الكاميرا الخفية
_ تقارير المتابعة يا سيادة الرائد.
رفع رائد الشرطة عينيه متسائلًا:
_ هل من جديد؟
رد عليه الضابط:
_ لا، ما من شيء يستحق الذكر، كل الأمور على ما هي عليه.
وصمت للحظات، ثم تابع وصوته يحمل رنة إعجاب واضحة:
_ منذ قدومك إلى هنا، شعرت هذه القرية بالأمان، قبل ذلك كانت مسرحًا للُّصوص، وما إن أتيت أنت ولمس الجميع حزمك وصرامتك حتى تغير الوضع تمامًا، إننا لم نسمع عن محاولة سرقة واحدة منذ أربع سنوات كاملة، وهذا كله...
قاطعه دخول ضابط آخر في تلك اللحظة، صائحًا في انفعال رهيب:
_ محاولة سرقة، مسلحون اقتحموا تعاونية المواد الغذائية الكبرى!!
واتسعت أعين الجميع في ذهول.
***
كان الرائد أول من أفاق من حالة الدهشة، فأخرج مسدسه من درج مكتبه صائحًا:
_ فليستعد الجميع فورًا، جهزوا السيارات.
تحول المركز إلى خلية نحل نشطة في لحظات، فيما رمق الرائد ضابطه بنظرة غاضبة، وقال متهكمًا:
_ تصلح لأن تكون حسودًا درجة ممتازة يا هذا!! الثامنة مساء وسطو مسلح!!
هتف أحد الرجال يعلن أن كل شيء بات جاهزًا، فأسرع الجنود والضباط خلف الرائد لينطلقوا إلى موقع الجريمة، وكلهم غضب واستنكار، وكلهم يتمنى أن يقع هؤلاء اللصوص في قبضته، حتى يريهم عاقبة فعلتهم هذه، إذ لم يكن أحدهم ليرضى بأن ترجع حالة القرية إلى ما كانت عليه أيام زمان قبل مقدم هذا الرائد الصارم الحازم...
ولعل أكثرهم غضبًا كان الرائد نفسه الذي قاد سيارته بسرعة جنونية، وهو يقسم على تلقين هؤلاء اللصوص درسًا قاسيًا للغاية يجعلهم عبرة لمن يعتبر، كي لا يفكر أي ضعيف نفس في اقتحام منطقته الأمنية مرة أخرى وتدنيسها بجرائمه...
وما إن وصل الرائد حتى قفز من السيارة، واندفع داخل المحل التجاري الذي يحمل اسم (التعاونية الكبرى)، صائحًا في صرامة:
_ استسلموا أيها الأوباش!!
تنهد صاحب المحل في لهفة، فيما نظر المسلحون إلى الرائد بدهشة، وسأله أحدهم:
_ من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟
صرخ الرائد في وجهه:
_ لا تكن صفيقًا وإلا قطعت لسانك! أنا من يوجه الأسئلة إليكم يا أنذال!!
صاح به رجل ثان:
_ لم تسبَّنا؟ ماذا فعلنا لك؟!
وتمتم الثالث محتارًا:
_ هل أنت رجل شرطة حقًا؟
شعر الرائد أنه مجنون يشتهي أكل لحوم البشر!!
لكنه تمالك أعصابه في اللحظة الأخيرة، وإن لم يفقد لهجته الغاضبة وهو يقول:
_ لصوص وتتمتعون بالوقاحة؟! بالتأكيد أنا رجل شرطة، وهذا هو الدليل قادم إليكم بعد لحظات.
توقفت في تلك اللحظة سيارات الشرطة أمام المحل، ونزل منها الرجال مصوبين أسلحتهم إلى اللصوص، فابتسم الرائد قائلًا:
_ ما رأيكم الآن؟
تبادل اللصوص نظرات حائرة، ثم قال أحدهم:
_ لقد فشلت الحلقة، أتمنى أن يكونوا قد أوقفوا التصوير!!
شعر رجال الشرطة بالدهشة لما يسمعون، وفي حذر تساءل الرائد:
_ ماذا تعني بكلامك هذا؟
أشار الرجال إليه لينظرإلى خارج المحل، حيث وقف عدد آخر من الرجال يحملون كاميرات تصوير، وفي يد أحدهم (ميكروفون) عليه اسم محطة تلفزيونية شهيرة، فابتسم رجال الشرطة قائلين معًا:
_ الكاميرا الخفية؟؟
أومأ الرجال برؤوسهم إيجابًا، وهمُّوا بالانصراف، فهتف بهم الرائد:
_ مهلًا، توقفوا.
نظر الجميع إليه في تساؤل، فتابع في عصبية:
_ أنا أتابع كل حلقات الكاميرا الخفية على محطتكم، وأحفظ وجوه الفريق جيدًا، أما أنتم فلم أركم من قبل.
قال حامل الكاميرا في هدوء:
- هذا هو السبب، الفريق الأول تحول إلى ورقة محترقة، الجميع بات يعرفه، نحن الفريق الجديد.
وأضاف حامل (الميكروفون):
- لكننا فشلنا في أول محاولة على ما يبدو أيها الشرطي.
ابتسم الرائد ابتسامة واسعة، واندفع يصافح الرجال في حرارة، وأخذ رجال الشرطة ينظرون إلى الكاميرا مبتسمين، وهم يعدلون من هندامهم، وفي ودٍّ قال لهم الرائد:
- أنتم لم تفشلوا، في إمكانكم إعادة المحاولة، ما المانع؟
رد أحدهم في عتاب:
- نعيد المحاولة؟ صاحب المحل بات يعرف أن هذا مقلب، كيف سيؤدي دوره كإنسان يتعرض للسرقة بالفعل!!
أجاب الرائد في هدوء:
- أعيدوها في متجر آخر.
سأله صاحب الكاميرا:
_ وماذا لو تدخلت الشرطة مجددًا؟ وأين ذلك المتجر الفخم الذي يصلح؟
قال الرائد في حسم:
_ اطمئن لن تتدخل الشرطة، أما بالنسبة إلى البرنامج فتعالوا معي.
ومشى ليبتعد بهم قليلًا، ثم أشار إلى محل لبيع الذهب قائلًا:
_ أظن أنكم لو حاولتم مع هذا، فالحلقة ستكون أقوى.
هتفوا بصوت واحد:
_ فكرة رائعة!!
واندفعوا يصافحونه في حرارة، وغمز له صاحب الكاميرا بعينه قائلًا:
_ ستكون أول من يشاهد الحلقة بعد التصوير.
ابتسم الرائد ابتسامة واسعة للغاية، وأومأ برأسه إيجابًا، ثم انصرف إلى حيث ترك رجاله لينصرف معهم...
كان يشعر بالارتياح الشديد...
ستحافظ القرية على نظافة سجلها الأمني...
طالما هو موجود.
***
استيقظ الرائد صباح اليوم التالي على يد غليظة تهزه، ففتح عينيه دهشًا، وقرر أن يعاقب الفاعل، وقبل أن يصرخ في وجهه، انتبه إلى حقيقة الأمر...
إنه محاط بفريق من رجال الشرطة المركزية...
وأقلهم رتبة يعلوه بدرجتين أو ثلاث...
فاعتدل متسائلًا في توتر:
_ ماذا حدث؟
رمقه الجميع بنظرة قاسية للغاية، ثم قال أحدهم في صوت بارد كالثلج:
_ ألا تعلم ماذا حدث؟ حدث أن (حاميها حراميها) يا رجل!!
أكمل ثان بلهجة تجمع بين الازدراء والقسوة:
_ أإلى هذا الحد أنت مستهتر وغبي؟ وخائن للأمانة!! كم بلغت حصتك يا رجل من الدولارات؟
لم يعد الرائد يدري إن كان مستيقظًا أم أنه يحلم بكابوس ثقيل للغاية!!
وبمنتهى الحيرة أخذ يتساءل:
_ ماذا تعني؟ ماذا تقصد؟ ماذا حدث؟
أجابه أكبرهم رتبة:
- نعني ونقصد ما حدث!! حدث أن صاحب محل الذهب رآك تسير مع بعض الرجال وتشير لهم إلى محله، بل إنك صافحتهم على باب المحل وغمز لك أحدهم بعينه وأنت تهز برأسك كالمساطيل يا هذا.
شعر الرائد بالارتياح هنا...
لا مشكلة إذًا في ما هنالك...
إنهم أصحاب(الكاميرا الخفية)، و...
وفي اللحظة التالية كاد قلب الرائد يتوقف عن النبض!!
فلقد تابع القائد في غضب رهيب:
_ وبعد انصرافك دخل الرجال المحل ليضع بعضهم المسدسات في رأس الرجل، بينما قام الباقون بإفراغ المحل من كل المجوهرات والحلي الذهبية التي فيه، واستولوا على كل الدولارات، وحتى ساعة البائع سرقوها من يده!!
واتسعت عينا الرائد عن آخرهما...
لقد خدعه الرجال خدعة ماكرة جدًا...
وبينما كانت القيود تحيط بمعصميه...
ليخرج من القسم، والرجال يدفعونه في غلظة كأي مجرم...
كان هناك خاطر عجيب يعتمل في ذهنه...
لقد صدق الرجال على كل حال...
فها هو مقلبهم قد نجح بوضوح تام...
ما يجعلهم بحق أصحاب تلك الكاميرا...
الكاميرا الخفية.
الكاتب: د. عمر قزيحه
تاريخ الكتابة: 1997 (والله أعلم)
رد مع اقتباس





المفضلات