا غافلين ،جاهلين ،لايدركون شيئاً ،لقد زار ليل المدينة زائر ،لم يره أحد ،ولم يكرمه أحد.
سلك الشيخ الطريق الوحيد الموصل إلى منزله ،كان يمتلأ بالأشواك والغصون اليابسة ،كانت أحواض النباتات التي تحيط بالمسكن خالية من أية ورقة ،لم يكن هنالك إلا التراب ،وقد كان يقول حين يعبر بها أحياناً:"منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى". ثم يضرب براحته على التراب ،ويحفر بإبهامه يلتمس الطين إن كان أصاب المكان وابل أو شيء من مطر ،فإن لم يكن ،كسائر الأيام في تلك المدينة ،فإنه يضرب التراب بيديه جميعاً حتى تتطاير حباته الجافة وتتشبث بلحيته ووجهه فيقول عندها:"سبحان من يحيي العظام وهي رميم..سبحان من يحيي العظام وهي رميم". ثم تهطل دموعه لتروي عطش ذلك المكان ،وتبعث الحياة الحقة - كما يراها الشيخ – في كل ميت. دفع الشيخ الباب بعصاه ،ثم ارتقى الدرجتين المنخفضتين فولج ،ولم يكن ليغلق الباب أبداً ،فكيف يمنع الخير عن سائله ،وكيف يعرض عن غوث عبد تقطعت به السبل !.. كان غرس العصا في الرخام الأغبر عملاً شاقاً للغاية ،فهي تكاد أن تقع في كل مرة لتميد به في فناء المنزل الصغير ،بحثت أنامله المتعرجة بارتعاش بين المفاتيح في جيبه ،وقبضت أخيراً على مفتاح مفرد يدور بحرية في حلقة حديدية ملساء ،أسند عكازه على الحائط وأمسك أكرة الباب بيده اليسرى ،ثم أخذ يتلمس ثقب المفتاح بأصابع منهكة ،مضى على وقوفه أمام الباب دقائق عديدة قبل أن يتمكن من إدارة المفتاح في القفل وفتح الباب.
كان المنزل هادئاً كما سكنه أول مرة ،خالياً من الأثاث والبسط إلا من خزانة خشبية قديمة قد أتت عليها دودة الأرض فجعلتها خربة لاتصلح لشيء ،وبعض الفرش المهترئة التي ألقيت دون نظام في زوايا البيت ،لم يكن للبيت رائحة واضحة ،بل كان ملجأ موحشاً يفتقر لأركان الحياة. دخل الشيخ مخدعه ثم خلع نعليه وتوجه إلى سجادة منضّدة موضوعة على السرير ،بسطها باتجاه معين وأخذ يتلو كلاماً حلواً آسراً ،بلسان عربي مبين ، كان حين يفتح كتابه الكريم تنتشر في الجو رائحة مختارة من أجود طيب ،كتلك التي يجدها حين تلتصق جبهته بالأرض في سجادته الفاخرة ،أما منزله الموحش وحديقته المقفرة ،فقد وجد فيهما الأنس والحياة بصحبة رفيقه الكريم. ختم صلواته ،ورفع مصحفه إلى كوة في الجدار ،كانت هي الجزء الوحيد الخالي من الغبار في ذلك المأوى ،إذ أن الشيخ ينظفها بخرقة يحتفظ بها هناك. كان يرفع ذراعه بمشقة إليها فينظفها ثم يحط كتابه الجليل فيها ،ويخلد للنوم.
إن الرجل المسن لا يطيل النوم أبداً ،فقد كان يصحو قبل الفجر كل ليلة ليتم صلاته التي بدأها أول الظلام ،وكان يقول بصوت جهوري حين يواجه صعوبة في الاستيقاظ :"تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً"..وما من ليلة لم يفلح فيها عمله هذا ،كان يؤمن بأن النوم إنما وجد لأجل تقوية الجسد وتصفية الذهن للقيام بالواجبات التي بعث لها. وكان الشيخ يقتص من ليلته ساعة يؤلف فيها الكتب التي يدفع فيها معرفته الزاخرة وخبرته الطويلة بين العلوم ،وحين تدق ساعته لتعلن موعد الفجر كان يقصد قبلته ويشرع في الصلاة. كان الشيخ يمتنع عن الطعام والشراب كل النهار ،يفعل ذلك أغلب الأيام ،فهو يؤمن أن الصوم عن الشهوات يقوي قلب المرء فيجعله متقنا لعمله الذي كلف به ،كان رجلاً لايعرف السعادة ولاتسيل دموعه تحت أي ظرف ،غير أنه يبكي في حجرته كبكاء الأطفال حين يبعثون إلى الحياة مادام قائماً يصلي ،هو امرؤ لم يغضب في حياته قط ،هو إنسان لم يكره لحظة قدره في أن يكون حياً ،هو رجل يكاد لايخطئ ،فهو يقيم الأمور بميزان الكتاب الحكيم ،ويرى الصواب فيما يراه ويرى الخطأ فيما يراه ،هو جسد طاهر لم يصب منكراً ولم يدنس بجريمة. هو قد شهد قرناً من الزمان ،لذا فلا أحد علم خبراً عنه في شبابه ،ولكن شيخا في الحي كان يقول في وصف شباب الشيخ الذي لم يدركه :"هو رجل بمقدوري أن أعهد إليه بابنتي..وأمضي في رحلتي دون أن أشعر بالقلق".
هم عظيم يقبض على فؤاده هذا الصباح ،أخذ يخط بعصاه الأرض المغبرة ،هي خطوطً لاتتصل وليس لها أية نهاية ،كان جالساً على عتبة الباب حين فعله هذا ،التزم الشيخ هذا السلوك إذا ما يضطرب أو يشعر بالحيرة.
لم يمكث الشيخ على حاله إلا قليلاً ،حيث دخل عليه الدار غلام حسن الوجه ،يظهر عليه أنه معتاد على المجيء في هذا الوقت ،ألقى التحية على الشيخ وقبل رأسه ،ثم ساعده على النهوض ،وقال متعجباً:
- ماعساه يكون أصابك ياعم ؟هل كنت تنزف بالأمس ؟
أجاب الشيخ برزانة.
- لم يخلق الوقت للعبث يا إلياس.
- إنني جاد بشأن الأمر..توجد قطرات من الدم على قميصك.
تجمد ساعد الشيخ فوق كتف الفتى وبرقت عيناه وقال بسرعة:
- إن كان الأمر كذلك فأتني بغيره..ولا تكثر الكلام.
قفز الصبي بنشاط واتخذ سبيله إلى غرفة الشيخ ،ألقى نظرة قصيرة على الكتاب في الكوة ،ثم سحب ثوباً من المشجب خلف الباب. سن الشيخ الكبيرة لاتجعله يأبه لحرارة الجو ، فلم تعمل الكهرباء في منزله إلا نزاراً ،فمنزله يبدو من عصر مضى لولا جدرانه الإسمنتية الحديثة. نفض الفتى الثوب بقوة أمامه فاندفع الهواء يحرك شعره وردائه ،فعل ذلك كثيرا ثم ساعد الشيخ في ارتدائه.
بدأ الشيخ دروسه مع أول قادم ،ووبخ بقية الشباب الذين أضاعوا الوقت في كسل على الفراش. كان يعظهم بصوت صارم يخيف الفتيان ويجعل جلودهم تقشعر،حتى يأخذ كل منهم على نفسه عهداً أن يقدم مبكراً ولو اضطر للطيران. ثم تلين جلودهم من بعد ذلك حين يبشرهم معلمهم بالخير والفتح القريب ،وحين يهنئهم أن عاشوا هذا اليوم ،وحيوا بسلام عقب الموتة الصغرى – وكان يعني بها الكرى الذي قد غشيهم – ثم يقرأ عليهم ليطهرهم من رجز الشيطان ،ويوجه أفكارهم ،ويفسر لهم. إن أيا منهم لم يكن ندا للشيخ ،ولايحلم أحدهم أن يكون في المستقبل كمعلمه ،جميعهم تمنى فقط أن يعرف المجرم الذي يهدده ،والذي وعد بالدمار لكل واحد منهم ،كانوا يعتبرون المعلم كنه مجهول ،ولا يرونه بشري مطلقا ،فهو يعرف كل شيء برأيهم ،ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ،لكن المعلم لم يدعهم في ضلالهم يعمهون ،بل قال بصوت مرتفع:
- إنه الله..إنه الله..هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء..
ثم بكى كالرضيع حتى بللت دموعه لحيته ،وقال بانكسار:
- أنا عبد ضعيف..أنا عبد ضعيف. حتى أشفق عليه تلاميذه ،وطرق الباب طارق عجول.
كان القادم رجلاً في منتصف العمر ،وقد كان يبدو أكبر من ذلك بعض الشيء ،حين رأى بياض الفتى وحسن ملامحه ،لم يكن بمقدوره أن يحتفظ بالغاية التي جاء من أجلها ،كان ثوب الغلام الأبيض يبدو متناغماً مع ثناياه اللؤلؤية التي تبرزها ابتسامته الدائمة ، وكان جبينه الأغر يظهر بتدرج من بين خصلات شعره السوداء الداكنة التي يرفعها الفتى بأصبعه بملل منتظراً بوح القادم عن سؤال أو هدف جاء به. كان الفتى يقف بالباب يرقب سيارة الضيف المتهالكة محاولاً أن يجيب السؤال بنفسه ،تأكد في سره أنه سائل يريد المال ،حياه بعد فوات وقت التحية وأخذه من يده إلى مجلس الشيخ. دخل الرجل والفتى إلى مجلس العلم المعقود ،فلم يلتفت أحد من الجالسين إليهم ،أجلس الشاب الضيف في بقعة على الأرض مقابل الشيخ ،وهمس إليه باحترام أن يكتم حاجته لحين انقضاء الدرس ،ثم أقبل بعد هنيهة يحمل بعض كؤوس زجاجية رصفت على لوح خشبي عريض ،وضعها الفتى على الأرض بطريقة استعراضية ،أثارت بعض الكؤوس فتمايلت على بعضها وتحدثت ،حتى اهتز حاجب الشيخ الكث الأبيض ،وكان هذا تحذيراً كافياً للفتى اللعوب.
أدرك الرجل الغريب أن الشخص الذي كان يسير إلى جانب طفله في ذلك الشارع لم يكن إلا شيخاً كبيراً ،وهكذا فلا توجد فرصة للظفر ببعض الحق في البحث حول رجل أشيب ،كان يتمنى وجود بعض خطأ يزج بالرجل الذي حدثوه عنه إلى الزنزانة. فكر باعتراض وهو يلحظ المعلم المسن بدءاً من شعره الأبيض ،ونزولاً إلى جبينه المتغضن وجسده الذاوي الضئيل ،فكر كم قد يكون شهد من السنين؟.. أيحق له أن يعمر سنة أخرى..وابنه بعد لم يعش سنته السابعة؟..لماذا لم يمت فداء لابنه؟.. لم يدرك المسكين أن قوة طفله قد جلبت له الموت!..وأن ساق الشيخ حمته من موت محدق!..
كان الرجل المعمر ذا حافظة فولاذية ،لم يخلق في شباب حاضره مثلها ،وربما ناظره رجل أو اثنان في زمن مضى ،حين لم تكن الروايات لتضبط ،ولم تكن الأحاديث لتتحد.
قد جعل الشيخ بعض الفتية يلمسون كتابه المبجل هذا اليوم ،تركهم يقلبون صفحاته بأيديهم العارية ،ويتساءلون عن ماهية كاتب هذه السطور ،ويتعجبون من فيض العلم الذي لم يعبر بهم يوماً من الأيام. كان التلامذة شغوفون بمعرفة كل جديد ،واكتشاف كل عجيب وفريد ،كانت ألسنتهم تعجز عن الجهر بما يقرؤون ،وحين يجربون ذلك يبدو حديثهم كحديث رجل ذو لسان كليل ،أو رجل أثقل العمر لسانة فإنه لايقدر على الفصح إلا قليلاً ،لقد صاروا إلى ذهول وهلع ،وارتجت أركانهم فبدوا كمحتضر يرى الموت قاب قوسين أو أدنى منه ،وما أفزعهم أكثر وأوقع بعضهم إلا صوت الشيخ المهيب حين تلا عليهم بعض ماوجدوه في الكتاب ،كان الشيخ يقرأ عليهم كلما عبروا آية بأبصارهم ،فيجدوه مطابقاً لما يقرؤون ،رغم أن معلمهم كان معرضاً بعينه عنهم ،فضلاً عن كونه أعمى ،فلا أحد منهم فسر الأمر ،ولا أحد يعلم كيف يحدث ذلك!.
انسحب الرجل الزائر بهدوء من المكان ،وانفض المجلس ،وتفرق الجميع. لم يغش الزائر نوم في تلك الليلة ،وكان يتقلب في فراشه حتى الصباح. أقبل على زوجته حين كانت تعد بعض رقائق العجين في المطبخ ،قالت له بصوت يموجه الألم:"طاب صباحك".رد عليها بغير اهتمام حين كان يلوك قطعة خطفها مما تصنع ،ثم قال لها بصوت متعب :
- أين تعتقدين ابننا ذهب؟
نظرت إليه بحنان ،وأيقنت أنه لم يتجاوز محنته بعد. أجاب سؤله بنفسه فقال:
- إلى رمس تحت الأرض. ثم قال بعد مدة:
- على الأقل لا أزال أعتقد ذلك.
أجابته وهي تحل عقدة في حزام إزارها :
- هل رأيت مصيراً مخيفاً ليلة البارحة؟
- نعم رأيت شيئاً كذلك.
اقتربت منه وألقت كفيها على منكبيه وهمت بمعانقته ،لكنه أبعدها عنه وأدار جسدها حتى تحول قفاها إليه ،وشرع يحل الحزام وهو يردد:"لا أقسم بيوم القيامة ،ولا أقسم بالنفس اللوامة ،أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ،بلى قادرين على أن نسويّ بنانه".ثم اعتدل قائماً وقال لها.
- من تعتقدين قال هذا الكلام؟
قالت بسرعة وبدون تفكير:
- شاعر أو كاهن..ثم ما علمك هذا الكلام؟..أهي رؤياك العجيبة..أم هو خيالك الرحب؟
سكت ولم يعقب ،ثم أطلق زفيراً طويلاً ،وشد قوامه وتحرك خطوتين وقال بوثوق:"بل هو نبأ عظيم ،لايمكن لبشر أن يعلمه".
كان الزوجان يحسان بحزن عميق ،فالأب يقويه الغضب ،والأم يشد من أزرها صنع الرقائق وتقطيع الخضار ،والأهل والأقارب يتفوهون بكلمات العزاء التي لا تغير مجرى الأحداث ،ولاتعد بشي محدد ،كل الحقيقة أن الطفل الذي مازال في ثلاجة المستشفى غادر جسده شيء لن يعود.
إلى الفصل الثاني بإذن الله

رد مع اقتباس

المفضلات