إختبار الفجر
فما أسهل أن ينطق اللسان بكلمة الإسلام، ولكن ما أصعب أن يترسخ الإيمان في قلب الإنسان.. [قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم]
كثيراً ما يتنافى كلام اللسان مع إيمان القلب.. كما أن كثيراً ما يتنافى كلام اللسان مع أفعال الجوارح.. والمؤمن الصادق هو من وافق قوله عمله، وهو من أظهر بلسانه ما يخفي في قلبه.. أما المنافقون فظاهرهم قد يكون حسناً وطاهراً،ولكن قلوبهم قاسية كالحجارة أو هي أشد قسوة..
والله سبحانه وتعالى مطلع على القلوب.. ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم المنافق من المؤمن، والكاذب من الصادق.. لكنه شاء سبحانه وتعالى أن يفرض على عباده اختبارات معينة تكشف سرائر القلوب وخبايا النفس، وتوضح أولئك الذين قالوا ما لا يفعلون، أو اعتقدوا ما لا يظهرون..
وغرض إظهارهم أنه سبحانه وتعالى يقيم الحجة عليهم فلا يشعر أحدهم يوم القيامة بظلم ولا هضم.. فإنه قد وضع له اختبار واضح فرسب فيه.. كما أن الله عز وجل أراد بهذه الاختبارات أيضاً أن ينقي صف المؤمنين من المنافقين رحمة من الله عز وجل بالصف المؤمن.. لأن اختلاط المنافقين بالمؤمنين يضعف الصفوف، ويسبب الاضطراب، ويجلب الهزائم والنكسات..
قال سبحانه وتعالى في حق المنافقين:ـ
[لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة، وفيكم سماعون لهم، والله عليم بالظالمين]
فرحمة الله عز وجل بالصف المؤمن اقتضت أن يفرض هذه الاختبارات للتفرقة بين المؤمنين والمنافقين، وبين الصادقين والكاذبين..
هذه الاختبارات سنة إلهية ماضية، وضعها الله عز وجل لكل البشر بلا استثناء، منذ خلق الله آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة..
[ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين]..
ولهذه الاختبارات خصائص معينة..
فأولاً يجب أن يكون الاختبار صعباً.. لأنه لو كان سهلاً لنجح فيه الجميع: المؤمن والمنافق.. ولم تحدث التفرقة المطلوبة..
وثانياً - على الناحية الأخرى - يجب ألا يكون هذا الاختبار مستحيلاً.. لأنه لو كان مستحيلاً لفشل فيه الطرفان.. المؤمن والمنافق..
ولذلك فالاختبار لابد أن يكون متوازناً.. صعباً بالدرجة التي لا يقوى فيها المنافقون على النجاح فيه، وغير مستحيل لكي يعطي الفرصة للمؤمنين أن ينجحوا..
واختبارات الله عز وجل للخلق كثيرة ومتعددة ومستمرة منذ أول لحظات تكليف الإنسان وإلى يوم مماته..
ـ فالجهاد في سبيل الله اختبار.. نعم هو اختبار صعب، ولكنه ليس بمستحيل.. ينجح فيه المؤمن، ويتخلف عنه المنافق..
ـ والإنفاق في سبيل الله اختبار.. اختبار صعب ولكنه ليس مستحيلاً.. يقدر عليه المؤمن، ولا يقدر عنه المنافق..
ـ وحسن معاملة الناس اختبار..
ـ وكظم الغيظ اختبار..
ـ والرضا بحكم الله عز وجل اختبار..
ـ وبر الوالدين اختبار..
ـ وهكذا..
الحياة كلها - بهذا المفهوم - اختبار..
يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
[الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور]
وتتفاوت درجات الصعوبة بين الاختبارات المختلفة.. ولكنها في النهاية اختبارات.. ومطلوب من المؤمن أن ينجح فيها كلها ليثبت صدق إيمانه، وتوافق لسانه مع قلبه..
ومن هذه الاختبارات الخطيرة اختبار صلاة الصبح..
اختبار حقيقي.. واختبار صعب.. لكنه ليس مستحيلاً..
الدرجة النهائية في هذا الاختبار بالنسبة للرجال تكون بالمواظبة على صلاة الفجر في جماعة في المسجد، أما بالنسبة للنساء فتكون بالصلاة على أول وقتها في البيت..
والفشل في هذا الاختبار الهام يكون بخروج الصلاة عن موعدها الذي شرعه الله عز وجل..
وبين النجاح بتفوق والرسوب في الاختبار درجات كثيرة..
هناك من يصلي معظم الصلوات في المسجد ويفوته بعضها..
وهناك من يصلي بعض الصلوات في المسجد ويفوته معظمها..
وهناك من يصلي في بيته قبل خروج الوقت..
وهناك من تفوته الصلاة في بيته ولا يصلي إلا بعد خروج الوقت..
درجات كثيرة متفاوتة.. ولكن يبقى النجاح المطلوب هو صلاة المؤمن في المسجد في أول الوقت..
هذا الاختبار هام للدرجة التي جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخدمه دائماً للتفرقة بين المؤمن والمنافق..
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار
ولكم أن تتخيلوا عظم المشكلة، وضخامة الجريمة التي تدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم - مع رحمته وشفقته على أمته - لأن يهم بتحريق بيوت هؤلاء..
ولكني ـ والله ـ أرى أنه من رحمته وشفقته قال هذه الكلمات.. لأنه يريد أن يستنقذ أمته من نار الآخرة بتخويفهم بنار الدنيا.. وشتان بين نار الآخرة ونار الدنيا..
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شك في إيمان رجل بحث عنه في صلاة الفجر فإن لم يجده تأكد عنده الشك الذي في قلبه..
روى ذلك أحمد والنسائي والدارمي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم قال:
أشهد فلان الصلاة؟ قالوا لا، قال: ففلان، فقالوا: لا.. فقال: إن هاتين الصلاتين (الصبح والعشاء) من أثقل الصلاة على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبو
والمنافقون لا يدركون الخير الذي في صلاة الصبح في جماعة المسجد.. ولو أدرك هؤلاء هذا الخير لجاءوا إلى المسجد تحت أي ظرف.. كما قال صلى الله عليه وسلم لأتوهما ولو حبواً ..
وأريدك أن تتخيل رجلاً كسيحاً لا يقوى على السير، وليس هناك من يعنيه على الحركة، ومع ذلك فهو يصر أن يأتي المسجد يزحف على الأرض ليدرك الخير الذي في صلاة الفجر في جماعة.. فإذا أدركنا هذه الصلاة ثم نظرنا إلى الأصحاء الذين يتخلفون عن صلاة الفجر في المسجد أدركنا عظم المصيبة!!
وليس معنى هذا بالطبع أن نتهم أولئك الذين لا يحافظون على صلاة الفجر في المسجد في زماننا هذا بالنفاق.. فأنا لست ممن يقيمون الأحكام على غيرهم، والله أعلم بظروف كل مسلم.. ولكني أذكر ذلك الكلام ليختبر كل منا نفسه.. وليختبر أحبابه وأصحابه وأولاده وإخوانه..
إن كان المرء يهدر هذه الصلاة بصورة منتظمة فهذه علامة واضحة من علامات النفاق.. ومن كانت به هذه العلامة فليراجع نفسه بسرعة.. فإنه ـ ولا شك ـ يخشى عليه من خاتمة السوء..
نسأل الله العافية والسلامة وحسن الخاتمة لنا ولسائر المسلمين..
يتـــبع إن شاء الله
المفضلات